توالت طيلة الأسبوع الماضي تعليقات وإشاعات عن وجود عرض لحزب العدالة والتنمية بالمشاركة الحكومية، حيث اشتغلت جهات ومنابر في البحث عن حيثيات هذا العرض المزعوم، والخلفيات الكامنة وراءه، ونوعية التحالفات المؤطرة له، مع التركيز على العلاقة بين كل من الاتحاد الاشتراكي، وحزب العدالة والتنمية، وعلاقة ذلك بالانتخابات التشريعية المقبلة، وتزامن ذلك مع صدور بيان سياسي للأمانة العامة للحزب، تطرق فيه للوضعية الراهنة وجدد فيه مواقفه من العمل الحكومي والحالة السياسية بالبلاد، حيث تم توظيف البيان لاستنتاج وجود استعداد سياسي عند الحزب للمشاركة، كما جرى استثمار نص التصريح الذي عبر فيه الأمين العام للحزب سعد الدين العثماني والذي قدم فيه موقفا إيجابيا في العلاقة مع حزب الاتحاد الاشتراكي وبقية القوى الحزبية بالبلاد، ولم يقتصر الأمر على الساحة الإعلامية، بل تعداه لمستويات أعلى في الساحة السياسية، ويستقطب انشغالا مقدرا بهذا الملف فاق معه الانشغال بقضايا الدخول السياسي الأخرى. تقدم تفاعلات هذا الحدث نموذجا مصغرا لحالة الارتباك المتنامية في الحياة الحزبية، وتتيح تحليل جانب من الاختلال السياسي الراهن في علاقته بحزب العدالة والتنمية، ذلك أن المؤشرات المقدمة في القراءات المتفائلة بمشاركة حكومية للحزب تركز على ثلاث محاور، فمن جهة أولى تربط ذلك بالعمل على تحجيم القوة السياسية والانتخابية للحزب حتى لا يتغول أكثر في الانتخابات التشريعية المقبلة، ومن جهة ثانية تحيل على أزمة البنية الحزبية وعجزها عن الإضطلاع بأدوارها، في الوقت الذي يبين فيه الحزب عن حضور وفعالية ميدانية لافتة، ومن جهة ثالثة، يتم التذكير باستمرار أزمة العمل الحكومي رغم التعديل الذي تم في بداية الصيف، في وضعية يهيمن فيها الحزب على موقع المعارضة، مع تحسن علاقته مع عدد من الأطراف المشاركة في الحكومة وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي. ودون الإحالة على النفي الرسمي لقيادة الحزب لوجود أي عرض بالمشاركة الحكومية، تعتبر الحيثيات الثلاث المقدمة قاصرة عن الإقناع بمزاعم المشاركة الحكومية للحزب، بل إنها في العمق تخفي حيثيات، ودوافع أخرى وراء إثارة هذا الموضوع في هذا التوقيت، والسعي لتغذيته وتضخيمه كأنه حدث الدخول السياسي الحالي، بما يقدم نموذجا عن الصناعة الإعلامية للمواقف واستدراج الآخرين لها، ذلك أن متابعة مسار التناول الإعلامي لهذا الموضوع، يطرح أسئلة عدة حول الهدف منها؟ وما علاقتها بالتوجهات المهيمنة في الحقل السياسي والحزبي؟ حيث يلاحظ منذ مدة تبلور ثلاث توجهات، فمن ناحية نجد أطرافا حكومية غير راضية عن موقعها في التعديل الحكومي الأخير، تعمل على استثمار ورقة العدالة والتنمية للمزايدة بتحالف مزعوم معها، بغية خلق شروط لمراجعة موقعها في التركيبة الحكومية وتحسينه، وخاصة على صعيد القطب الحركي. وهناك من ناحية ثانية المسعى المتزايد لتوجه مناهض لحزب العدالة والتنمية يعمل على إدامة توظيفه كفزاعة في الحياة الحزبية والسياسية من أجل استدراج هذا الطرف أوذاك لموقف أو خيار محدد، واستعادة الحديث عن الخطر الإسلامي الانتخابي أو الحكومي بما يساعد على فرز وتكوين تحالفات سياسية حزبية تساير مطلب هيكلة المشهد الحزبي، وفق أقطاب محددة وفي الوقت نفسه تفعيل خيار عزل حزب العدالة والتنمية عن سيرورة التحالفات والتكتلات الحزبية، ولعل من المفيد التذكير بأن عددا من التحالفات الحزبية الناشئة حديثا استعملت هي الأخرى هذا المنطق لتسوية الخلافات وتسريع مسلسل التحالف فيما بينها، فضلا عن الانخراط في إحياء تحالفات قديمة فقدت حيويتها السياسية، وتعطل الاشتغال من خلالها منذ سنوات كما هو الشأن مع الكتلة الديموقراطية، هذا في الوقت الذي ينبغي أن يرتكز التحرك لإصلاح الحياة الحزبية على مبررات موضوعية تنطلق من الحاجات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية للبلاد، وليس