أعلن حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي (حزب الدعوة) أن سبعين بالمائة من الحرب التي يتعرض لها العراق نفسية، مؤكدا أن الوضع العسكري والأمني حاليا أفضل بكثير من السابق، وفي الوقت حذر العبادي من الكذب على المواطنين الذي إذا ما انكشف سيؤدي الى عملية «انهيار» كبيرة. هل هذه إستفاقة أم إنقسام شخصية؟ ما لم يذكره العبادي، في خطابه، هو أن النظام السياسي العراقي، بأحزابه ومسؤوليه، معجون بالتزييف، تضاف إليه أكاذيب عسكرية وأمنية، يوميا، كما تضاف التوابل إلى وجبة طعام فاسدة. أما تحذيره من الكذب، فالأولى به أن يوجهه إلى مصادر التصريحات الامنية والعسكرية وأجهزة الإعلام المستأجرة، التي تقضم بشراهة لانظير لها، جزءا كبيرا من ميزانية مجلس الوزراء والحكومة عموما. أما تأكيد العبادي بان الوضع العسكري والأمني أفضل، حاليا، بكثير من السابق فهو لايقل تمويها من تصريحات وزير الخارجية ابراهيم الجعفري الذي يحتاج العراقيون توظيف مترجم، ليترجم مايقوله من ثرثرة يلتذ بها لوحده. فلا عجب ألا يفهم الناس حقيقة ما يجري بداخل العراق حقا، فالصحافة المستقلة عملة نادرة معرضة للاستهداف، وحملات التضليل الاعلامي مكثفة، وقد نجح الاحتلال ومستخدميه، منذ بدء الاحتلال، وبسبب استهداف الصحافيين الاجانب من إلغاء أي مجال للصحافة العالمية للاستقصاء والبحث وتغطية الاحداث للعالم الخارجي. هذه العوامل، أدت إلى وقوع الناس في فخ تلقي المعلومات من مصادر داخلية محددة، وهي، غالبا، تصريحات وزارة الدفاع والاجهزة الأمنية، فضلا عن الساسة والمسؤولين المنخرطين في العملية السياسية. وليس من المعقول أن تقوم هذه الجهات بإصدار بيانات تمنح المتلقين معلومات حقيقية وصادقة، لأن الحقيقة والصدق في حالة تعارض كلي مع الحملات الدعائية والاعلامية العسكرية والامنية الناطقة باسم النظام. مما يلقي بمسؤولية البحث عما يجري، في الواقع العراقي، على المواطن، نفسه، وعلى الصحافي المستقل، المتابع، والمهتم من خلال القراءة المتأنية للاخبار الصادرة من عدة مصادر، في آن واحد، وتحليلها وفق معرفته للوضع. فما الذي نقرأه من متابعة احداث أسبوع واحد، فقط، لنتلمس صدق تصريح العبادي، بالأمان والاستقرار، بينما تنصب الجهود الارهابية، بنوعيها الحكومي وغير الحكومي، على تشييد حديقة الموت المجاني في بلادنا؟ هناك التفجيرات واشلاء 120 مواطنا، مبعثرة في مناطق مختلفة من بغداد، في يوم واحد. هناك تصريحات كاذبة، مكررة بابتذال، عن بدء حملات عسكرية واسعة لتحرير مناطق ومناطق من شمال وغرب العراق بالاضافة الى المناطق المحيطة ببغداد. هناك تصريحات، يومية، عن قتل عشرات «الداعشيين» في ارجاء البلد. ليس هناك تصريح لايبدأ بمفردة «قتل» أو «داعش» في العراق اليوم. اقرأوا معي: مقتل عشرات الدواعش بقصف ل « طيران التحالف»، مقتل أكثر من نصف قيادات داعش في ديالى، مقتل 20 ارهابيا في الرمادي، البيشمركة تقتل مسؤول كتيبة قناصي داعش، مقتل 30 ارهابيا من داعش في الانبار. مقتل ابرز قيادات عصابات داعش الارهابية في محافظة صلاح الدين. مقتل 60 عنصراً من داعش في مدينة الرمادي. قتل 37 داعشيا في الموصل. أين الحقيقة في هذه الأخبار؟ حين أعلنت وزارة الدفاع، يوم السبت، عن مقتل الأمير العسكري في تنظيم «داعش» بمحافظة صلاح الدين بضربة لطيران الجيش، لم تذكر الوزارة ان ضحية الغارة كان، أيضا، الطفل عمر عبدالله رشيد الجواري، الذي انفرد موقع «وجهات نظر»، بنشر صورة لجسده المحترق واسمه الرباعي القابل للتحقق. حمام الدم هذا غيض من فيض. اليوم، في بلادنا، القتل هو الهواء، هو الماء، هو اللغة، هو الأنفاس المتلاحقة خوفا من الخوف. وتنظيم داعش هو الخوف، هو بضاعة الترويع، المرغوب، الرائج، في سوق النخاسة السياسية. في التحالف ما بين الظلم الداخلي والهيمنة الخارجية. يصرح المتحدث باسم البنتاغون قائلا: «ان بغداد في منأى عن تهديد وشيك من تنظيم داعش الارهابي». فيقول العبادي مرددا من بعده «ان بغداد آمنة». ولكن قلوبنا المتلهفة على سلامة بغداد تتساءل، ماذا عن بقية محافظاتالعراق المتآكلة تفجيرا وقصفا وتهجيرا؟ ماذا عن القصف الحكومي بالبراميل المتفجرة للمناطق السكنية في عدة محافظات وارهاب الميليشيات المنتشرة مثل الاعشاب الضارة في كل مكان؟ يورد تقرير منظمة العفو الدولية الصادر منذ ايام بعنوان «افلات تام من العقاب: حكم الميليشيات في العراق» «، تفاصيل مروعة عن جرائم الميليشيات الشيعية وارهابها المستهدف للمدنيين في بغداد وسامراء وكركوك انتقاما من هجمات « الدولة الاسلامية». « وتم العثور على عشرات الجثث مجهولة الهوية في مختلف مناطق البلاد، وقد قُيدت أيادي اصحابها خلف ظهورهم ما يشير إلى وجود نمط من عمليات قتل على شاكلة الإعدامات الميدانية». وعن دور الحكومة العراقية، قالت دوناتيلا روفيرا، كبيرة مستشاري شؤون الأزمات بمنظمة العفو الدولية: «من خلال منح مباركتها للميليشيات التي ترتكب بشكل منتظم انتهاكات مروعة من هذا القبيل، يظهر أن الحكومة العراقية تجيز ارتكاب جرائم الحرب وتؤجج دوامة العنف الطائفي الخطرة التي تعمل على تمزيق أوصال البلاد. ويجب أن تتوقف الحكومة العراقية فورا عن دعم حكم الميليشيات». وحسب المنظمة، لا زال مصير الكثير من الذين اختطفتهم الميليشيات الشيعة قبل أسابيع وأشهر غير معلوم إلى الآن. ولقد قُتل بعض الأسرى حتى بعد قيام عائلاتهم بدفع مبالغ الفدية التي قد تصل إلى حوالي 80 ألف دولار وأكثر من أجل الإفراج عنهم. ويرتدي عناصر الميليشيات الذين يصل تعدادهم إلى عشرات الآلاف أزياء عسكرية، ولكنهم يعملون خارج نطاق أي إطار قانوني، وفي ظل غياب أي شكل من أشكال الرقابة الرسمية عليهم. لقد سبب الاحتلال الذي تعاون معه ساسة النظام الحالي، وما قبله، مقتل حوالي مليون مواطن وساهم في نشر وباء الطائفية وروح الانتقام والفساد. كل واحد من هذه العوامل كاف لأنهيار دولة، فكيف لو اجتمعت كلها؟ ويبقى الحل بيد العراقيين، لا باستدعاء الغزاة، لتنهض أوروك من جديد، وليبق العراق، كما عهدناه، وكما وصفه أحد جنود الاحتلال مندهشا: « قصفنا بيوتهم ليلا . حين أتى الصباح، جمعوا الطابوق وشرعوا ببنائها من جديد».