لم يكن يخطر ببال الغربيين عامة، والفرنسيين خاصة، وهم يغزون ديار الإسلام بالحديد والنار وجيوش الاستعمار، نهبا للخيرات وتوسيعا للمستعمرات وتوطينا للعلمانية في القرنين التاسع عشر والعشرين، أن الزمان سيدور دورة عجيبة مثل دورته في الثلث الأخير من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي. فلم تكد تنقضي بضعة عقود على رحيل الاستعمار المباشر، حتى كانت أفواج من المهاجرين المسلمين أهالي المستعمرات القديمة قد وصلت إلى المدن والعواصم الأوروبية متخطية بلاط الشهداء. لم يكونوا هذه المرة غزاة فاتحين على صهوات الخيول وركابها، لكن -ويا للقدر العجيب- كان معظمهم هاربين لاجئين يطلبون إطعاما من جوع وأمنا من خوف وتشغيلا من بطالة وتعليما من جهل. وفي خمسة عقود من الزمن تزيد أو تنقص، كان الإسلام قد استوطن بلاد العلمانية، محتلا المراتب المتقدمة بين أديان أوروبا وطوائفها العتيقة والحديثة. لم يعد دينا مهاجرا، بل أصبح مستقرا يتجذر ببطء لكن بفعالية، وسط تحولات دولية سريعة التقلب، وصحوة دينية كبيرة المدى، وتدخلات كثيرة أطرافها وجهاتها تريد التأثير في انبعاثه واستقراره، بمن فيها الدول الأصلية التي خرج منها مهاجرا في أرض الله الواسعة. فهل يلقى هذا الإسلام ترحيبا وإدماجا في بلاد العلمانية وفصل الكنائس عن الدولة، أم يعاني من رفض ظاهر وخفي ورغبة في طرده وإخراجه؟ وهل تريد هذه العلمانية إدماج مسلمين من دون دين، أم تشترط عليهم إجراء بعض التعديلات في الفهم والسلوك الديني حتى يكونوا مواطنين كاملي الحقوق والواجبات؟ وهل الإسلام الأوروبي -والفرنسي على وجه الخصوص- قضية سياسية أم اجتماعية أم دينية أم جيواستراتيجية؟ وأي سبيل تسلكه الدولة الراعية مع الإسلام، هل تنهج الأسلوب الأمني كما تفعل كثير من الدول العربية والإسلامية مع شعوبها عامة، ومع الحركات الإسلامية خاصة؟ أم تختار الأسلوب الثقافي والتربوي؟ والفصل بين الكنائس والدولة، هل يسري على الإسلام، وهل يمكن تطبيقه عليه رغم تأخره في الحضور داخل المشهد الديني؟ ألا يمكن تصريف الجانب السياسي للمسلمين ليندمجوا في الحياة السياسية كمواطنين غربيين لا فرق بينهم وبين الآخرين، مع تصريف الجانب الديني في مجاله الخاص كما هو الحال مع الكنائس؟ هل يتم التعامل مع الحضور الإسلامي -بفرنسا نموذجا- وفقا للأحكام القانونية والدستورية، أم وفقا للمواريث التاريخية والرصيد الانفعالي المكنون في الصدور؟ الأسئلة كثيرة، والقضية ذات فصول مثيرة. لكننا نقدم بعض الأجوبة عن هذه الأسئلة المطروحة ضمن هذا الملف الأسبوعي من قضايا في الميزان. أجوبة لم يسطرها مسلمون غربيون، ولكنها كتبت بيد بأقلام كتاب ومفكرين فرنسيين أنفسهم، اخترنا منهم كلا من طوماس ديلطومب في مقاله المنشور في عدد شهر غشت من شهرية لوموند ديبلوماتيك بعنوان حين يصبح الإسلاميون فرجة، والأستاذ ميشيل مورينو في مقاله الإسلام بفرنسا والجمهورية: الخروج من الأحكام المسبقة، ومساهمة منه في أشغال لجنة الإسلام والعلمانية(لجنة فرنسية حرة تجمع عدة تيارات ومفكرين وتنظمها كل من رابطة المدرسين وفرع لجنة حقوق الإنسان وصحيفة لوموند ديبلوماتيك، وتشتغل منذ أكثر من عقد من الزمن، وتدور أشغالها حول سبل الحضور الإسلامي في العلمانية). للتعليق والمشاركة، راسلونا عبر عنوان الجريدة أو عبر البريد الإلكتروني [email protected]