يوم الإثنين 10 فبراير 2014 قال وزير الإسكان في حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي، يوري آرييل، إن قراره بإعلان مناقصات لبناء (1400) وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربيةالمحتلة كان بالتنسيق مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري وبموافقته. وقد سارعت الولاياتالمتحدة إلى النفي، غير أن الصفة المجهولة والمستوى المتدني للمسؤول الأميركي الذي أصدر بيان النفي من دون أي اسم أو صفة رسمية يطعنان في صدقية النفي الأميركي. كما أن مضمون النفي الأميركي تضمن مغالطة فاضحة عندما قال إن "موقفنا من المستوطنات لم يتغير" مثل المغالطة التي تضمنها تصريح المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، جن بساكي، يوم الجمعة قبل الماضي عندما قالت "إننا الآن وكنا دائما نعتبر المستوطنات غير شرعية". فالموقف الأميركي من المستعمرات الاستيطانية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967 قد "تغير" فعلا بالتراجع تدريجيا عن اعتبارها "غير قانونية" إلى اعتبارها "غير شرعية" إلى اعتبارها "عقبة" في طريق السلام وموضوعا للتفاوض على "الوضع النهائي" لأراض فلسطينية يشير كل السلوك الأميركي إلى أن الولاياتالمتحدة تعدها أراض متنازع عليها وليست أراض محتلة. بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 أوضحت الولاياتالمتحدة بأن المستعمرات الإسرائيلية "غير قانونية" طبقا للقانون الدولي وفي سنة 1978 أكد المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأميركية أن "جميع" هذه المستعمرات التي تقع "وراء الخط الأخضر" غير قانونية وظلت هذه هي السياسة الأميركية المعلنة حتى نهاية رئاسة جيمي كارتر. لكن هذا السياسة بدأت تتغير منذ تولى رونالد ريغان مقاليد الرئاسة عام 1981، فقد أعلن ريغان عدم موافقته على وصف الإدارة السابقة للمستعمرات الاستيطانية بأنها "غير قانونية"، فهي "ليست غير قانونية" كما قال، مشيرا إلى أن أحد قرارات الأممالمتحدة "ترك الضفة الغربية مفتوحة لكل الناس – العرب والإسرائيليين والمسيحيين على حد سواء". وبعد ذلك بدأت الإدارات الأميركية تصف المستعمرات الإسرائيلية بانها "غير شرعية". وبالرغم من هذا "التغير" الجوهري الأميركي، فإن جامعة الدول العربية قادت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى التورط الكارثي في مؤتمر مدريد ل"السلام" عام 1991 ثم إلى توقيع اتفاق "إعلان المبادئ" (اتفاق أوسلو) مع دولة الاحتلال بعد عامين على أرضية تفسير ريغان للأراض المحتلة كأراض "مفتوحة" لكل من هب ودب وللمستعمرات باعتبارها "ليست غير قانونية". ثم جاء الرئيس جورج دبليو. بوش الذي وصف المستعمرات الاستيطانية الكبرى بأنها "حقائق جديدة على الأرض" قال إنها يجب أن تأخذ مكانتها في المفاوضات التي ترعاها بلاده بين دولة الاحتلال وبين منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يبعث في الرابع عشر من الشهر الرابع عام 2004 برسالته الشهيرة إلى رئيس وزراء دولة الاحتلال آنذاك آرييل شارون ويتعهد فيها بنتيجة للمفاوضات تحتفظ دولة الاحتلال بموجبها ب"المراكز السكانية الإسرائيلية الكبرى الموجودة" في الضفة الغربيةالمحتلة. في مقابل ذلك، وكما كتب السفير الأميركي الأسبق لدى دولة الاحتلال دانييل كيرتزر في "ذى أميريكان إينتريست" في الأول من