في سنة 1991 قدم الخبير الاستراتيجي وعالم المستقبليات الدكتور المهدي المنجرة خمسة أسباب تبرر ضرب العراق وجعله ساحة للآلة العسكرية الأمريكية المدمرة، وهذه الأسباب تتمثل في : أولا: سعي أمريكا إلى تعزيز نظام القطب الواحد، ومتابعة كل ما من شأنه زعزعة هذا النظام. ثانيا: كون العراق بلدا مستقلا علميا وتكنولوجيا عن الغرب. ثالثا: أن الخبرة العسكرية العراقية تشكل تهديدا حقيقيا للكيان الصهيوني الغاشم. رابعا: العراق يمثل رمز وذاكرة الحضارة العربية والإسلامية مما يقف حاجزا أمام عولمة قيم الغرب. خامسا: إن هذا الغرب قد وجد نفسه مضطرا لتجديد خيوط التبعية إليه، بعد تآكل النمط القديم في الاستعمار. وهذه الأسباب في مجموعها، لو أضفنا إليها عاملا اقتصاديا مرتبطا بتوفر العراق على أسلحة الدمار الشامل، لأنها لم تكن برأي رئيس مفتشي الأسلحة بالعراق "هانز بليكس" إلا مبررا ثانويا بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية وحليفتها بريطانيا، والآن قد تأكد بعد إسقاط نظام صدام حسين أن العراق لم يكن يملك هذا النوع من الأسلحة، مما عجل باستسلام القوات العراقية في ما يقارب ثلاثة أسابيع بمعدل نصف ما سطر له سابقا من الزمن. ورغم أن هذه الحرب مختلفة تماما عن حرب 1991 التي شاركت فيها 73 دولة وبمباركة الأممالمتحدة تحت ذريعة حماية الشعب الكويتي، فالحال الآن أن هذه الحرب لم تكن إلا عدوانا على حرمة شعب محاصر منذ عقد من الزمن، وانتهاكا للمبادئ الإنسانية والمواثيق الدولية، إذ أن الأممالمتحدة، المنظمة الدولية التي تسهر على أمن العالم، لم يكن لها موقف معارض لنشوب الحرب، واكتفت بنداءات الاستغاثة للأزمة الإنسانية، دون التساؤل عن الجاني وعن أهدافه، مما يطرح استفهاما عميقا عن مستقبل هذه الهيئة وعن مدى شرعيتها الآن، مادامت تكيل بمكيالين ولا تدور إلا مع مصلحة الكبار والأسياد، فإذا قتل الضعيف أقامت عليه الحد وإذا قتل القوي تركته، ومن هنا لا نستغرب لماذا يستبعد المسؤولون في واشنطن دورا حيويا لها في عراق ما بعد الحرب بمنطق: "من اصطاد الفريسة هو فقط من يملك حق التصرف فيها". وهذا تحول خطير يهدد استقرار العالم واستقلال شعوبه، فأمريكا في كل حرب تخترع مبررات مقبولة نظريا ومرفوضة واقعيا، من قبيل "محاربة الإرهاب" و"تحرير الشعوب"، مع أن أمريكا لم تقم أساسا إلا على أنقاض الهنود الحمر وعلى خيرات الشعوب المستضعفة، فكيف بها تحمي حقوقا هي أول من ينتهكها؟ وهذه العنجهية الأمريكية قد لقيت هذه المرة معارضة شديدة من خلال مظاهرات ومسيرات ضخمة عبر أنحاء العالم عبرت عن تنديدها بالحرب والاحتلال، وأفرزت تشكيل دروع بشرية من داخل العراق. ومن تأثيرها على المستوى الرسمي، أن أدت إلى إحداث تحالفات وتقاطبات متضادة بين من هو مع الحرب وبين من هو ضدها، وموقف فرنسا وألمانيا وروسيا وغيرها مما يؤشر على صحوة الضمير العالمي وعلى بزوغ معالم نظام جديد قد يتبلور أكثر مستقبلا، لأن عين أمريكا لا يحدها العراق، بل تمتد إلى سوريا وإيران وربما إلى كوريا الشمالية. وإلى حدود الآن، فأمريكا ترسل إشارات هنا وهناك، تعيينا أو تلميحا لأخذ العبرة، خاصة لسوريا التي تتهم بإيواء الفارين من مسؤولي العراق وبدعم حزب الله اللبناني الخطر، الذي يهدد أسطورة "إسرائيل الكبرى". وهذا الوضع المؤلم يستدعي من الدول العربية والإسلامية تحركا سريعا لحماية خريطتها السياسية والأمنية والقومية عبر مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات مشتركة ذات طبيعة غير حكومية بين هذه الدول، لتنوير الرأي العام العربي والإسلامي وقيادته بعيدا عن الخلافات المصطنعة، لأن منظمتي الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي قد أبانتا عن فشلهما في تدبير شؤون الأمة بفعل تدخل أمريكا في صناعة "لوبيات" داخلها وتعمل لصالحها، وما الدعم الذي تتلقاه مصر بجانب "إسرائيل" إلا دليل على "جفاف لحمها ودمها من عروبة أو إسلام"، رغم أن الشعب المصري هو رمز البطولات ومفجر المسيرات في كل مناسبة، وغير بعيد عن هذا المساندة المكشوفة لكل من قطر والكويت للعدوان الأمريكي على العراق بجعل أراضيها محطة لإنزال جيوش العدو. وهذه الدول التي ساندت أمريكا هي بدورها ستسقط كما تسقط "قطع الدومينو"، كما يقول المهدي المنجرة لأنها جميعا تشكل منطقة حيوية وموقعا استراتيجيا لسياسة أمريكا، "فنحن لم نبق في الامبريالية والهيمنة، بل