إن ما ميز الحرب الأمريكية البريطانية على العراق، على خلاف ما حصل عام 1991م هو تغطية وسائل الإعلام العربية لكل مجريات الحملة منذ بداية التدخل العسكري إلى سقوط نظام صدام حسين. فكل وسائل الإعلام العالمية كانت على موعد مع القوات الغازية في وسط مدينة بغداد، غير أن وسائل الإعلام العربية كان لها وزن كبير، لأنها قامت بنقل هذه الأحداث بشكل مباشر لحوالي 40 مليون مشاهد عربي عبر العالم، كما حصل عام 1991 عندما غطت قناة سي إن إن الأمريكية الحرب الأولى ضد العراق. وقد أثارت قناة الجزيرة اهتمام العديد من الساسة وعلى رأسهم الرئيس بوش ورئيس الوزراء بلير وكذلك صدام حسين، إذ أنها ظلت محافظة على خط السير الذي طالما أشادت به من خلال تقديم نشراتها الإخبارية وهو احترام "الرأي والرأي الآخر"، وإذا ما شكل هذا الشعار نهجا طبيعيا في العمل الصحفي فهو يعتبر ثورة كبيرة في العالم العربي: فقبل ولادة قناة الجزيرة لم تكن الجماهير الشعبية في بلدان عربية عديدة لها أية إطلالة على الأخبار الدولية إلا تلك التي تقدمها القنوات الحكومية الداخلية التي تعكس وجهة نظر الأنظمة القائمة. وقد سعت القناة خلال تغطيتها للأحداث المتتالية على العراق إلى التركيز دائما على أوضاع المواطن العراقي والمحن التي يعيشها يوميا جراء الحظر المفروض عليه من الخارج والضغط الداخلي من النظام. وكان من الطبيعي أن يعطي مراسلو الجزيرة حق التعبير عن الرأي لكل الجهات الأطراف في النزاع، غير أن هذا التعامل المحايد لم يؤمن عمل القناة من انتقادات السلطات الأمريكية والبريطانية عند عرضها صور أسرى الحرب، وحتى من جانب السلطات العراقية التي اتهمت القناة بتسويق أخبار غير صحيحة. غير أن مراسلي الجزيرة واصلوا تغطية الحرب وآثارها المدمرة في صفوف المدنيين، حيث نقلت القناة صور الجرحى والقتلى والأحياء المدنية المدمرة، دون السقوط في وهدة مدح النظام القائم والدفاع عن قضية رئيسه صدام حسين. وبالفعل فقد نجحت القناة في الحفاظ على استقلالها من خلال التعليقات الصحفية لمراسليها، والتي في مجملها كانت توكد على أن الشعب العراقي يقوم بدفع الثمن مرتين: بعد خضوعه لنظام الرئيس العراقي صدام حسين، والذي يصفه البعض بأنه بمثابة معتقل كبير، ها هو الآن يتعرض لقنابل القوات "المحررة". وعند سقوط بغداد المفاجئ كانت القناة موجودة لمتابعة الحدث الحاسم والمتمثل في إسقاط تمثال الرئيس صدام وسط فرحة العراقيين ولو على مضض، غير أنها واصلت عملها بكل كفاءة ومهنية، بل إنها واصلت تصوير قصور الرئيس المخلوع ومعتقلاته المخيفة. لقد نقلت الجزيرة بشكل حي ومباشر صورا لحياة الزعماء المتسلطين في المشرق العربي وأيضا أعمال النهب والسلب التي تعرضت لها كل المرافق الحكومية والعمومية على مرأى ومسمع السلطات الأمريكية التي أظهرت وجهها الحقيقي وأهدافها غير المعلنة. والأهم من ذلك أن القناة الجزيرة أعطت حرية الكلمة والتعبير لتلك الفئة من الشعوب العربية التي تريد مقاومة الهيمنة الغربية دون الخضوع والاستكانة للأنظمة المحلية السلطوية مع طرح سؤال حاسم ألا وهو: ما هو السبيل للشعوب العربية لتحقيق الديمقراطية بمعزل عن مساندة القوات الأجنبية؟ ولعل الشيء الذي عزز من موقف القناة والتحاليل السياسية التي قدمتها خلال الحملة العسكرية على العراق؛ هو انتقال الحرب الكلامية من جديد إلي النظام السوري، واتهامه بإيواء حكام بغداد وحيازته لأسلحة محظورة، وهو ما عبرت عنه القناة بوجود "مؤامرة" في المنطقة، وحتى في حال وجود مثل هذه المؤامرة فهذا سوف لن يثبط من عزيمة الشعوب العربية بشكل عام، ونخبتها المثقفة بشكل خاص، في التفكير في الطرق الكفيلة للإفلات من قبضة الأنظمة التسلطية الحاكمة. والقناة في هذا السياق لا تقوم بتقديم حلول حاسمة أو وصفات علاجية سحرية، بل إنها تعكس التناقضات التي تخيم على الشارع العربي، وقد صرح أحد المحللين أن مشكلة الأنظمة العربية تدور حول مسألة غياب الديمقراطية وأن القوات الغازية تدخلت في العراق لسد ثغرة تسبب في وضعها وللأسف الشعب العراقي بنفسه. إن بعض بلدان أمريكا اللاتينية وأخرى في أوروبا الشرقية حققت نجاحا في إقرار مبادئ الديمقراطية على خلاف البلدان العربية التي أخفقت في ذلك، وظلت سجينة الهيمنة الأجنبية من جهة، والتعسف والقهر السياسي الداخلي من جهة أخرى. ويظل الحل والمخرج الوحيد من هذا المأزق هو فسح المجال للمجتمعات المدنية العربية للمشاركة الفعالة في المشاريع السياسية لتحقيق الديمقراطية، وإعطاء الحرية الكاملة لوسائل الإعلام العربية للقيام بدورها في الدفع بعجلة هذا المشروع الطموح. ولكن هل المواطن العربي مؤهل في الوقت الحالي للاضطلاع بهذه المسؤولية ورفع هذا التحدي؟ وفي هذا الصدد تقوم الجزيرة بالرد على هذه المعضلة بطريقتها الخاصة، والمتمثلة في كسر احتكار وسائل الإعلام الحكومية للخبر والنبإ، بل إنها كرست أخلاقيات جديدة للعمل الصحفي العربي، يشابه بشكل كبير طريقة العمل الغربية في مجال الإعلام، حتى أن دورها في العالم العربي أضحى أكثر من قناة إعلامية لتصبح أداة ضمنية للديمقراطية. بقلم فيصل بن محمد الغزاوي