أعلنت أمريكا يوم الثلاثاء الأخير عن سحب قواعدها العسكرية من السعودية بعد 12 عاما من الوجود العسكري في المملكة. وكانت السلطات العسكرية الأمريكية قد باشرت قبل يوم من هذا الإعلان نقل مركز العمليات والقيادة من قاعدة الأمير سلطان بالسعودية إلى قاعدة العديد في قطر. وكان يوجد بالسعودية حوالي عشرة آلاف جندي منذ حرب الخليج الثانية، كما أن الولاياتالمتحدة استخدمت الأراضي السعودية نقطة انطلاق في حربها عام 1991 لغزو العراق، ثم استخدمتها بعد ذلك قاعدة لحراسة منطقة حظر الطيران الذي فرضته الولاياتالمتحدة على جنوب العراق. الانسحاب العسكري الأمريكي من السعودية فتح شهية المحللين على قراءات مختلفة نعرض لها في التحليل التالي: الانسحاب وتأثير هجمات 11 شتنبر اهتم المحللون والمعلقون بانسحاب الولاياتالمتحدة العسكري من السعودية، وبرزت قراءات وتفسيرات عديدة لهذه المسألة. فالبعض يرى أن في القرار الأمريكي نقل قواته من السعودية انتصارا لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، الذي ما فتئ يطالب بخروج القوات الكافرة من أرض الحرمين الشريفين. وكثيرا ما برر بن لادن الهجمات على الولاياتالمتحدة بوجود تلك القوات، كما أن واشنطن تحمله مسؤولية ما وقع في 11 شتنبر 2001. وقد ذكرت أن 15 سعوديا كانوا من بين 19 شابا خطفوا طائرات ركاب لتنفيذ الهجمات. وسيشكل خروج هذه القوات حسب بعض المراقبين انتصارا لفكرة بن لادن لا أكثر ولا أقل. الاتجاه نفسه ذهبت إليه الصحافة البريطانية، حيث اعتبرت القرار الأمريكي بسحب قوات الولاياتالمتحدة المرابطة في السعودية باعتبارها خطوة تاريخية، حيث جاءت بعد أكثر من إثني عشر عاما، وبعد بروز المعارضة الإسلامية للتواجد الأمريكي، وتطورها لحركة جهادية عالمية بقيادة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن. وربط المعلقون البريطانيون بين الانسحاب وبين تحقيق مطالب بن لادن. وقالت في هذا السياق "صحيفة ديلي تلغراف" إن الخطوة هي محاولة لإعادة ترتيب التواجد العسكري في المنطقة، رغم قول مسؤول أمريكي بارز إن الانسحاب الأمريكي لا علاقة له بمطالب بن لادن. وتنقل الصحيفة عن وزير الدفاع الأمريكي "دونالد رامفسلد" قوله إنه تقرر سحب الطائرات الأمريكية بناء على اتفاق مشترك بين البلدين، كما تنسب إلى وزير الدفاع السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز قوله إنه مع انتهاء العمليات في منطقة الحظر الجوي في جنوبي العراق لم تعد هناك حاجة لبقاء تلك الطائرات في بلاده. وقالت الصحيفة إنه، خلف العبارات الجافة للمسؤولين الأمريكيين عن إعادة ترتيب القوات في الخليج كان شبح أسامة بن لادن، الذي طالب بإخراج القوات الكافرة من أراضي الحرمين. فالتواجد هذا كان واحدا من دواعي الجهاد العالمي الذي أعلنه بن لادن وانتهى بتدمير مركز التجارة العالمي، والهجوم على البنتاغون في 11 شتنبر. وقالت الصحيفة إن سحب القوات الأمريكية جاء عاجلا لأن العلاقات الأمريكية السعودية لم تتحسن منذ الهجمات، حيث شارك 51 مهاجما سعوديا في العملية. إعادة انتشار القوات الأمريكية وحسب رأي ثان، فإن المسؤولين العسكريين الأمريكيين ينفون أي صلة بين سحب قواعدهم وجنودهم من السعودية وبين مطالبة بن لادن بخروجهم من المملكة، فهذا الخروج لا يعدو أن يكون إعادة توزيع للقوات الأمريكية في أنحاء الشرق الأوسط ومنطقة الخليج بعد زوال ما تصفه واشنطن بخطر الرئيس العراقي صدام حسين. وكتب في هذا السياق المحلل خالد حسن (عن موقع العصر الإلكتروني) أن خبر إعلان أمريكا بأنها ستنقل قواتها خارج السعودية مهم في ذاته، باعتبار أن له علاقة مباشرة بإعادة هيكلة العلاقات السعودية الأمريكية. وعلى أية حال، يمثل هذا فقط رأس الكتلة الجليدية، إذ أن التغيير جزء من إعادة انتشار أوسع للقوات الأمريكية وإعادة تعريف لقدراتها العسكرية، في خطوة أبعد ما تكون عن منظور العزلة. وحسب المراقبين، فإن التحرك يجب أن ينظر كنهاية لعالم ما بعد الحرب الباردة بالنسبة لواشنطن وبداية جديدة لعصر مختلف. ورأت واشنطن، كما يقول خالد حسن، في عالم ما بعد الحرب الباردة، مرحلة كان فيها الجيش قوة ثانوية