فن الخطابة ومهارات الإلقاء وتقنيات شد انتباه الجماهير وإعادة التموقع في المراتب والمناصب كلها آليات قد يحس بعض العاملين في الشأن العام بضرورة الأخذ بها، وقد يلجأ البعض الآخر للأسف الشديد للحيل واعتماد ترتيبات معينة، يسقطون من خلالها من حيث لا يشعرون في البحث عن الشهرة وحب الظهور، وينسون الرسالة والمضمون، لكن عبد الله بها رحمه الله كان من طينة أخرى تماما. لقد أعطى رحمه الله النموذج والمثال في التجرد ونكران الذات، إذ كان يتحفظ على فكرة ترميز الأشخاص من أصلها، أو الانشغال بالأشكال وبتقنيات وآليات الظهور والدعاية، حيث كان يرى رحمه الله أن بالدعاية لن يقوم أبدا مقام الحقيقة، وكان يؤمن رحمه الله بمضمون الآية الكريمة: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى"، وأن التكلف والبحث عن الشهرة لن يأتي إلا بالنتائج العكسية، التي تدفع ضحاياها للبحث عن الوجاهة والسقوط ربما في الغرور، فكان رحمه الله ينادي بترك الأمور على طبيعتها، لتعبر عن حقيقتها كما هي دون تكلف ولا تصنع. لم يبحث رحمه الله عن الشهرة والذكر الحسن بين الناس، ولم يشغل باله في البحث عن التموقع في المناصب والمراتب، في حياته قط، لكن الله سبحانه قدر أن يرفع مقامه وذكره بين الناس، وذلك ما أبانت عنه تلك الأجواء الخاشعة والمهيبة والحاشدة، التي جمعت الناس من كل الأطياف والأعمار والجهات، وأكدت أنه نجح بالفعل في حسن التموقع والتربع في قلوب الناس الذين يشهدون له اليوم في الدنيا قبل الآخرة على خصاله الحميدة، مجسدا مفهوم ومنطق الشهادة على الناس، مصداقا لقوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا"، فعلى قدر ما يلتزم الإنسان بأخلاق الشهود الحضاري ويجتهد في الانطلاق منها في سلوكه وتصرفاته، يكون الالتفات والعرفان لمدى ترسخها وعمقها عند ذلك الشاهد. لقد كان رحمه الله هو عبد الله بها، ولم يكن إلا عبد الله بها، وحين يجتهد كان يعمل على استخراج أحسن ما في عبد الله بها، ولم يبحث أن يكون غير عبد الله بها، فنسأل الله تعالى أن يرحمه برحمته الواسعة، وأن يسكنه فسيح جناته، ويثبتنا من بعده.