أكد الوجه العلمي والثقافي سعد الدين العثماني، أن أي نوع من الإقصاء لا يمكن أن يخدم النقاش المجتمعي والتطور المجتمعي، بل يجهضه، موضحا أنه لا حرج من أن يعبر أي كان عن رأيه، وهو حر فيه، وعلى المخالفين أن يبينوا موقفهم منه ويناقشوه. ولا شك أن في أمور الدين يرجع أساسا إلى أهل الاختصاص، قائلا فحتى الدول الأوربية والأمريكية اليوم بدأت تشجع على استشارة المجالس العلمية أو المؤسسات الدينية المختصة بشؤون المسلمين في القضايا التي تتعلق بهم. ويوضح العثماني في حواره مع "التجديد" مواقفه من التعدد وتقنينه، وكيف أسيء استعمال "إذا اجتهد المجتهد فأصاب فله أجران"، وفي الحوار ينتقد من يصفهم ب"سدنة معبد" الأيديولوجية الحداثوية. *يزعم البعض في إطار تجاوز الأحكام القطعية، أن تلك النصوص نزلت في وقت معين، ولحدث معين، ولتقليل واقع موجود في أفق تجريمه، كتحديد التعدد في أربعة زوجات في أقصى تقدير بعد أن كان الرجل قبل الإسلام يتزوج بلا عدد. أو أن الإسلام جعل نصيب الإناث في المواريث "للذكر من مثل حظ الأنثيين" في أفق المساواة، بعد أن كن يورثن ولا يرثن، في إطار ما يعرف بالقراءة التاريخية للنصوص أو "التاريخانية". كيف تنظر إلى هذه المسألة بالتحديد؟ ***هذه المسألة دقيقة للغاية. أريد أن أطرح بين يديها بعض المقدمات. أولا إن طرح أمثال هذه القضايا يجب أن يتم على المستوى العلمي والمعرفي، وليس على المستويات العاطفية أو الصراعية. فهذا الانزياح يضر بأي استنتاجات صحيحة وبأي نقاش جدي ومسؤول. ثانيا، كل تطرف يؤدي إلى تطرف مضاد على سنن القاعدة الفيزيائية المعروفة كل فعل يؤدي إلى رد فعل مضاد له في الاتجاه مساو له في القوة. ثالثا للجميع حرية الرأي والتعبير عنه بدون حجر، في احترام للضوابط القانونية والأخلاقية المتعارف عليها. رابعا كل اتهام أو تجريح للأشخاص غير مقبول، وإنما النقاش يجب أن ينصب على الأفكار. ومن هنا فاتهام شخص معين بالكفر أو بالردة أو بالنفاق بمعانيها الدينية غير مقبولة شرعا. إذا التزمنا بهذه الضوابط أظن أن الأمور تضحى عادية بسيطة. فالعلماء عبر القرون كانت لهم العديد من القراءات التاريخية لنصوص شرعية معينة وفق ضوابط علمية. وإنما اختلف العلماء في اجتهاداتهم وتنوعت مدارسهم لأن الاختلاف الفقهي والفكري غير مدان. وقديما قال عمر بن عبد العزيز: "ما سرني أنَّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة". وهذا يتعلق بالاختلاف العلمي والفكري لا الاختلاف الذي يؤدي إلى الشقاق والصراعات المدمرة للمجتمع. وأذهب إلى أبعد من ذلك لأقول بأن كثيرا من العلماء قالوا باجتهادات غريبة، لم تلتفت إليها الأمة واعتبرت شاذة، دون أن ينقص ذلك من قدرهم ومن استفادة الناس من علمهم. وقد وقع هذا حتى من بعض صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودرج الاتجاه العام في الأمة الإسلامية على تجنبها. لكن المطلوب من المتكلم أن يحتاط في أمور لها أهمية لدى عموم المسلمين وترتبط بالنسبة لهم بأمور دينهم، ليس من باب الحجر ولكن من باب المسؤولية ومن باب الإسهام الإيجابي لا العمل المؤدي إلى التأثير السلبي. والمطلوب من الذي يعبر عن رأيه أيضا أن يتسلح بالحد