تراجعت القضية الفلسطينية في وسائل الإعلام الإقليمية والعربية منذ أن بدأ الحراك العربي، وظن كثيرون أن القضية قد أصبحت في عهدة التاريخ، وهي ستندثر، وفق بعضهم، في زحمة تقسيم البلدان العربية. هناك من شعروا بسعادة كبيرة لتراجع القضية الفلسطينية لما في ذلك من تحررهم من المسؤولية، ولما فيه من استرخاء وراحة بال. وبعضهم، وهم الذين يرفعون راية المقاومة والتحدي، كانوا ينتظرون اليوم الذي يثبتون فيه أن القضية الفلسطينية حية لا تموت، وأن عروبة فلسطين تحميها سواعد قوية وعيون ساهرة مصرة على بقاء فلسطين أرضا عربية مقدسة. ويصدق هنا التاريخ عندما يقول لنا أن التاريخ لا يصنعه إلا الأقوياء الشجعان الذين يصرون على انتزاع حقوقهم، أما المتخاذلون فلا يصنعون إلا الخزي والعار، ونتائج أعمالهم وبال على رؤوسهم. وفي هذا عبرة للفلسطينيين والعرب الذين ظنوا أن المفاوضات ستنقذ ماء وجوههم. عنجهية إسرائيل وغباؤها انبطح العرب أمام إسرائيل مرارا وتكرارا عبر أكثر من عشرين سنة، وتوسلوا منها الرضا والقبول، لكن إسرائيل لم تستفد من المبادرات الاستسلامية العربية، واستمرت في صلفها وعنجيتها لتوصل العرب إلى عري تام لا يسترهم شيء. ولم تتورع أيضا عن استخدام عضلاتها لضرب كل عربي يمكن أن يرفع رأسه. فهي من ناحية، خذلت المستسلمين، ومن ناحية أخرى أصرت على استفزاز المؤمنين بالحقوق العربية والفلسطينية. فلا هي استطاعت الاستفادة من الخونة، ولا استطاعت أن تتخلص ممن يتحدونها. وقد انطبق هذا السلوك على أسلوب تعامل إسرائيل مع مسألة خطف الإرهابيين الثلاثة. لم تأخذ إسرائيل عبرة من التاريخ، واستمرت في أسلوبها العنجهي العدواني ضد العرب، وعملت على تصعيد المواجهة خاصة مع قوى المقاومة في غزة. ينتظر البطل عادة المبارزة لأنه يدرك أنه لن يكون بطلا بدون مبارزة. وهذا ما انتظرته المقاومة الفلسطينية التي لم يقتنع بها المتهافتون على المفاوضات مع إسرائيل. لقد ردت المقاومة الفلسطينة في غزة جيش إسرائيل مرتين، وأفشلته في حربين. لكن المنحازين لإسرائيل من العرب والفلسطينيين رفضوا نتائج الحرب، وعملوا جهدهم لإقناع الناس بأن حماس وكل المقاومة في غزة قد هزمت لأن إسرائيل حققت أهدافها. إسرائيل اعترفت بأنها لم تحقق أهدافها، وأعوانها أصروا على عكس ذلك، وعملوا على تتفيه المقاومة في أعين الناس. ووصل الحد بالكثير من وسائل الإعلام العربية للاستهتار بالمقاومة وأخذوا يصفونها استهزاء بالممايعة. غزة كانت تنتظر لحظة المبارزة لتثبت للعالم أجمع أنها قوة مقاومة وإرادة وتصميم. إسرائيل التي تفكر بعضلاتها قدمت الفرصة للمقاومة الفلسطينية لتخوض معارك عظيمة في ميادين الشرف والبطولة. كان بعض القادة العرب يسخرون من صواريخ حماس ويقولون إنها مواسير تنك ودون أن يدور بخلدهم أن من يصنع ماسورة تنك يمكن أن يفجر رأس التناكين في المستقبل. لقد وعدت حماس ونفذت، وأثبتت نفسها قوة معتبرة ومهيبة في المنطقة العربية الإسلامية، والمستهزؤون أثبتوا سذاجتهم وانكفأوا. التطور التقني الفلسطيني بدأت الصواريخ الفلسطينية بدائية جدا، وسمتها الرئيسية انحصرت في قدرتها على التحليق. لقد خطت المقاومة خطوة مهمة في أنها بدأت تبحث علميا في كيفية تطوير أدوات قتالية يمكن استخدامها ضد إسرائيل. وربما كان ذلك أحد الفوائد الكبيرة والمهمة لخذلان الدول العربية للفلسطينيين، ولقيام فلسطينيين بمهام الدفاع عن الأمن الإسرائيلي. لقد أدرك