عندما التقيت الفنان محمد ناجي عقب ندوة صحفية عقدها أعضاء من فرقة المسرح القومي بالرباط قدم إلي سيجارة فقلت له: أنا أقاطع السجائر، فأجابني بسرعة: إنها ليست أمريكية، انظر إنها من صنع يوناني، فكلنا نقاطع البضائع الأمريكية، فقلت له: إنني أقاطعها بشتى أنواعها لأنها مضرة، وهذه الإجابة التلقائية التي قام بها الفنان محمد ناجي دليل على وعي ويقظة الفنان المصري المتشبع بقضايا أمته، فمحمد ناجي في هذا الحوار عبر عن عدم شعوره بالغربة في بلده المغرب، ودعا إلى تحطيم الحدود بين البلدان العربية لأنها وطن واحد ورأي فيما حدث في العراق جوانب مضيئة: أحدها انهيار الامبراطورية الأمريكية الوشيك ، والثانية هي سقوط ورقة التوت عن الأنظمة العربية، ودعا الشعوب العربية إلى التغيير والضغط على أنظمتها ماديا ومعنويا كما حث على تغيير الخطاب السياسي، وكذا الخطاب الديني حيث اتهم بعض الدعاة بأنهم غير مهمومين بقضايا الناس وأنهم يحلمون بالسلطة! وأوضح الفنان المصري أن زعماءنا مجرد "ظواهر صوتية" يتقنون الشجب والتنديد ولكن تحت الطاولة يمارسون كل العفن، مشيرا إلى أن دور الفن هو التحريض نحو الأهداف السامية وإليكم نص الحوار: لكل عمل فني رسالة معينة يريد أن يوجهها للجمهور، ماذا يريد الفنان محمد ناجي أن يوصل هو و زملائه إلى الجمهور من خلال مسرحية الملك لير التي عرضتموها أمس بمسرح محمد الخامس؟ فيما يخصني فأنا أنظر إلى العمل بشكل عام وأتساءل: هل العمل يتفق مع ما أحمل من أفكار، أو ضدها، فالفن بالنسبة لي مسألة مبدئية، فإذا كان العمل ضد ما ما أحمل من أفكار لا أقبله، وإن كان العكس أقبله وأتبناه، وإذا نظرنا إلى مسرحية شكسبير (الملك لير) فإننا نلاحظ أنها تضم مقولة تبدو اجتماعية وإنسانية(عقوق الوالدين)، إن اعتبرناها هي الهدف الوحيد من المسرحية فنحن اليوم في أمس الحاجة إليه، حيث نحضن أبناءنا وآبناؤنا يحضنونا، وليس فقط أبناءنا من أصلابنا بل أبناء عروبتنا أيضا، إلا أن العمل يضم مقولة سياسية مهمة جدا، وهي التقسيم الذي قام به الملك لير في لحظة حمقاء، وهو نفسه التقسيم الذي حدث ويحدث في بلادنا العربية، ونرى عبر المسرحية كلها انعكاس هذا التقسيم على وحدة الأسرة الملكية، ونحن لابد أن ننبه إلى أن التقسيم قادم لاريب فيه، وعلينا أن نواجه هذا التيار الجارف والقاسي والعنيف والدموي الذي جاء ليبتلعنا، ويقسم وطننا العربي إلى فتات، هذه رسالة المسرحية عامة. أما عن دوري الذي ألعبه في المسرحية وهو كبير وزراء الملك لير أكبر المخلصين له، فيتلخص في حماية الملك من نفسه أولا، ومن المؤامرات التي تحيق به، وقد قلت له في مواجهة معه:" أنت ترتكب جريمة أيها الملك، ولن يتبق لك من الملك إلا المظهر فقط"، وهذه محاولة مني لعلاجه من أمراض التقسيم، وسأبقى وفيا له إلى أن يسقط "مقتولا" بفعل التقسيم الذي قام به. دعا الفنان محمد ناجي قبل قليل في الندوة الصحفية إلى تغيير الخطاب الديني والسياسي وإقفال "كراسة الممنوعات" العربية هل ترى هذه الخطوات من الأولويات؟ ليست أوليات فحسب بل هي أولى الأولويات التي ستفرز فنا حقيقيا يمس قضايا الناس، فكراسة الممنوعات تحول بينك وبين إبداء رأيك، ونحن لا نريد أن نقول رأينا بشكل مرضي، فلابد من تغيير الخطاب السياسي ولابد كذلك من إزالة الحدود، أنا أرى أن كراسة الممنوعات العربية شأنها شأن الحدود الموضوعة بين البلدان العربية، فأنا لكي آتي إلى المغرب، الذي اعتبره بلدي مثل ما هي مصر بلدك، لابد أن أحصل على تأشيرة وجواز سفر وأمر باجراءات أمنية وغير أمنية، إنني أحلم بحرية التنقل بين العواصم العربية والربوع والقبائل بشتى أنواعها، فإذا وصلنا إلى ذلك سنستطيع أن نتصدى لأي غاز أمريكيا كان أو غيره، ولقد ثبت في التجربة الأخيرة أن أمريكا رغم التآمر والخيانة أنها "بلونة" فارغة. نمر من ورق؟ إنها نمر من ورق كما تفضلت دعوت أيضا إلى تغيير الخطاب الديني كيف تشرح لنا ذلك؟ الدين الإسلامي رحب وسمح وشمولي، والقرآن الكريم يعالج كل القضايا والأمراض والمشاكل، ولكن بعض من يعتبرون أنفسهم دعاة، يحلمون بالحكم، ولا يشعرون بالمقهورين وليسو مهمومين بالناس وأوجاعهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان مهموما بالناس، كان موجوعا بوجع الناس ولم يكن يحلم بالسلطة، لقد منح سلطة إلهية، ولكنه لم يكن يحلم بالسلطة على الإطلاق، إلا أن بعض "الدعاة" الحاليين يحلموا فقط بالسلطة! فلابد من تغيير هذه القناعة، ولابد من تغيير خطابهم الديني. ألا ترى أن هناك بعض الدعاة النموذجيين والمخلصين الذين يهتمون بالناس وبإصلاح أحوالهم. إننا نبحث (يضحك) ألا يوجد نموذج صادق ثم ماذا عن المشهد العربي من المحيط إلى الخليج بكافة مستوياته كيف تقيمه؟ لابد من تغيير المشهد بشكل شامل حتى نستوعب هذا المستعمر الجديد، ونواجه هذا السيناريو القذر الذي تكرسه أمريكا منذ 1958 أيام ايزنهاور، إننا نتفرج ونحن نعلم أن هناك سيناريو يحاك ضدنا ومع ذلك نحن مستسلمون له. فالخطاب الديني القديم، والخطاب السياسي القديم والخطاب الثقافي القديم والخطاب الفني أصبح مهترئا وخارج العصر لقد أصبح demodé كما يقول الفرنسيون. الفلسطينيون محاصرون بالآلة العسكرية الأمريكية "الاسرائيلية" البريطانية وكذلك العراق ونحن محاصرون بعجزنا، وبخلافاتنا وبأمراضنا ومشاكلنا، نحن نتعارك فيما بيننا، نحن "ظواهر صوتية" فقط لا غير، فساستنا يقفون ويفرقعون أصواتهم ويستهجنون ويشجبون و..و..و...وتحت الطاولة يمارس كل العفن وكذلك الدعاة والمثقفون، فلابد من تغيير المشهد العربي بالكامل. وأنا أقول من خلال جريدتكم للرأي العام إن ما حدث في المنطقة العربية يتضمن جانبا مضيئا عكس كل الناس، لقد صدمت في اليومين الأولين للهزيمة النكراء والخيانة التي اقترفت (زي صدمة 67) ولكن بعد ذلك استوعبت الدرس، ورأيت جوانب مضيئة في الحدث، وأول هذه الجوانب المضيئة أن الأنظمة العربية لابد من تغييرها وعلى الشعوب العربية أن تضغط على أنظمتها إما بالتغيير المادي أو المعنوي يجب أن نحطم حاجز الخوف أولا طبعا، وأرى أيضا أن ما حدث مؤشر على نهاية الامبراطورية الأمريكية، وهذا آخر مسمار في نعش أمريكا، صحيح أن المسألة ستأخذ وقتا، لكني أرى أن هذه هي نهاية أمريكا. لقد وصلت إلى القمة وليس بعد القمة إلا السقوط بالتأكيد، وأنا أقول من خلال جريدتك الغراء هذه نهاية الامبراطورية الأمريكية وعلى الشعوب العربية أن تتوحد وعلى الأنظمة العربية أن تعيد ترتيب البيت من الداخل وإلا أن نقطا كثيرة جدا وأقواسا كثيرة أيضا ستفتح :"انتزعونا من فضلكم من هذه الشراك الأمريكية"، فلابد أن تقف الشعوب العربية وقفة حقيقة وأن تتوحد مع نفسها ومع أفكارها ومبادئها وأوطانها، ولابد من مواجهة التقسيم القادم بلا خوف، وسقطت ورقة التوت على الأنظمة العربية. أنت من الفنانين المقتنعين بأن للفن دور تحريضي ولا يقدم حلولا نعم، إنني أرى أن الفن تحريضي بطبعه وهو لا يضع حلولا، فالفن يفجر فيك إمكاناتك. (مقاطعا) إنه يحرضك نحو هدف معين ؟! يحرضك نحو هدف أسمى نحو هدف حقيقي، فالفن يصنع التغيير، وهناك مقولة اقتصادية سياسية تقول إن التراكم الكمي يؤدي إلى تغير كيفي بالقطع، فلو صنعنا كلنا فنا حقيقيا سنستطيع تغيير الناس من الداخل ونحاصر الفن الردئ ونحاصر الفن الردئ وبالتالي نحاصر صناع ومصدري هذا الفن الرديء، وأنا أرى أن أمريكا بالتحديد وراء هذا الفن الرديء المدتني. وتدعمه وتنشره بيننا ، طبعا إنها تدعمه كلمة أخيرة يوجهها الفنان محمد ناجي إلى الشعب المغربي وقراء جريدة التجديد إنني بكل صدق لم أشعر بالغربة في المغرب، لم أستشعر الغربة ولو للحظة واحدة، لقد شعرت بأنني في شوارع القاهرة، وفي بيتي، وخاصة وسط الجمهور المغربي، إنه جمهور حقيقي واع يستقبل الفن الجيد، ويرفض بحسه الفن الرديء وأشكر كل الشعب المغربي، وأتمنى كما قلت في الندوة الصحفية اللحظة التي تنمحي فيها الحدود بين الوطن العربي الواحد، فهذه الحدود مصنوعة، صنعها الاستعمار عبر تاريخه كله، فأتمنى أن آتي إلى المغرب (وقت ما أنا عايز) ببطاقتي الشخصية، والمغربي يأتي إلى مصر ببطاقته الشخصية، لأن المغرب ومصر والجزائر وتونس والعراق وفلسطين ولبنان ...إلخ وطن واحد. الفنان المقتدر محمد ناجي شكرا جزيلا لك، وإلى فرصة أخرى إن شاء الله. التقاه: اسماعيل العلوي