المقام الأول: غرائب التوشيح في نوادر الترشيح حدثنا من لا تخونه البديهة ولا حضور البال، عن شيخ من شيوخ الحال، أن فتية ممن يخشون على أنفسهم سوء المآل، شكوا إليه وقوع إخوان لهم في مستنقع السياسة، فاستبدلوا بالزهد شهوة السلطة والمال، وأبدلوا بشاشة وجوههم تجهما وشراسة.. وبعد أن أتم الفتية بيانهم والمقال، رد شيخنا مستحضرا فطنة وفراسة:" إن الماء إذا بلغ الصاعين لم تصبه النجاسة، فمن قال هلك الناس حرم نعمة الكياسة. والسياسة، ما السياسة؟ أليست قدرة على تولي تدبير الأمور؟ فمن طلبها بشهوة فضحه الله، ومن أرادها دون اقتدار أذله الله، ومن قبلها مع زهد به عن شهوتها، وقدرة له على ولايتها، أعزه الله بها وأعزها الله به". فتفرق الفتية على إثرها في الأقاليم والأمصار، بعد أن وضعوا اللوائح والمساطر، عسى الله أن يفتح على أيديهم ترشيد الاختيار، ويكفيهم شر الفجاءة والمحاضر.. فكان لكل منهم مفارقات ونظائر: فمنهم من شهد على شاهد من الشواهد، رجلا اعتاد لغة التحذلق والموائد، مفصحا منذ بداية أمره عن نيته وسره، قائلا: "قد علمتم أني لست صاحب نزوة ولا غواية، غير أني متيم إمارة ومغرم بالولاية، ولعمري إن تعدوا ذلك في منقصة، فجل من تنزه عن الخصاصة، فاغفروا لي عيبي و ناولوني منيتي، وليكن ذلك منكم كفاية، فإن تفعلوا سلمت لكم الرفادة والسقاية، وإلا فأذنوا بحرب من قبيلتي، تغمس سيوفها في جفنة الدم، وألسنتها في قصعة الوشاية .. آه .. فما ترون يا أهل الرواية والدراية ؟ " ومنهم من شهد على شبيه امرئ، تزاهد عن الولاية دهرا، وأقسم لا يمس لأجلها عطرا، وحين آن أوان الترشيح، عبأ صاحبنا قبيلة تتقن فن التواشيح، لتكفيه شر التعديل والتجريح، مصدرة إياه رأس اللوائح، ويا ليته اكتفى بذلك وأتم الصيام، وما أفطر شركا وكفرا، بل صاح في الناس نكرا: "لبيك يا شهوة الولاية، لبيك و لو جانبت لأجلك الهداية، بك أغامر و أصول، وفي سبيلك أحاضر و أجول.." ومنهم من غادر من الأخبار، وما تنتكس لفظاعتها الأعمار: حيث تقدم من رفعته رياح الأمواج، لينال ريادة الترتيب على سلم الإدراج... غير أنه أقبل بعدها على غريمه باكيا معزيا: بأنه لو كان آمرا أوناهيا لأهدى له مقعده مهديا، إلا أن عموم المناضلين، لا يرضون بغيره حاديا. ومضي ينظم في خصاله، من علوم البيان والتبيين، حتى أكمل من القصائد الستين، وما إن تولى إلى عشيرته، حتى كشف عن عقيرته، وأوغل في شماتته: >ألم أعدكم بالنصر المؤزر، على أخينا المبجل، حيث دارت عليه الدائرة، وأيقن ألا حظ له في الدائرة، لا في الدنيا ولا في الآخرة<. ومنهم من رأى ما رأى من الأحوال، فظن ما تراه واضرب الأمثال.. فيا أيتها الانتخابات الكاشفة لما خفي من الخلال، الفاضحة لما ألبس من السرائر والخصال، حياك الله من دابة جساسة، وحيى أمك السياسة. وهذا ما سدد الباري على يد عبده من السهام، فكلما جد في الحال مقام، إلا ولنا بإذنه تعالى فيه مقال. ماهر الملاخ