ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشهرة وحب الظهور يقسمان الظهور
نشر في أخبارنا يوم 04 - 02 - 2012


عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الإسلام بطبيعته المعتدلة يريد لأفراده أن يكونوا صالحين متوازنين لا يغترون بالدنيا أو تتعلق بها قلوبهم، فما مد أحدٌ عينيه إلى متاعها إلا واشرأبت نفسه وقارب الفتنة أو حام حول حماها، والسعيد من جعلها مطيةً للآخرة فصارت له دار ممر لا دار مقر، قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [131طه]، ومن الاغترار بالدنيا السعي خلف الشهرة وبريقها، فكثير من الناس تتوق نفسه إلى أن يُشار إليه بالبنان أو أن يكون هو حديث المجالس أو أن يُسمع قوله أو يُكتب، لذا قد يسعى بعضهم بكل سبيل إلى تحقيق ذلك ولو على حساب مخالفة الدين والأخلاق، إذ من خصائص الشهرة أنها تؤز المرء إلى المغامرة أزًّا، ويدعى إلى تبرير كل وسيلة موصلة إليها دعّا، وهنا مكمن الخطر ومحمل الشوك الذي لا ينتقش.
لذا؛ حذر الشرع المطهر من حب الشهرة والظهور الداعي النفوس المريضة إلى تعلق القلب بتأسيس بنيان السمعة على شفا جرفٍ هار أو الإعداد لرفع الظمأ من سراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
فقال تعالى معلمًا نبيه ×: {قُُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام162] "أي أن كل أعمالي ومقاصدي محصورة في طاعة اللّه ورضوانه، وعلى المسلم أن يكون قصده وعمله وكل ما يقدمه من عمل هو وجه اللّه تعالى، سواء في أثناء حياته، أو ما يعقبه من عمل صالح بعد مماته، هو للّه، وإلى اللّه، وفي سبيل اللّه، ولطاعة اللّه تعالى. فإذا كان لله لم يَبقَ فيه نصيب لغير الله"([1]).
لذا؛ حذر × من سوء الأخلاق التي يكون عملها وسعيها وقولها لغير الله، فقال ×: إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ([2]).
فهؤلاء الثلاثة وعملهم الجليل سواء كان الشهادة أو تعليم العلم أو الإنفاق في سبيل الله يُعد من أعظم الأعمال في ميزان الإسلام ولكنهم أحبطوا ثواب عملهم بسبب طلب الشهرة بين الناس وحب الظهور الذي يقسم الظهور، فكانوا أول من تُسَّعَرُ بهم جهنم، فهم حطبها الأول لأنهم أرادوا أن يكونوا أول الناس وعلى رأسهم، فعاقبهم الله بضد قصدهم، والجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد.
فالبحث عن الشهرة خلل في عقيدة التوحيد، وانقلاب في مفاهيم الغاية البشرية في الوجود، ونكسة في ترتيب الاهتمامات، فهو الصورة التطبيقية للرياء المحبط للأعمال في ميزان الشريعة.
وإذا كان قول النبي ×: "مَنْ لَبِسَ ثَوْب شُهْرَة أَلْبَسَهُ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة ثَوْب مَذَلَّة" يعني به لباس الشهرة المادي المصنوع من القماش، فإن غيره المسبب للشهرة داخل فيه أيضًا كالسيارة مثلاً، فعن شهر بن حوشب قال: من ركب مشهورًا من الدواب ولبس مشهورًا من الثياب أعرض الله عنه وإن كان كريمًا([3]).
كما أن اللباس المعنوي للشهرة يمكن أن يشمله الحديث من باب أولى، ومن أي نوع كان سواء لباس التقوى، أو لباس العلم أو لباس الزهد أو لباس الورع، وأي لباس معنوي يتدثر به الإنسان بين الناس يسبب له الشهرة وهو يقصدها ويتعمد أن يراه الناس بها، فقد َقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كُلّ شَيْء صَيَّرَ صَاحِبه شُهْرَة فَحَقّه أَنْ يُجْتَنَب([4]).