الفلسطينيون في قطاع غزة أن لا مفر من الاعتماد على الذات، ومن يحاول يصل في النهاية. لقد دفع الحصار العالمي والعربي المضروب على المقاومة المقاومين إلى الإبداع والابتكار والاختراع. ثم تطورت هذه الصواريخ لتصبح أكثر ثباتا في الجو وأبعد مدى، وأكبر حمولة. واستمر التطوير حتى وصلت الصواريخ إلى ما وصلت إليه الآن، الأمر الذي يشاهده الناس أجمعين على شاشات التلفاز. لقد كتبت عام 2004 قائلا إن الصواريخ التي تثير استهزاء أعداء المقاومة ستتطور لتكون أداة فعالة بيد المقاومة ضد إسرائيل. وقد حصل. والآن أقول إن هذه الصواريخ التي تخطى مداها المائة كيلومتر ستتطور لتحمل في المستقبل رؤوسا متفجرة بزنة مائة كيلو غرام وأكثر، وستصيب أهدافها بدقة. الفلسطينيون الساهرون لا يعدمون وسيلة وسيرفعون من قدرات الصواريخ. ولن يتوقف الأمر عند الصواريخ، بل ستتطور أيضا صناعة الإليكترونيات لتكون المقاومة قادرة على اعتراض المكالمات، والتشويش على الأسلحة الإسرائيلية بما فيها القبة الحديدية. وستطور المقاومة قنابل ذكية قادرة على إصابة أهدافها بدقة. وستطور أيضا تقنية الأنفاق والاستحكامات، وعلى الناس ألا تصيبهم مفاجأة عندما تعلن المقاومة الفلسطينية سيطرتها على مستوطنة أو اثنتين في جنوبفلسطين. وعلى هذا على إسرائيل أن تفكر من الآن بترحيل مستوطناتها من الجنوب وإخلاء المنطقة عسكريا لصالح المقاومة. المقاومة ستكون قادرة على تحرير مزيد من الأراضي الفلسطينية مستقبلا، وإذا كان هناك من عائق فهو العائق العربي الذي ما زال يحاصر المقاومة ويصر على قتلها. فمصر مثلا تشكل عنصرا قويا في حصار غزة، وتمنع عنها الكثير من السلع والمستلزمات الضرورية لتطوير القدرات العسكرية. وبدل أن تعمل الأنظمة العربية على حصار غزة، عليها أن تستفيد من الدروس في التطوير التقني، وأن توظف أموالها الطائلة من أجل رفعة الأمة وعزتها. غزة الصغيرة في مساحتها، والقليلة جدا في مواردها تتفوق في تقنيتها العسكريية على أغلب البلدان العربية التي ما زالت تبحث عن أسلحة لدى دول أخرى. غزة كبيرة في عقولها ومبدعيها، وستبقى مثلا ثوريا أمام الأمم مثلما سطرت كل من فييتنام والجزائر مثالين تارخيين رائعين. زمام المبادرة حتى لحظة إعداد هذا المقال بتاريخ 9/8/2014، تمسك المقاومة الفلسطينية في غزة بزمام المبادرة العسكرية في غزة، في حين تقف إسرائيل حائرة :أين تضرب وكيف؟ طبعا لا يوجد توازن عسكري بين غزة وإسرائيل، لكن صواريخ المقاومة تشكل مقدمة كبيرة لإقامة توازن رعب بين الطرفين. وعلى الرغم من أن صواريخ المقاومة ليست على المستوى المطلوب بعد من ناحية الحمولة والدقة، إلا أن المقاومة تعرف أهدافها وتعي تماما كيف تضرب ومتى. واضح أن المقاومة الفلسطينية تتحلى بالعقلية العلمية والتأني والدراسة والتفحص قبل الإقدام، وهي تعي تماما ما يترتب على نشاطها الصاروخي وتبعات ذلك إقليميا ودوليا. وهي هادئة تماما، وتغيب عنها لغة الخطابة والأدبيات المحشوة لغويا والفارغة مضمونا. المقاومة تتكلم بقدر حجمها، ووفق قدراتها، وفمها بحجم هذه القدرات فقط. ذلك الخطاب المتبجح والواهي الذي عهدناه في مناسبات قديمة قد غادر قواميس الخطاب السياسي الفلسطيني، وأصبحت اللغة عنصرا لنقل وإيصال الحقيقة وليس لتضليل الجمهور بقدرات غير موجودة. في ذات الوقت، تبدو إسرائيل حائرة في أين تضرب وكيف. حتى لحظة إعداد هذا المقال، إسرائيل ليست واثقة من ضرباتها