الأدنى من المعرفة في المجال المراد الحديث فيه، وطرح الرأي بطريقة نسبية مفتوحة للتراجع أو التطوير، على قاعدة "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". وهذه المقدمات والضوابط تعني الجميع على اختلاف آرائهم في القضايا المذكورة في السؤال. أما فيما يخص مضمون القضايا المطروحة، فلا شك أن في الدين الإسلامي قطعيات وثوابت، وفيه أحكام متغيرة يتطور الاجتهاد فيها حسب تطور الزمان والأفكار والثقافات والعادات وغيرها. وتلك القطعيات هي التي تشكل أساس الدين من جهة، ومناط الوحدة بين المسلمين حيثما وجدوا من جهة ثانية. والناس ينقادون إليها طواعية بمقتضى إيمانهم، فلا إيمان بدون حرية اختيار. وغير صحيح أن جميع الأحكام الواردة في القرآن والسنة النبوية تاريخية ولا أنها كلها قطعية نهائية، بل فيها من كلا النوعين نصيب. لنفترض الآن أن شخصا لم يقتنع بأن إحدى تلك القطعيات ليس حكما قطعيا حقيقة؟ أظن أنه يمكن أن يعبر عن رأيه إذا أراد، ويدافع عنه لا حرج. ويمكن للعلماء والمفكرين الآخرين أن يناقشوه، أو أن يفتح فيه نقاش مجتمعي بأسس علمية وفكرية وفي جو مسؤول. فإذا كان الموضوع يرتبط بقضية ذات ارتباط بمقتضيات قانونية أو تنظيمية على صعيد المجتمع، فالحسم فيها لا يكون بنخبة محدودة، وإنما وفق توجهات مجتمعية واضحة، وبالطرق الديمقراطية المعتمدة، ومشاركة المؤسسات ذات الاختصاص. وأريد هنا أن أقول بالنسبة لمثال تعدد الزوجات بأني أتبنى موقفا وسطا بين اجتهادين، فرأيي أن الآيات التي تتحدث عنه إنما تؤسس لحكم الإباحة لا لحكم الوجوب أو الندب، وفي الوقت نفسه تمنع الزواج بأكثر من أربع. وحكم الإباحة يمكن للمجتمع أو السلطات السياسية ذات الاختصاص أن تقيده أو تمنعه إذا تبينت المصلحة في ذلك. وهو ليس تدخلا في حكم ديني شرعي، والذي يبقى على الرغم من ذلك على أصل الإباحة، ولكنه تدبير اجتماعي أو سياسي تقتضيه مصالح. ويبقى الباب مفتوحا باستمرار للمجتمع لتغيير تلك المقتضيات القانونية حسب رغبته وتطور حاجياته. فالنقاش إذن يجب أن ينصب حول تنزيل الحكم الشرعي وكيفية تطبيقه لا على تغييره. أعطي مثالا على ذلك أن القرآن الكريم نص على أن البيع حلال: "وأحل الله البيع وحرم الربا"، وهذا لا يمنع السلطات المختصة في المجتمع المسلم من منع أنواع من البيوع أو تقييدها. وهو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته بالنهي عن أنواع منها من موقع المسؤولية السياسية لا من موقع النبوة والرسالة. كما أن الله تعالى أباح أكل لحوم الغنم والبقر والإبل، لكن عمر بن الخطاب قيد شراءها لأسباب اجتماعية واقتصادية بحتة في فترة الضائقة الاقتصادية، فمنع الناس من أكل اللحم أكثر من ثلاثة أيام في الأسبوع حتى لا يستأثر بها الأغنياء وحدهم، وكان يراقب السوق ويعاقب من يتجاوز ذلك. إننا بهذا الملحظ نخرج الموضوع من دائرة النقاش الديني المحض، إلى دائرة النقاش المجتمعي والقانوني، ونكون قد سلكنا نهجا وسطا يعتمد مقاصد النص وآفاقه ويأخذ بعين الاعتبار تطور الواقع، دون أن يهدر أحكامه الأصلية أو يتجاوز صبغته الدينية. كما أننا نترك الباب مفتوحا للأجيال المقبلة لتختار في تطبيق النص اجتهادات مختلفة قد ترجع به إلى ما كان معتبرا في مرحلة سابقة. * بين متمسك بحرية القول في الدين استنادا إلى المرجعية الكونية التي تنص على حرية التعبير، وبين مانع للقول في الدين استنادا إلى المرجعية الدينية وبدعوى أن للدين أهل الاختصاص كما للطب والكيمياء المعلوميات أهلها، وهو ما ينتج عنه في النهاية إقصاء متبادل، فهل هناك منطقة للتلاقي بين وجهتي النظر هاتين؟ ***في رأيي ليس هناك تعارض بين الموقفين. لا حرج في أن يعبر أي كان عن رأيه، وهو حر فيه، وعلى المخالفين أن يبينوا موقفهم منه ويناقشوه. ولا شك أن في أمور الدين يرجع أساسا إلى أهل الاختصاص، فحتى الدول الأوربية والأمريكية اليوم بدأت تشجع على استشارة المجالس العلمية أو المؤسسات الدينية المختصة بشؤون المسلمين في القضايا التي تتعلق بهم. والسبب في ذلك هو أن اتخاذ القرارات في قضايا تتداخل مع أمور دينية من قبل أشخاص لا دراية لهم بها أدت إلى أخطاء وتوترات وصراعات لا طائل من ورائها، وأضرت بمصالح عدة. واليوم أضحت الخبرة العلمية الدينية شيئا معتمدا في العديد من تلك الدول فيما يخص مثلا الأطعمة الحلال والمعاملات البنكية المقبولة إسلاميا وأمور الزواج والطلاق والحضانة وغيرها. وعلى الرغم من أن ذلك يختلف من دولة لأخرى، إلا أن الاتجاه العام يتطور نحو مزيد من اعتماد الخبرة الشرعية الدينية للمؤسسات العلمية المسلمة هناك، كما يفعلون الشيء نفسه بالنسبة لأتباع الديانة اليهودية. وقد كان موقف العلماء المسلمين في الغرب، ورجال دين من ديانات أخرى، ذا دور مهم في النقاش الذي ساد في قضايا مثل الاستنساخ والقتل الرحيم وتشريح الجثث وغيرها. فإذا كانت هذه الدول غير المسلمة تتبنى مع مرور الوقت هذا الموقف، فالأولى التمسك به في البلدان المسلمة. وهذا لا يمنع من النقاش الحر المفتوح. *أثيرت مجموعة من القضايا في الآونة الأخيرة حول منع التعدد، والمساواة في الإرث وغيرها، ويلاحظ المتتبع أن الذي أثارها ويثير مثل هذه القضايا هي نخبة معينة، وفي معرض الجدالات والتجاذبات السياسية في كثير من الأحيان، فهل ترى أن هذه المطالب مطالب اجتماعية ملحة للمجتمع؟ ثم إذا لم تكن مطالب اجتماعية، فلماذا تركز عنها هذه الفئة؟ ولماذا تثار في الوقت الذي يطالب فيه الناس بمطالبهم الحقيقية في العدالة الاجتماعية والديمقراطية والعيش الكريم؟ ***ما يمكن أن يشار إليه هنا في البداية ملحظتان، أولهما أن بعض النخب تعيش بعيدة عن المجتمع، منفصلة عنه، غارقة في مثالية مفرطة سرعان ما تصطدم بالواقع الاجتماعي العنيد. ولذلك تلجأ أحيانا إلى كيل التهم للشعب، ولعموم المواطنين الذين يتجهون إلى التدين والالتزام بمقتضياته. فيتهمونهم بالجهل والغرق في الفكر الغيبي. فهي نخب من فرط عجزها عن الإقناع بأفكارها تلقي باللائمة على المجتمع. الملحظ الثاني أن بعض تلك النخب تبنت مفهوما نمطيا جامدا للحداثة، يتماهى مع تجربة واحدة هي التجربة الفرنسية. ويتصرف بتعال على المجتمع وعلى المدارس الأخرى، ويتحول مع مرور الوقت إلى ما يشبه "سدنة معبد" لأيديولوجية حداثوية. والجميع يعرف بأن تجارب الحداثة في العالم المعاصر، وفي الغرب بالخصوص، متعددة ومتنوعة، بل ومتعارضة في عدد من التفاصيل. وقد