أما من اشتهر بالعلم والزهد والورع ونيته صالحة وعمله خالصًا لوجه الله فإنه خارج عن هذه الدائرة ولكن الواجب عليه أن يتفقد حال قلبه بين الفينة والأخرى.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يفرون من الشهرة وعدم الإخلاص لله في الأقوال والأفعال كما تفر الفريسة من الأسد، فهذا بُريدة بن الحصيب يقول: شَهِدْتُ خَيْبَرَ، وَكُنْتُ فِيْمَنْ صَعِدَ الثُّلْمَةَ، فَقَاتَلْتُ حَتَّى رُئِيَ مَكَانِي، وَعَلَيَّ ثَوْبٌ أَحْمَرُ، فَمَا أَعْلَمُ أَنِّي رَكِبْتُ فِي الإِسْلاَمِ ذَنْباً أَعْظَمَ عَلَيَّ مِنْهُ - أَيْ: الشُّهْرَةَ. ([5])
وهذا أبو عبيدة بن الجراح لما ذهب مددًا إلى عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل قال عمرو لأبي عبيدة والنفر الذين معه: أنا أميركم وأنا أرسلت إلى رسول الله × أستمده بكم، فقال المهاجرون بل أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أمير المهاجرين، فقال عمرو إنما أنتم مدد أُمددته، فما كان من أبي عبيدة في هذا الموقف إلا أن أخلاص لله وترك الشهرة ورآه ظهريًا وقال: والله يا عمرو إنك إن عصيتني لأطيعنَّك وسلم إليه الإمارة. ([6])
وهذا خالد بن الوليد عندما أمره عمر بن الخطاب الخليفة أن يترك قيادة الجيش لأبي عبيدة بن الجراح، قال: سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين وهذا موقف والله يُحسد عليه ولو تعرَّض له أحد القواد في هذا العصر وبشهرة سيف الله المسلول لما ترك قيادة الجيش ولما ترك هذه الشهرة بل انقلب على أميره وحاربه، ولكنه أبو سليمان؛ الإخلاص لله ولدينه والفرار من الشهرة وحب الظهور.
ومن العجب أن يحج مع النبي × ما يربو على مئة ألف صحابي فلم يقدر ابن حجر العسقلاني على قوة حفظه وسعة اطلاعه, ومهارة بحثه أن يجمع لنا في كتابه الإصابة أكثر من ثمانية آلاف صحابي فأين الباقون!. إنهم على منهاج قوله ×: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ([7])
ولو كانت الشهرة منقبة تتشوق لها النفوس الكريمة لأكرم الله بها سادة الدنيا من الأنبياء والمرسلين الذين بعث منهم ما يزيد على ثلاثمائة رسول، وأكثر من مائة ألف نبي، ورغم ذلك لم يحفظ لنا القرآن سوى أسماء خمسة وعشرين رسولاً لا غير.
وقد حذر سلفنا الصالح من حب الظهور والشهرة بين الناس لمن يسعى إليها ويجعلها هدفه، وتضافرت أقوالهم المحذرة من هذا الخلق الذميم، فهذا سفيان الثوري يقول: "إياك والشهرة؛ فما أتيت أحدًا إلا وقد نهى عن الشهرة.([8])وقال إبراهيم بن أدهم: "ما صدق اللهَ عبدٌ أحب الشهرة".([9]) وقَالَ أَيُّوْبُ السختياني: مَا صَدَقَ عَبْدٌ قَطُّ، فَأَحَبَّ الشُّهرَةَ. ([10]) وقال بشر بن الحارث: مَا اتَّقَى اللهَ مَنْ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ.([11]) وقال أيضا: إذا عُرفت في موضعٍ فاهرب منه، وإذا رأيت الرجل إذا اجتمعوا إليه في موضعٍ لزمه، واشتهى ذلك فهو يحب الشهرة. ([12]) وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: الخَيْرُ كُلُّهُ أَنْ تُزْوَى عَنْكَ الدُّنْيَا، وَيُمَنَّ عَلَيْكَ بِالقُنُوْعِ، وَتُصْرَفَ عَنْكَ وُجُوْهُ النَّاسِ. ([13])وجاء في ميراث صوفية السلوك والاعتدال قول أبي حمزة البغدادي الصوفي: عَلاَمَةُ الصُّوْفِيِّ الصَّادِقِ أَنْ يَفْتَقِرَ بَعْدَ الغِنَى، وَيَذِلَّ بَعْدَ العِزِّ، وَيَخْفَى بَعْدَ الشُّهْرَةِ، وَعَلاَمَةُ الصُّوْفِيِّ الكَاذِبِ أَنْ يَسْتَغْنِي بَعْدَ الفَقْرِ، وَيَعِزَّ بَعْدَ الذُّلِّ، وَيَشْتَهِرَ بَعْدَ الخَفَاءِ. ([14])وقال أبو بكر بن عياش: "أدنى نفع السكوت السلامة، وكفى بها عافية، وأدنى ضرر المنطق الشهرة، وكفى بها بلية".([15])