الجوية، والعديد من غاراتها كانت موجهة ضد أهداف لا علاقة لها بالمقاومة وأدت إلى قتل فلسطينيين غير مقاومين، وهي تعي أن تدمير بيوت المدنيين وقتلهم سيؤدي إلى ثورة في الإعلام العالمي كما حصل عام 2008/2009. تخشى إسرائيل أن تكون مهزلة أمام العالم، على الرغم من أنها تنحدر تدريجيا نحو هذا المقام، ولذلك لا تقوم بالطلعات الجوية المكثفة والشبيهة بما حصل عام 2008. وهنا يتأكد لنا أن إسرائيل لم تعد تعرف الكثير من الأهداف في قطاع غزة، وأن غزة قد استطاعت تقليص أعداد الجواسيس والعملاء الذين يزودون إسرائيل بالمعلومات بصورة كبيرة جدا. سمحت سنين الانقسام الفلسطيني للمقاومة الفلسطينية ملاحقة الجواسيس والعملاء وضربهم، وأخذت المعلومات التي تصل إسرائيل تتناقص. وواضح أن المقاومة في غزة قد طورت من أساليبها الأمنية بحيث أصبحت أكثر حذرا في استخدام الأجهزة الإلكترونية وإطلاق التصريحات التي تحمل معلومات تفيد العدو. الحرص الأمني في غزة شديد، وتم توظيف وسائل جديدة للمراقبة والتشويش من أجل الحفاظ على أمن غزة. كما أن القطاع قد امتلأ بالأنفاق والتي أقيمت وفق أسس إنشائية علمية تتيح للمقاتل الحركة السريعة والسهلة، وتجعل من انكشافها أمام العدو أمرا صعبا للغاية. قلة المعلومات جعلت إسرائيل غير قادرة على معرفة الأهداف وتحديدها بدقة. من ناحية الحرب البرية، تبدو إسرائيل أكثر ترددا وذلك بسبب عدم قدرتها على الرؤية الجيدة. إسرائيل لا تملك معلومات عن تطورات في أدوات المواجهة العسكرية البرية. هي لا تعرف الأسلحة المتوفرة الآن في أيدي المقاومة، ومثلما فوجئت الآن بالصواريخ التي تصل حيفا، قد تفاجأ بصواريخ قوية مضادة للدبابات والدروع. كما أن إسرائيل لا تعلم عن شبكة الأنفاق التي تقوم عليها غزة، ولا تستطيع أن تحسب المفاجآت التي يمكن أن تعترض جيشها فيما إذا قرر دخول غزة. ومن المحتمل أن يتعرض جيشها لخسائر كبيرة فيما إذا دخل، وقد يقع جنود أسرى بيد المقاومة. المقاومة تتمنى أن يدخل جيش إسرائيل المدجج بالسلاح لأنها على ثقة بأن كرامة هذا الجيش ستمرغ بالأوحال. وإسرائيل ما زالت تعيش تحت وطأة هزيمتها في حرب تموز/2006، وحربيها على غزة، وتقف حائرة أمام احتمال ضربة قوية جديدة من قبل المقاومة الفلسطينية. المقاومة ترفع رأس الشعب احتاج الشعب الفلسطيني في زمن الشعور بالترهل والهوان دفعات قوية لكي ترتفع معنوياته وتتعزز ثقته بنفسه. لقد قدمت المقاومة الفلسطينية للشعب مثلا بالتضحية والفداء، والصمود والتحدي، وأدى أداؤها الميداني المحكم إلى بعث الحياة من جديد في أبناء الشعب في الداخل والخارج، وأخرجتهم من دائرة الثقافة التفاوضية البائسة، وبعثت فيهم الروح الثورية الضرورية لاستعادة الثقافة الوطنية التي تراجعت أمام الثقافة الاستهلاكية. لقد عمل الأعداء بالتعاون مع السلطة الفلسطينية على إلحاق الهزيمة المعنوية بالشعب الفلسطيني، وتغييب وعيه الوطني، وإسقاط قضيته من تكوينه التربوي، لكن تخطيطهم خاب بأيديهم عندما ظنوا أن عملا عسكريا قد يُخضع المقاومة. وبعد أن بدأوا بحملتهم أخذوا يدركون أنهم تورطوا، وهم يبحثون الآن عن مخرج. المهم أن هذه الحرب الدائرة الآن أخرجت الشعب الفلسطيني من ثقافة أوسلو إلى ثقافة المواجهة، وسنجد في القترة القادمة المزيد من الأصوات الفلسطينية التي تدعو إلى نبذ أوسلو وملحقاته لصالح المقاومة الفلسطينية. الآن يسير الفلسطيني برأس مرفوع بعد أن أذله أهل أوسلو.