كنت كتبت أثناء النقاش حول الدستور عن المرجعية الإسلامية للدولة، وكون الذين يتبنون الفصل بين الدين والدولة يتبعون مدرسة شاذة في الفكر الإنساني الحديث نفسه. فالنموذج الغربي قائم على فصل الكنيسة عن الدولة، لا فصل الدين عنها. وإذا استثنينا التجربة الفرنسية فجميع التجارب الأخرى يحضر فيها الدين سياسيا على مستوى من المستويات أو بشكل من الأشكال. وكنت كتبت منذ سنوات مقالة حول الدين في الدستور النرويجي وما يتضمنه من إشارات إلى الأسس الدينية التي تبنى عليها مملكة النرويج. فالمادة الثانية تنص على ما يلي: "كل سكان المملكة يتمتعون بحق ممارسة دينهم بحرية. تعتبر الديانة الإنجيلية اللوتيرية الديانة الرسمية للدولة. وعلى السكان الذين يعتنقونها تربية أبنائهم عليها". وفي المادة الرابعة نقرأ: "ينتمي الملك إلى الديانة الإنجيلية اللوثيرية، ويجب عليه الحفاظ عليها وحمايتها". كما نجد في المادة الثانية عشرة بأن "أكثر من نصف الوزراء يجب أن يكونوا معتنقين للديانة الرسمية للدولة". هذه المواد الصريحة في الدستور لم تجعل من النرويج دولة دينية، ولم تخرجها من دائرة الدول الديمقراطية الحديثة، ما دامت السلطة تمارس فيها بقواعد وآليات مدنية. لكن القراءة النمطية المغلقة للحداثة تؤدي إلى نوع من الجمود يخل بالنقاش المجتمعي ويشوهه. وبالنسبة لتعدد الزوجات مرة أخرى، فعلى الرغم من أني عبرت عن رأيي بحق الدولة في تقييده ومنعه وفق ضوابط، فهذا لا يمنع من أن إثارته من موقع ايديولوجي صدامي لا يمت إلى انتشاره الحقيقي للمجتمع. فعدد الزيجات المتعددة هو أقل من واحد بالمائة من العدد الإجمالي للزيجات، بينما يتغاضى عن مشاكل أخرى أهم تمس الثلث أو الربع منها. ففي منطق الأولويات لا يستقيم الأمر. * في معرض الجدال حول القضايا المثارة حول الإرث والتعدد والتكفير.. تم استبعاد مشاركة النخبة الدينية في الإعلام، في الوقت الذي مُكن لوجهة النظر الأخرى، أليس للمؤسسة الدينية الحق في الرأي؟ وهل هذا الإقصاء يخدم جوهر النقاش؟ ***أي نوع من الإقصاء لا يمكن أن يخدم النقاش المجتمعي والتطور المجتمعي، بل يجهضه. وكأن بعض النخب التي فشلت في الإقناع بأفكارها، تريد أن تفرضها من فوق، رضي المجتمع أو لم يرض. وهذا دأب نخب من هذا النوع طيلة التاريخ المعاصر، وهو الذي حدا ببعض المفكرين إلى التحذير من التحديث القسري، الذي يؤدي إلى الصراع والتمزق، بدل التطور الإيجابي. ويبدو أن بعضا من تلك النخب هذا ما تريده بالضبط، لأنها لا تكتسب القيمة إلا بأن تقدم نفسها حارسة لحداثة مزعومة ومصطنعة. وأحيانا تكون الأفكار المطروحة صحيحة من زاوية ما أو في المطلق، لكنها قد لا تتوافق مع الواقع الاجتماعي أو مع درجة تطوره أو تطرح في سياقات سياسية أو فكرية صدامية بغية إثارة التوترات والبروز بمظهر المكافح ضد تطرف يشكل خطرا مزعوما على البلد. ومع الأسف فإن الذي يطغى في مثل هذه الأجواء هو الإقصاء، والنخب ذات التوجه الإسلامي هي التي تتعرض له أكثر من غيرها. لكن عندما يطال ذلك مؤسسات رسمية أو أعضاءها فإن الأمر لا يمكن إلا أن يحكم بالفشل على نتائجه. والحمد لله أن هناك نخبا أخرى –وهي الأكثر– تلتزم بمنهج الحوار والتفاعل