كما تضافرت أفعالهم في البعد عن الشهرة رغبة في ثواب الله عز وجل وإخلاصًا له، فعن صفوان بن عمر، قال: كان خالد بن معدان إذا عظمت حلقته (أي كثر تلاميذه في حلقة التدريس) قام فانصرف، قيل لصفوان: ولِمَّ كان يقوم؟ قال: كان يكره الشهرة.([16])
قال الذهبي معلقًا: ينبغي للعالم أن يتكلم بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت، فإن أعجبه الصمت فلينطق، ولا يفتر عن محاسبة نفسه، فإنها تحب الظهور والثناء([17])
وقال ثابت البناني: قال لي محمد بن سيرين: لم يكن يمنعني من مجالستكم إلا خوف الشهرة.([18]) وقَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ فِي قَمِيْصِ أَيُّوْبَ بَعْضُ التَّذْيِيلِ، فَقِيْلَ لَهُ، فَقَالَ: الشُّهرَةُ اليَوْمَ فِي التَّشمِيْرِ. ([19])وعن سفيان، قال: كانوا يكرهون الشهرتين: الثياب الجياد التي يشتهر فيها ويرفع الناس فيها أبصارهم، والثياب الرديئة التي يُحتقر فيها ويُستَذَل دينه([20]). وقال إمام أهل السُنَّة أحمد بن حنبل: أُرِيْدُ أَنْ أَكُوْنَ فِي شِعْبٍ بِمَكَّةَ حَتَّى لاَ أُعرَفَ، قَدْ بُليتُ بِالشُّهرة، إِنِّي أَتَمنَّى المَوْتَ صَبَاحًا وَمساءً. ([21]) وقال سفيان الثوري : "خرجت حاجًّا أنا وشيبان الراعي مشاة، فلما صرنا ببعض الطريق إذا نحن بأسدٍ قد عارضنا فصاح به شيبان فبصبص وضرب بذنبه مثل الكلب؛ فأخذ شيبان بأذنه فعركها، فقلت: ما هذه الشهرة؟ قال: وأي شهرةٍ ترى يا ثوري؟ لولا كراهية الشهرة ما حملت زادي إلى مكة إلا على ظهره".([22]) وهذا القاضي، أبو العباس العُقيلي، الجيّاني، يقول عنه ابن السمعاني: فقيه، مُفتٍ، زاهد. يعرف المذهب والفرائض. اعتزل عن الناس، واختار الخمول، وترك الشهرة، وكان كثير الذِّكر. دخلت عليه، فرأيته على طريقة السّلف من خشونة العيش، وترك التكلّف ([23])
هكذا مضى السلف الصالح على هذا المنهاج، وكان هذا دينهم وديدنهم، فأين هذا من أقوام غلبهم حب الشهرة وظنوا أن التفاضل بكثرة المعلومات وكثرة المحفوظات وبالثناء وبانتشار الذكر حتى سجل التاريخ عليهم أيضًا عارًا وشنارًا، فهذا الخطيب البغدادي عندما صنف كتابه تاريخ بغداد وسمعت به الدنيا، كان هناك رجلٌ يسمى ابن القفطي من كبراء فقهاء الحنابلة فلما سمع بالكتاب، قال هل ذكرني الخطيب في كتابه في الثقات أم في الضعفاء؟ قالوا والله ما ذكرك لا فى الثقات وفى الضعفاء. قال ليته ذكرنى ولو فى الكذابين! ليته ذكرني ولو في الكذابين!. ([24])
وهذا أحمد بن عليّ بن أحمد. أبو العباس، البردانيّ، الضرير. قدم بغداد، وحفظ القرآن، وقرأ بالروايات، ورحل، فقرأ بالعشرة على ابن الباقلاّني، وبرع في التّجويد، وحفظ الحروف. وكان يقرأ في التراويح بالشّواذّ رغبةً في الشّهرة. ([25])
