أظهرت المواجهات التي عرفها حي العرفان بطنجة على خلفية مقتل المهاجر السينغالي أن ثمة تحديات كبيرة تواجه الاستراتيجية الجديدة للهجرة التي أعلنها المغرب، وأن القضية لا تتوقف عند حدود تسوية الوضعية القانونية ولا حتى الإدماج في سوق الشغل وتمتيع المهاجرين الأفارقة بحقهم في الولوج إلى الخدمات الصحية والتعليمية، فإلى اليوم، لا زالت المؤشرات تؤكد بأن المغرب في منظار ومخيلة المهاجرين الأفارقة ليس سوى بلد عبور، مما يعني أن القضية الأمنية ستأخذ حجما أكبر من الأبعاد الأخرى في شكل التعاطي المغربي. ولعل ما يدعم هذا التوجه هو حجم التربصات بالخيام التي يقيمها المهاجرون الأفارقة بتناسب مع موسم العبور سواء في طنجة أو الفنيدق أو الناظور. معنى ذلك أن المغرب سيتحمل ثقلا أمنيا كبيرا ستكون له انعكاسات حقوقية مكلفة يمكن أن تستثمر بشكل سيء من قبل خصوم المغرب لإضعاف صورته الحقوقية. والحقيقة أن بإمكان السلطات المغربية أن تفتح تحقيقا نزيها على خلفية حادث هنا أو هناك، ويمكن لها أن تعتقل مشتبهين في التورط في مقتل هذا الإفريقي أو ذاك، ويمكن أن تذهب بعيدا وتتوصل إلى خيوط هذه الجريمة أو تلك، فهذه مسؤولية تمليها دولة الحق والقانون التي أخذ المغرب على عاتقه تنزيل مقتضياتها، لكن المشكلة لا تتلخص في هذه الحدود الجزئية، فبالأمس القريب وقعت حادثة إلقاء مواطن كاميروني من أحد الشقق بطنجة، واليوم حادث قتل مواطن سينغالي بنفس المدينة، ومن المرجح أن تقع حوادث مماثلة. بعض التوجهات الإيديولوجية التي لا تبالي بالمصالح الوطنية سارعت إلى استثمار الفرصة للدعوة إلى فتح نقاش وطني حول العنصرية، لتضع المجتمع والدولة المغربيين في زاوية ضيقة أمام المجتمع الدولي وأمام خصوم الوحدة الترابية ، كما ولو كان المغرب دولة وحكومة وشعبا يعانون مشكلة عنصرية اتجاه الأفارقة وهو أمر غير حاصل إلا في أذهان هؤلاء أو في رغباتهم السياسوية. القضية هي أشمل من ذلك، وتتطلب تفكيرا استراتيجيا عميقا. القضية باختصار تتطلب إعادة تكييف الاستراتيجية الجديدة للهجرة لتأخذ بعين الاعتبار الحقائق الموجودة على الأرض، فالمغرب بذل جهدا في محاولة امتصاص ظاهرة الهجرة إلى أوربا، وقدم أوراق اعتماده لتسوية وضعية المهاجرين الأفارقة وإدماجهم وتمتيعهم بحق الولوج إلى الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية، لكن الجزء الأكبر من هؤلاء لا ينظر إلى هذه المكتسبات إلا كتكيتك لتحقيق الحلم، أي العبور إلى الضفة المتوسطية الشمالية، مما يعني طرح مشكل أمني كبير ستكلف مواجهته الدولة المغربية جزءا من سمعتها الحقوقية. ليس لنا خيارات كثيرة، فخيار فتح أبواب الجحيم على أوربا مستحيل بحكم التزامات المغرب اتجاه شركائه، وخيار سد الحدود أمام هؤلاء هو الآخر مستحيل تمنعه اعتبارات الجغرافيا، فالذي يبقى هو الاستمرار في تبني مفردات الاستراتيجية الجديدة وإعطائها مضمونا حقيقيا، مع إعادة التفكير في الخيارات الأمنية لمواجهة التحديات المتعاظمة. القضية باتت تشكل معضلة حقيقية تحتم فرض شروط قانونية صارمة لتسوية وضعية المهاجرين الأفارقة، ومنها المنع من المشاركة في التربصات في المدن التي توجد بها موانئ العبور، ووضع المواطن الإفريقي بين خيار الالتزام بمقتضيات المواطنة المغربية وما تعنيه من التمتع بالحقوق القانونية والخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية، وبين خيار الترحيل إلى بلدانهم الأصلية ضمن الشروط التي يحددها القانون. ليس هناك خيار ثالث، إما القبول بالإدماج مع التمتيع الحقيقي بمقتضياته، وإما الترحيل بالطريقة القانونية التي تجري في بالبلدان الديمقراطية، فهذا هو ما تبقى من خيارات إذا كان المغرب ارتضى ضمن رؤية استراتيجية الامتداد الجيوسياسي في إفريقيا وإثبات مصداقيته كشريك موثوق به لدى جواره الأوربي لكن إلى جانب ذلك، ينبغي أن تشكل مثل هذه التحديات الأمنية المكلفة التي يواجهها المغرب عناصر تفاوض جديدة مع شركائه حتى تتحمل مسؤوليتها في تأمين ترابها من الهجرة السرية والإرهاب والجريمة العابرة للحدود.