الإيجابي وتتحلى بتواضع العالم والمفكر، وتنصف المخالف. ولا شك أن النخب ذات التوجه الإسلامي هي أيضا بحاجة إلى التمسك بالمنهج ذاته وإعطاء الأهمية للإقناع والطرح المنطقي، واحترام المخالف، وتجنب الإلقاء بتهم التكفير والتبديع والمروق من الدين، والتحريض على الكراهية. وإن كنت أرى أن التمايز الحدي بين علماني وإسلامي كما يروج له في الإعلام لا وجود له في الواقع. ففي فكر كل فريق جزء مما ينعت به الطرف الآخر بدرجات متفاوتة. *لماذا يتم توظيف "من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فاخطأ فله أجر واحد"، في معرض تجاوز الأحكام القطعية؟ ***سبق أن ألمحت إلى أهمية التسلح بالحد الأدنى من المعرفة الضرورية قبل تفسير القرآن الكريم أو استنباط أحكام شرعية، دون أن يحجر ذلك على الإنسان الذي يريد أن يتفيأ بظلال القرآن ليستخلص عبره ويتفهم معانيه. لكن من المعروف أننا إذا أردنا الاستناد العملي على تحليل نصوص أدبية أو سياسية أو علمية فإننا نلجأ إلى مختصين. والمحكمة عندما تريد خبرة في ميدان تلجأ إلى خبراء معتمدين محلفين، ولا يمكن أن نخالف ذلك في ميدان واحد هو المتعلق بتفسير القرآن أو استنباط أحكام الدين. وعندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد" إنما يتحدث عن القاضي الذي يحكم ويجتهد في الهامش التقديري المخول له. أما مخالفة النص القانوني الصريح والقطعي دون مبرر مفهوم فهذا يعتبر معيبا ونقطة سلبية في ملف القاضي، وقد يلغى الحكم في مرحلة موالية من مراحل التقاضي. الأمر نفسه بالنسبة للاجتهاد في المسائل الدينية، كي يدخل في القاعدة لابد أن يصدر عن متخصص، مع الاحتفاظ دائما بحرية التعبير عن الرأي بوصفه حقا فرديا. لكن كما أن المحكمة أو جهات تشريعية لا تأخذ في مجالات الخبرة إلا برأي خبير، ففي المسائل الدينية كذلك يرجع رسميا إلى أهل الخبرة. وكثير من الدول الإسلامية أحدثت لذلك مؤسسات تعطي التفسير أو الفتوى الرسمية، مع احتفاظ غيرها برأيه بوصفه رأيا فرديا. *إذا كان المبدأ "لا اجتهاد مع النص"، فهل هناك اجتهاد في النص فهما وتنزيلا؟ ***هذه القاعدة أسيء فهمها كثيرا، ففسر لفظ النص فيها على أنه كل كلام ورد عن الشرع، والصحيح أن القاعدة تشير إلى معنى خاص هو: اللفظ الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا، أي هو القطعي. وهو قليل جدا في النصوص الشرعية. والاجتهاد في النص القطعي يكون في تطبيقه لا في أصله، أخذا بعين الاعتبار لما يكتنف ذلك من حالات ضرورة أو حاجة (أي مصلحة حاجية) أو مآل (عندما يؤدي إلى عكس مقصده الشرعي) أو غيره. * ما دام الشخص المتحدث في الدين إنما يعبر عن مجرد رأي لا يلزم أحدا، فلماذا يلام؟ ولماذا يتم صده عن إبداء الرأي بدعوى وجود أهل الاختصاص؟ وفي الجهة المقابلة إذا كان لكل تخصص رجاله فلماذا فقط في الجانب الشرعي يراد له أن يكون حقلا مفتوحا للجميع؟ أم أن الإسلام يأبى في جوهره أن تحتويه فئة أو طائفة أو مؤسسة ويفتح آفاقه لكل مجتهد فيه؟ ثم أليست الأمة هي الحكم في النهاية من حيث قبول أو رفض هذا الرأي أو ذاك؟ ***أولا كما قلت سابقا الحجر عن الرأي غير وارد، لأنه إذا كان للإنسان حرية الاختيار في أصل الدين والإيمان، فمن باب أولى أن يكون عنده في أحكامه الفرعية. ثانيا الكلام الذي يعنينا هنا هو حول الرأي المعتمد قانونا وسياسة على صعيد المجتمع، فهذا يرجع فيه إلى الخبرة الشرعية من قبل متخصصين، كما يرجع في كل الميادين إلى متخصصيه. وقد سردت أمثلة لكني أضيف مثالا آخر وهو أن لجان الأخلاقيات في المجال الطبي الحيوي في عدد من الدول الأوربية تضم اليوم إلزاما متخصصا في علوم الدين، قد تعتمده الكنيسة إن كان الأمر يتعلق بالمسيحية. ولا يكتفى في هذا المجال بالمعلومات العامة التي يملكها أعضاء تلك اللجان. فهنا فرق بين اجتهاد فردي لممارسة فردية، وبين اجتهاد للمجتمع ككل، يراعى في تدبير شؤون المجتمع. وقديما قال العلماء: المفتي مخبر والحاكم مجبر. أي أن الفتوى بوصفها مقتضى إيمانيا يلتزم فيها الفرد بما يطمئن إليه قلبه تقربا إلى الله، ولكن إن كان لها تأثير على المجتمع فيرجع إلى الخبرة المتخصصة قبل أن يحول الاجتهاد إلى قوانين أو أنظمة إلزامية على مستوى المجتمع. وهذا التحويل يرتكز إلى إرادة المجتمع التي يعبر عنها ديمقراطيا بمؤسسات منبثقة عنه. * هذا حكم الله في المسألة التالية؟ متى يكون الحكم حكما لله فعلا لا ظنا؟ ومتى يكون مجرد رأي للفقيه والعالم؟ ***لا يطلق العلماء على حكم معين بأنه حكم الله إلا إذا كانت دلالته عن الله ورسوله واضحة واتفق علماء المسلمين على تلك الدلالة، أما ما اختلف العلماء على دلالته فالاتجاه العام فيه الاحتياط واعتباره اجتهادا. وهو المروي عن الإمام مالك بن أنس الذي كان يقول إنه لم يكن من أمر العلماء المقتدى بهم أن يقولوا في شيء: هذا حلال وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنا، ولا نرى هذا وغيرها من العبارات. *يقول البعض إن الله حرم الحرام، وأحل الحلال بشكل حصري، وترك منطقة عفو للاجتهاد دونما قول بالحرام والحلال، وإنما الاجتهاد بالقول بالصواب أو الخطأ، أو هذا لا أقبله وهذا لا بأس فيه، وفتح فيه للناس القبول أو الرفض وفق استفت نفسك ولو أفتاك المفتون، وبالتالي فتح الباب من أجل الترشيد والتوجيه في منطقة العفو أو دائرة الإباحة، كيف تقيمون وجاهة هذه الرؤية؟ ***الأصل في هذه المعاني الحديث النبوي الشريف: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته"، والمهم هنا التذكير بأن الله تعالى فصل الحرام كما قال تعالى: "وقد فصل لكم ما حرم عليكم"، فالمحرمات الشرعية محددة ومحدودة، مثل الشرك وشرب الخمر وأكل الميتة وأكل لحم الخنزير والزنا وغيرها، وهي محل اتفاق بين علماء الأمة. وحذر القرآن الكريم من القول في ذلك بدون علم: "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب". لكن مجال العفو لا يتعلق فقط بدائرة الإباحة، فقد يعفى للمرء عن تصرفاته عندما تأتي عن جهل أو عدم استطاعة أو عذر من الأعذار الأخرى. وهناك أنواع من النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب علماء إلى أنها صدرت عن مقال غير مقام تبليغ الدين أو بيانه. وذلك مثل التصرفات التي صدرت عنه بوصف الإمامة السياسية، فهو هنا يضع الإجراءات –أمرا أو نهيا– لتدبير شؤون المجتمع، فيجب ألا يقع خلطها بالحلال والحرام في شؤون الدين.