من أجل التحالف ضد هذا الطرف أو ذاك، أما التوجه الثالث، والمرتبط بما سبق، فيتمثل في إرادة تعميق حالة الانتظارية في الحياة السياسية ورهنها بتعديل حكومي آخر بعد أن استغرق مشروع التعديل الأخير حوالي سنة من الأخذ والرد، وهو توجه يتحمل المسؤولية الأكبر في استمرار أزمة الحياة الحزبية في وقت يصر على توجيه النقد لها وتحميلها المسؤولية عن الوضع الحالي. لقد أثار هذا الموضوع ردود فعل متباينة، كشفت عن حجم التخبط الحاصل في منهج التعامل مع حزب العدالة والتنمية، والقصور في تدبير العلاقة معه وفق القواعد الديموقراطية، وهو تخبط برز منذ تشكيل حكومة ادريس جطو الأولى بعد الانتخابات التشريعية لشتنبر ,2002 وانكشاف تركيبتها الواسعة، وكأن هناك إرادة لتكتيل الطبقة الحزبية والسياسية ضد الحزب، فضلا عن كونها ضمت عناصر مناوئة بحدة لحزب العدالة والتنمية ومحسوبة على دعاة النهج الاستئصالي، وارتهن المشهد السياسي لحالة من المزايدة لدفع الدولة لاعتماد خط استئصالي انكشف بوضوح بعد تفجيرات 16ماي، حيث عمل على استغلال ورقة المسؤولية المعنوية للتمهيد لحل الحزب، وبسبب الفشل في ذلك جرى التحول نحو استراتيجية الإضعاف والتحجيم، والتي جاءت هي الأخرى بعد الانتخابات الجماعية لشتنبر 2003 وأبانت عن محدوديتها، سواء على مستوى مصداقية الحزب وقاعدته الشعبية، أو على مستوى علاقاته مع بقية الأحزاب، حيث نسج تحالفات عديدة أثناء تشكيل مكاتب المجالس الجماعية، أما مؤتمر الحزب في أبريل 2004 فقد كان هو الآخر محطة لتأكيد محدودية خيار الإضعاف، مع التنبيه إلى أن حزب العدالة والتنمية يقدم كحزب قوي وقادر على اكتساح لمجمل الخارطة الانتخابية، في حين أن الواقع الموضوعي يثبت أنه حزب متوسط، وحديث التجربة، وهو ما أكدته نتائج انتخابات 27 شتنبر ,2002 والتي لم تتجاوز نسبة المقاعد المحصل عليها 13 في المائة. ومع الدخول السياسي الحالي، يتكرر نفس الأمر عبر إثارة موضوع المشاركة الحكومية، حيث نلحظ جولة جديدة من ذلك، انطلقت بتغذية نزوعات الإقصاء والتهميش والعزل في مواجهة العدالة والتنمية، وهو ما يزيد من تعميق إشكالية موقع الحزب في الحياة السياسية عوض حلها. لقد سارعت بعض القراءات لتفسير نية البعض لإشراك الحزب في حكومة جديدة باستراتيحية تحجيمه قبل حلول موعد الانتخابات القادمة، والحاصل أن الإشراك يحمل هو الآخر مخاطر توسيع القاعدة الانتخابية للحزب، لاسيما من حيث مساعدته على استعادة النظرة الطبيعية للحزب في صفوف المجتمع، وتطبيع وجوده السياسي بشكل أوسع، بل وتأهيله للقيام بدور أكبر في حكومة ما بعد انتخابات ,2007 وهي المعطيات التي دفعت جهات عدة للوقوف في وجه المشاركة الحكومية للحزب في محطات سابقة، كما أن تجربة الانتخابات الجماعية لشتنبر 2003 أبانت عن إمكانية التفاهم مع الحزب لتقليصه حجم مشاركته دون حاجة لوجوده في الجهاز الحكومي، فضلا عن ذلك فإن الاستعداد العام للحزب لا يتجه نحو القبول بعرض من هذا النوع، بالنظر لتوقيته ولطبيعته، حيث لا يطرح ضمن تصور لمراجعة المنظومة المؤطرة للعمل الحكومي، والتي تجعل من أي مشاركة في هذا السياق عملية جزئية إن لم نقل شكلية. الواقع أن السجال الإعلامي الذي أثاره العرض المزعوم لمشاركة حكومية على حزب العدالة والتنمية يؤكد وجود أزمة في العلاقة معه، تدفع نحو استمرار التعامل معه كحزب استثنائي وغير عاد، يقتضي تدبير وضعيته تجاوز الآليات الديموقراطية والقواعد الناظمة للعملية الانتخابية، وهو ما يزيد من تأزيم هذه الوضعية لا حلها، ومعالجتها تتطلب بداية الإقلاع عن التعامل معه وفق المنطق السابق، و تأسيس علاقات طبيعية معه، ترتكز على حجمه الطبيعي كحزب عادي، وذلك وفق قواعد التعامل الديمقراطي عوض التأرجح بين التعامل معه كخطر انتخابي داهم، أو فزاعة في مواجهة غيره من القوى السياسية، مما لا يخدم بحال مسلسل الانتقال الديمقراطي والتحديث السياسي بالبلاد. مصطفى الخلفي