هكذا يشل حب الشهرة حركة المجتمع الإيجابية ليحولها إلى شكليات ومظاهر، ومسرحيات يخادع بها بعضهم بعضا، فالشهرة حين تصير غاية في ذاتها فمعنى ذلك تفشي الكذب والنفاق والخديعة والتصنع، وغياب القيم الحقيقية التي لا تنتج الإبهار، ومعرفة الناس الشهرة تعنى سقوط النماذج الحقيقة ليبرز مكانها البالونات الكاذبة والسراب المضلل، فليس كل مشهور ناجحًا أو ناجيًا عند الله تعالى، وليس كل مغمور فاشلاً أو متأخرًا. لذا؛ قال ابن خلدون: "قلما صادفت الشهرة والصيت موضعها في أحدٍ من طبقات الناس في أحد مجالاتهم على وجه العموم، وكثير ممن اشتهر بالشر وهو بخلافه وكثير ممن تجاوزت عنه الشهرة وهو أحق بها، وقد تصادف موضعها وتكون طبقًا على صاحبها، وإنَّ أثر الناس في إشهار شخص ما يدخل الذهول والتعصب والوهم والتشيع للمشهور، بل يدخله التصنع والتقرب لأصحاب الشهرة بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، والنفوس مولعةٌ بحب الثناء، والناس متطاولون إلى الدنيا وأسبابها فتختل الشهرة عن أسبابها الحقيقة فتكون غير مطابقة للمشتهر بها".([26]).
والشهرة يجب ألا تكون هدفًا في ذاتها بل يمكن أن تكون نتيجة للأعمال الصالحة أحيانًا، فعلى من ابتلي بها الصبر والمجاهدة ومدافعتها قدر الإمكان دون الإخلال بوظيفته الصالحة في الحياة، قال المروذي: قال لي أحمد: قل لعبد الوهاب: أخمل ذكرك، فإني أنا قد بليت بالشهرة([27]).
فمن عمل صالحًا وعافاه الله وكان مغمورًا فليعش في جنة الدنيا وليبق حرًا طليقًا، ولا يدخل إلى أقفاص المراقبة البشرية، ففي جنة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وإذا رأيت مشهورًا فقل الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك وفضلنا على كثير من عباده تفضيلا.
فليست الشهرة تراد في ذاتها، قد تتفق للرجل فإذا صبر علي حقها فإنه لا حرج عليه، والخفاء كذلك لا يراد لذاته وإنما الذي يراد أن يراك الله حيث أمرك وأن يفقدك حيث نهاك، الذي يراد أن تكون لك خبيئة سر بينك وبين الله؛ تلج عليه من خلالها، وتنفعك أحوج ما تكون إليها عند طلوع الروح في لحظات الخواتيم، وتنفعك أحوج ما تكون إليها إذا حقت الحقائق وقامت القيامة وقرعت القارعة وزلزلت الزلزلة وحقت الحاقة وتطايرت صحف الأعمال ونودي الناس إلي ربهم أن هلموا إلي ربكم لفصل القضاء.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يحفظ علينا ديننا، وأن ينجينا من عذابه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
---------------------------
([1]) التفسير المنير، وهبة الزحيلي بتصرف.
([2]) رواه مسلم 1905، الترمذي 23.82، النسائي 3137.
([3]) سير الذهبي 4/375.
([4]) كما في عون المعبود 9/171.
([5]) سير الذهبي 2/470.
([6]) البداية والنهاية 4/272.
([7]) رواه مسلم 2965.
([8]) سير الذهبي 7/260.
([9]) المنتظم 3/61.
([10]) سير الذهبي 6/20.
([11]) سير الذهبي 10/476.
([12]) تاريخ دمشق 10/206.
([13]) سير الذهبي 11/216.
([14]) سير الذهبي 13/166.
([15]) سير الذهبي 8/304.
([16]) المنتظم 2/395.
([17])سير الذهبي 4/494.
([18]) تاريخ دمشق 53/228.
([19]) سير الذهبي 6/22.
([20]) إصلاح المال لابن أبي الدنيا، 113.
([21]) سير الذهبي 11/216.
([22]) سير الذهبي 8/261.
([23]) تاريخ الذهبي 4/12.
([24]) سير الذهبي 18/381.
([25]) سير الذهبي 10/54.
([26]) مقدمة ابن خلدون 1/150.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.