دخلنا ميكا إمبريالية، وهي شيء جديد في العلاقات الدولية وفي التطور الإنساني (1). وفي ظل هذا الإشكال المعقد، لا ينبغي للأمة العربية والإسلامية أن تسقط في لعبة الاستعمار والاحتلال من جديد، فثمة تحديات داخلية لابد أن نعالجها أولا، ومن بينها مسألة القيم في مفهومها الحضاري، فمستقبلنا رهين بها، فحينما تخاذلنا عنها أصابنا الوهن وأدركنا العجز، لذلك نجد الحكومات العربية والإسلامية تنفق الأموال الطائلة رغم فقرها لشراء الأسلحة قصد خلق نوع من توازن الرعب، مع أن أغلب الدول التي صرفت ميزانيات هامة على الأسلحة هي أول من يخنع لثقافة الأسياد وأوامرهم، وخذ على سبيل المثال باكستان والسعودية، وبالتالي هناك حاجة ملحة إلى حماية رصيدنا الثقافي والحضاري لأنه وحده سلاح العصر، فاليابان لم تشغل نفسها بكثرة الترسانات العسكرية بقدر ما تحرص على قيم الإبداع والتصنيع والاعتماد على الذات وحب العمل وخدمة الوطن... لذلك يجب على المجتمع العربي والإسلامي في هذه الآونة الحرجة أن يهتم أكثر ببناء الذات على أسس العلم والمعرفة والأخلاق والديمقراطية كمنهج للحياة والاستمرار. يحكي لنا المفكر الألمعي "مالك بن نبي" أن حوارا جرى بين "كونفوشيوس" وتلميذه "هوتسي كوج"، الذي كان يسأله عن السلطة، فأجابه أن السلطة توفر ثلاثة أشياء: لقمة العيش والتجهيزات العسكرية والثقة في الحكام. فسأله عما يستغني عنه أولا في هذه الثلاثة؟ فأجابه عن التجهيزات العسكرية أولا. فسأله ثانية عما يستغني عنه من الباقي؟ فأجاب: "في هذه الحالة نستغني عن القوت لأن الموت كان دائما نصير الناس، ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أي أساس للدولة"(2). وفي الحقيقة فمعظم الهزائم التي تلقيناها كانت بفعل الخلل الداخلي، فالعراق كان دوما مهددا بالسقوط، لأن حق المواطن في اختيار نوابه وقادته، وفي التعبير عن رأيه كان من ضمن المحرمات، بالإضافة إلى النزيف الداخلي الناتج عن تذمر ما يمكن تسميته ب"الأقليات" (الشيعة والأكراد) بفعل التهميش الممنهج والعنف المقصود، وكان هذا ورقة ضغط على النظام العراقي لتقديم استقالته، وهذه القضية هي نفسها قد وظفت مع نظام طالبان في أفغانستان في ظل مجتمع قبلي عشائري (التاريخ يعيد نفسه). وهذه المسألة الاجتماعية لها خطورتها إذا علمنا أن كثيرا من البلدان العربية والإسلامية تعيش إثنيات وعصبيات غالبا ما تؤدي إلى الفوضى وعدم الاستقرار السياسي وظهور الفوارق الطبقية (الجزائر، اليمن...) وكل هذا بفعل تفشي العنصرية وغياب التداول السلمي على السلطة. يقول العلامة عبد الرحمن ابن خلدون: "وما كان المجد مشتركا بين العصابة، وكان سعيهم له واحدا كانت هممهم في التغلب على الغير والذب عن الحوزة أسوة في طموحها وقوة شكائمها ومرماهم إلى العز جميعا، وهم يستطيبون الموت في بناء مجدهم ويؤثرون الهلكة على فساده، وإذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبيتهم وكبح من أعنتهم واستأثر بالأموال دونهم فتكاسلوا عن الغزو وفشل ريحهم ورئموا المذلة والاستعباد"(3). ولكأني بابن خلدون في كلامه هنا يعلق على أحداث الحرب على العراق، فحينما استولى النظام على خيرات الدولة وتحكم في سياستها، وقف الشعب معزولا عن رسم مصيره ووجهته حتى سقط تحت وطأة الأمريكات وخلفائهم، فما كان على البعض إلا أن يتنفس الصعداء ويستبشر بخير قادم على يد العدو الذي وصف بعضهم رئيسه بأنه "رجل السلام" و"مخلص الشعوب"، في الوقت الذي كان البعض الآخر يرمي تماثيل صدام من مكانها تعبيرا على نهاية عهد الديكتاتوريات والديناصورات الحاكمة"، التي لا تزحزحها ولا تزيحها أصوات الناخبين بقدر ما تسقط بفعل قانون البيولوجيا (الموت)، أو في أحسن الأحوال بالانقلابات العسكرية، أو حينما تتفضل أمريكا علينا بإزالتها لتضع محلها دمى مكبلة وموجهة على شاكلة "قرضاي أفغانستان"، وهذا ما سيقع كذلك في العراق لافتقارنا إلى الرشد السياسي (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها) الأحقاف الآية 11. 1 الدكتور المهدي المنجرة، جريدة الأيام العدد 79 الصادر من 27 مارس إلى 02 أبريل 2003. 2 مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي. نقلا عن الدرس الأفغاني لخالص جلبي سلسلة اخترت لكم العدد 14 ص 32 33. ط 1. 2003. 3 ابن خلدون: المقدمة. دار الكتب العلمية بيروت ط1. 2000. ص 133 بقلم: العربي إدناصر كلية الشريعة المزار أيت ملول