آذار/مارس عام 2010، أعطى مستشار شارون دوف فايسغلاس لمستشارة الأمن القومي الأميركي آنذاك كوندوليزا رايس رسالة جاء فيها أن حكومته سوف تضع "خلال الأيام القليلة المقبلة تعريفا أفضل لخط البناء في المستوطنات" في الضفة الغربية وقال السفير كيرتزر إن فايسغلاس أبلغه بأن "مسؤولين إسرائيليين بمستوى وصلاحيات مناسبة سوف يجلسون معي للعمل معا على اتفاقية تحدد الخط الخارجي للبناء في المستوطنات". وهذا اتفاق واضح على التنسيق الثنائي بين الجانبين، بدأت دولة الاحتلال بعده في "توسيع" و"تسمين" المستعمرات القائمة مكررة إعلان التزامها بعدم بناء مستعمرات جديدة. وفي مقابل ذلك أيضا، ذكر كيرتزر أن فايسغلاس أبلغه بأن حكومته سوف تزود كيرتزر ب"جدول زمني لإخلاء المستوطنات العشوائية". لكن أكثر من مائة مستوطنة "عشوائية" تعدها دولة الاحتلال "غير قانونية" ما زالت حتى الآن تتوسع بدلا من إخلائها. واستشهد كيرتزر ب"تقرير ساسون" الذي أعد بطلب من شارون ونشر عام 2005 وخلص إلى أن المستعمرات الاستيطانية التي توصف ب"العشوائية" وتعد "غير قانونية" بموجب قوانين دولة الاحتلال إنما بنيت ومولت بدعم وموافقة وزارات الحكومة و"الإدارة المدنية" للحاكم العسكري للضفة الغربية والمنظمة الصهيونية العالمية ومجلس المستوطنات التي توصف ب"القانونية" الذي يحول أموال الدعم الحكومي له إلى بناء "العشوائيات". وقد أخفى شارون التقرير وأسدل عليه ستار النسيان ليتساءل كيرتزر: "لماذا تغمض الحكومة الإسرائيلية عينها طوال عقود من الزمن عن نشاط غير قانوني بصورة واضحة بموجب القانون الإسرائيلي؟" ولم يجب كيرتزر على سؤاله صراحة لكنه حمل حكومة دولة الاحتلال ضمنا المسؤولية عن بناء هذه المستوطنات، بينما لا تزال حكومته تلتزم صمتا أميركيا مطبقا حول الموضوع. وفي سنة 2011 استخدمت الولاياتالمتحدة حقها في النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لإجهاض مشروع قرار يصف المستوطنات بأنها "غير قانونية"، مع أنها مررت في المجلس سابقا القرارات (446) و(465) و(476) التي تقرر عدم وجود "أي صلاحية قانونية" للمستوطنات وانطباق ميثاق جنيف الرابع على الأراضي المحتلة. في آب/أغسطس الماضي، أي في الشهر الأول لاستئناف المفاوضات بين دولة الاحتلال وبين منظمة التحرير، قال كيري إن بلاده "ترى المستوطنات جميعها غير شرعية"، لكنه بعد أن ورط المنظمة فيها يعمل الآن على "إقناعها" بقبول عشرات الآلاف من المستوطنين الذين لا يعيشون في المستعمرات الكبرى التي سوف يتم ضمها إلى دولة الاحتلال كمواطنين في دولة فلسطين المأمولة ويعمل كذلك على إقناع هؤلاء المستوطنين بقبول هذا الحل، على ذمة معاريف العبرية في الأول من الشهر الجاري. وعلى ذمة آفي شيلون في هآرتس يوم الأربعاء الماضي فإن "اتفاق الإطار" الذي يقترحه كيري سوف يبقي (80%) من المستوطنين حيث يوجدون الآن. ومع أن قوانين الضرائب الأميركية تحظر استخدام أموال التبرعات للأعمال الخيرية المعفاة من هذه الضرائب لأغراض سياسية داخل الولاياتالمتحدة أو خارجها، تستمر الحكومات الأميركية المتعاقبة في غض النظر عن استمرار تمويل الاستعمار الاستيطاني في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة من أموال هذه التبرعات. فعلى سبيل المثال، ذكر تقرير للنيويورك تايمز في الخامس من تموز/يوليو عام 2010 أن ما لايقل عن (40) جماعة أميركية جمعت أكثر من (200) مليون دولار خلال السنوات العشر السابقة كمنح معفاة من الضرائب للاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، بينما ذكرت تقارير إعلامية أميركية إن مساهمة هذه التبرعات في تمويل الاستيطان تزيد على المليار دولار منذ أوائل عقد التسعينيات من القرن الماضي. والمشاركة الأميركية في الاستيطان الإسرائيلي لا تقتصر على المال فقط بل تشمل البشر كذلك. فازدواجية الجنسية الأميركية – الإسرائيلية التي نقلت ستانلي فيشر من محافظ للبنك المركزي في دولة الاحتلال إلى نائب لمحافظ بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي أواخر العام الماضي سمحت أيضا للإرهابي الأميركي - الإسرائيلي باروخ غولدشتاين باستيطان مستعمرة كريات أربع قرب الخليل بالضفة الغربية ليرتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994. وتنص الفقرة "إي" من القسم (401) من قانون الجنسية الأميركي لسنة 1940 على أن المواطن الأميركي بالولادة أم بالتجنس "يفقد جنسيته" إذا شارك "في أي انتخابات سياسية في أي دولة أجنبية"، لكن مزدوجي الجنسية الأميركية – الإسرائيلية لا يشاركون في انتخابات دولة الاحتلال فحسب بل ويستوطنون الأراضي الفلسطينيةالمحتلة بطريقة غير قانونية وغير شرعية تنتهك السياسة المعلنة للولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، قالت الأميركية سارا هيرشهورن في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراة إن (45) ألف مستوطن في الضفة الغربية يحملون الجنسية الأميركية، يمثلون حوالي (15%) من مجموع المستوطنين فيها، ومنهم من شارك في تأسيس مستعمرات استيطانية مثل الحاخام شلومو ريسكين الذي أسس مستعمرة افرات، وبوب براون الذي ترأس مجلس بلدية مستعمرة تكوع، حسب ما نشرته يومية هآرتس العبرية في السابع من الشهر العاشر عام 2011. ويتضح من العرض السريع أعلاه ل"تغير" الموقف الأميركي من الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي أن الولاياتالمتحدة في موقفها لا تنتهك القانون الدولي وميثاق الأممالمتحدة وقراراتها فحسب بل تنتهك أيضا القانون الأميركي وكذلك قانون دولة الاحتلال الإسرائيلي. في إطار الحماية الاستراتيجية التي توفرها الولاياتالمتحدة لأمن الاحتلال ودولته تحولت عمليا إلى حاضنة عسكرية وأمنية وسياسية ومالية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني للأرض العربية في فلسطين، وهو ما يحولها إلى شريكة لدولة الاحتلال في استعمارها الاستيطاني. في مقال له نشرته "زي نت" في العاشر من هذا الشهر قال المحامي والمؤلف الأميركي تشيس مادار إن بلاده مولت دولة الاحتلال بحوالي ربع تريليون دولار خلال الستين سنة الماضية وإنها تمول ربع ميزانيتها العسكرية تقريبا. وفي الخلفية التاريخية للشراكة الأميركية في مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين لا يمكن إغفال حقيقة أن الدولة الأميركية ذاتها قد بنيت على استعمار استيطاني مماثل اعتمد التطهير العرقي أيضا كاسحة ألغام له. وليس من المتوقع من الرئيس الأميركي باراك أوباما، عندما يستقبل رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي الزائر بنيامين نتنياهو في الثالث من الشهر المقبل، أن يشارك السفير كيرتزر في أمله في أن "تنحاز" الولاياتالمتحدة "في نهاية المطاف" إلى "الجانب الصحيح من التاريخ" في موضوع المستوطنات.