بالنسبة للقوة الاقتصادية، والتي لعبت فيها مؤسسات الحرب الباردة دورا حرجا في الشؤون الدولية، على الرغم من أن المهمة كانت تتغلب عليها! ويعتقد المخططون الأمريكيون، أن الفترة بين سقوط الاتحاد السوفياتي وهجمات 11 شتنبر كانت فترة قصور ذاتي في التخطيط العسكري الأمريكي. واستمرت الولاياتالمتحدة في تحالفها الذي صمم لاحتواء الاتحاد السوفياتي. وقد شكل الخط من النرويج إلى القوقاز، الخط الأساسي للدفاع. ومرَ الخط الآخر عبر الأرخبيل الآسيوي اليابان، تايوان، الفلبين، أندونيسيا، وكوريا الجنوبية. بعد الثورة الإيرانية، المواقع الدفاعية الأساسية في جنوب غرب آسيا توزعت بين القواعد العسكرية والوجود البحري. الجسم الرئيسي للقوات بقي في الاحتياطي في الولاياتالمتحدة. وبما أن أمريكا كانت في موقع دفاع استراتيجي، فلم يكن بمقدورها أن تتوقع أو أن تحدد مصدر الهجوم. وبما أن القوات الأمريكية انتشرت على امتداد الخطوط الخارجية، ولم يكن من السهل تحريك القوّات من نقطة إلى أخرى فإن التعزيزات كانت تأتي من الولايات المتّحدة. هكذا، دُعمت القوات العسكرية المنتشرة في أوربا أو كوريا الجنوبية من أمريكا عبر المياه الواقعة تحت سيطرة القوة البحرية الأمريكية. وتم النظر إلى الأسلحة النووية باعتبارها الضامن النهائي للاحتواء. ومع نهاية الحرب الباردة، يضيف خالد حسن، وبعد حملات 11 شتنبر تغيرت الحالة بشكل مثير للولايات المتحدة، جعلت ترف الإبقاء "اللاعقلاني" على خريطة انتشار القوة غير قابل للتحمل. فالقوات الأمريكية لم تعد تخدم وجودا رمزيا، كالذي أوهمت به غيرها في التسعينيات، واستعملت بعدها في حرب مستمرة ضد مجموعات المقاومة الإسلامية، وانتشرت القوات الأمريكية وفقا لذلك. ويؤكد ما ذهب إليه خالد حسن تصريحات المسؤولين الأمريكيين أنفسهم، إذ صرح مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن الولاياتالمتحدة ترى في نهاية الحرب على العراق فرصة لإعادة انتشارها العسكري في أنحاء العالم والاعتماد بشكل أكبر على العمليات العسكرية التي تشن من مسافات بعيدة انطلاقا من شبكة شاملة من "المراكز الاستراتيجية". وأضاف أن هذه الرؤية الجديدة بالإضافة إلى الاتجاه نحو تشكيل قوات أصغر حجما وأكثر قدرة على الحركة، قد تقود إلى تغيير كبير في القواعد الأمريكية في أوربا وآسيا التي تشكل سمة القوات العسكرية الأميركية خارج الولاياتالمتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. أما مسألة ما سيحدث للقوات الأمريكية المتمركزة في الخليج بعد الإطاحة بصدام حسين من السلطة في العراق فما تزال حساسة بسبب احتمال التسبب في اضطراب في العلاقات الأمنية الأمريكية الممتدة منذ زمن. تدهور العلاقات السعودية الأمريكية وراء الانسحاب ويذهب بعض المحللين إلى أن أميركا بدأت أخيرا ترسل إشارات إلى عدد من الدول، فبعضها ينظر إليه باعتباره حليفا للولايات المتحدة يعتمد عليه والبعض الآخر يعتمد عليه بدرجة أقل. والسعودية توجد ضمن هذا الصنف الأخير، خاصة بعد تدهور العلاقات السعودية الأمريكية منذ هجمات 11 شتنبر. وربما يكون العراق قاعدة أمريكا المفضلة في المنطقة بعد احتلال القوات الأمريكية له وتموقعها في منطقة مفتوحة على بلدان تدرجهم في قائمة ما تسميهم ب "محور الشر" أي إيران وسوريا. وربما كان النفط العراقي سيقلل من الاعتماد الكلي على النفط السعودي وبالتالي تتراجع أهمية السعودية. ويعزز هذا الرأي أن بعض الأمريكيين -وخاصة اليمينيين منهم داخل إدارة بوش وخارجها- يرون في السعودية والمذهب الوهابي مصدرا للتشدد الإسلامي. ومهما تكن التفسيرات فمن الملاحظ أن هنالك ارتياحا سعوديا بعد إعلان أميركا سحب قواتها من المملكة، ويعزو البعض هذا الارتياح إلى كثرة الانتقادات الداخلية الموجهة للحكومة السعودية وخاصة من طرف العلماء المتمتعين بسلطة كبيرة والذين يرون في الغزو الأمريكي للعراق إثما عظيما. ومن هنا سيكون القرار سحبا للبساط من تحت أقدام هؤلاء، وبالتالي سيخفف -حسب بعض المحللين- من حدة تأثير العناصر الإسلامية المحافظة في العائلة الحاكمة، كما كتب الصحافي سيدي أحمد بن أحمد سالم بموقع "الجزيرة". يونس البضيوي