شعر الزميل الجماهري أنه أمسك بصيد ثمين حين بلغه مشاركة رئيس حركة التوحيد والإصلاح في مؤتمر بباكستان جمع قيادات الحركات الإسلامية، واعتبر هذه المشاركة بمثابة دليل الإدانة في حق الحركة وأنها مرتبطة بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وأن الاجتماع هناك كان بدعوة من هذا التنظيم بقصد مدارسة سبل التنسيق للرد ! ولأن الزميل الجماهري لم يعثر في مساجلاته صيدا أثمن مما عثر عليه، فقد غشي عينه ضباب كثيف صار لا يرى معه الفرق بين الجماعة الإسلامية في باكستان وبين الإخوان المسلمين، بل نسي حتى اسم أبي الأعلى المودودي، فسماه عبد الأعلى المودودي، ونسب إليه المشروع الإخواني، مع أن المبتدئين في دراسة الحركات الإسلامية يميزون بين مدرسة الجماعة الإسلامية بباكستان وبين مدرسة الإخوان، فما بالك بالمنتهين سندع هذا النقاش العلمي جانبا، لأننا نظن أن الزميل الجماهري ليس له تخصص في دراسىة الحركات الإسلامية يسعفه في التمييز بين المدارس ومعرفة خصوصية المدرسة الآسيوية التي تختلف كثيرا عن التجربة الإخوانية في كثير من تفاصيلها لاسيما ما يرتبط بمفاصل المشروع السياسي وشكل التعاطي مع مكونات الحقل السياسي. ولو كان له مثل هذا التخصص العلمي، لأدرك أن المدارس الحركية التي شاركت في مؤتمر باكستان وقبلها مؤتمر إسطنبول لا تنتمي كلها إلى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وأن أغلبها يعتبر من خارج هذه المدرسة، ولو اكتفى بإلقاء نظرة سريعة على لائحة الحضور لأمكنه الخروج بهذه الخلاصة لوجد أن المدرسة التركية بطيفيها (حزب السعادة وحزب العدالة والتنمية) لا تنتمي إلى المدرسة الإخوانية، ولوجد أيضا أن المدرسة الحركية الماليزية وغيرها لم نسمع من اي باحث انتسابها إلى مدرسة الإخوان. . نعم هناك عدد من الحركات المحدودة لا تزال تحتفظ بعلاقتها بالمدرسة الإخوانية، وكان بعضها حاضرا، لكن وجود ممثلين لهذا التنظيم من هنا أو هناك لا يعني أن الحركات التي حضرت فجأة نسيت كل الاختلافات بينها وبين مدرسة الإخوان واختارت أن تتظلل بعباءة التنظيم الدولي للإخوان، فالمؤتمر الأول الذي تداول في إسطنبول في شأن الصحوة الإسلامية أو الثاني الذي جمع قادة الحركات الإسلامية جمع مختلف المدارس، ولم تكن مدرسة الإخوان فيها الطيف الغالب، بل كانت نسبتها الأقل بالنظر إلى المدارس الممثلة. نخرج من النقاش العلمي، وندخل إلى جوهر السياسة، فالزميل الجماهري اعتبر مشاركة رئيس الحركة في مؤتمر قادة الحركة الإسلامية في باكستان دليلا على أن الحركة فرع من فروع هذا التنظيم الدولي وأنها تنفذ أجندته في المنطقة. ولبندأ بسؤال شرعية إقامة هذا اللقاء بين قادة الحركات الإسلامية؟ وهل مجرد المشاركة في هذا اللقاء يطعن في وطنية الحركة الإسلامية واستقلالية قرارها؟ ولنفترض أن النقطة الوحيدة في جدول الأعمال كانت هي إجهاض التجربة الديمقراطية في مصر؟ أين المشكل في ذلك؟ سأنسى أن قوى اليسار في العالم كانت تجتمع في الأممية الاشتراكية لتقييم وضعية اليسار في العالم، وسأنسى أيضا أن بعض القوى اليسارية في أوربا وأمريكا اللاتينية المناهضة لوحدتنا الترابية كانت تحضر ضمن هذا الإطار جنبا إلى جنب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وسأنسى أيضا كل جداول أعمال هذه اللقاءات التي كانت تتحدث عن عوائق انحسار اليسار في العالم، وسبل إعادته إلى الحكم في العديد من التجارب؟ وسأنسى أيضا كل ما كتبته جريدة الاتحاد في مواكبة بعض انتصارات اليسار الانتخابية في عدد من البلدان وتبشيرها بالعودة المحتملة للموجة اليسارية في العالم لاسيما بعد الانتصارات الانتخابية التي حققوها في أمريكا اللاتينية وبعض دول أوربا؟ سأنسى كل ذلك، ولن أعتبره مؤشرا على ارتباط الاتحاد الاشتراكي بتنظيم دولي له أذرع وأجنحة في كل العالم ويخدم أجندات تأتي من خارج، وسأنسى أيضا تاريخ العلاقة مع الدولة الراعية والحاضنة، روسيا والصين، ببساطة لأني لا أومن بالمنطق الدوغمائي الذي يشغله الزميل الجماهري فقط ضد خصومه. طبيعي ومنطقي أن يلتقي الذين يحملون نفس المشروع على هم واحد، أم هل يريد السيد الجماهري من حزب اليمين أن يدعو حزبا يساريا للتفكير في سبل توصيف طبيعة الصراع الطبقي وتحديد التموقعات الاجتماعية للحزب الثوري؟ أم يريد من الأحزاب اليمينية أن تفكر في عقد مؤتمر دولي تدعو فيه قوى اليسار إلى التفكير في سبل خوصصة القطاعات ذات الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة؟ مشكلة الدوغمائية أنها لا تسمح للعقل أن يأخذ مساحة للتفكير الهادئ في الموضوع، فالحق واحد لا يتجزأ، ولا يمكن أن يكون لليسار الحق في أن تجتمع أطيافه المختلفة لمناقشة التحديات التي تواجهه، ويمنع هذا الحق من غيره فقط لأنهم إسلاميون؟ ثم، ما المانع أن تكون مصر النقطة الوحيدة في جدول أعمال هذا المؤتمر مع أن الأمر لم يكن تماما كذلك، فهل إجهاض تجربة التحول الديمقراطي في مصر حيثية صغيرة لا تتطلب أن تفرد بالنقاش ويخصص لها كل تيار على حدة مؤتمرا لمدارسة تداعياتها على تجارب التحول الديمقراطي في الوطن العربي؟ ألا تستحق عودة الاستبداد مثل هذا النقاش داخل فصائل اليسار أنفسهم؟ أم أن "النسخ الجديدة" من اليسار مشغولة اليوم بهموم أخرى غير هم مقاومة الاستبداد وتفكيك بنى السلطوية كما علمتنا أدبياتهم التاريخية؟ إنه معيب جدا أن ينزلق المثقف والسياسي إلى الأسلوب الأمني الاستخباراتي، فيصير عنده كل من زار إيران ولو للسياحة جزءا من الحرس الثوري ! وكل من حضر مؤتمرا في لبنان عميلا لحزب الله ! وكل من حضر إلى مؤتمر يجمع الحركات الإسلامية ممثلا للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين !! من حسن الحظ أن منطق الدولة يعتبر اليوم أذكى من منطق بعض النخب التي استبدت بها الدوغمائية حتى صارت لا تدري ما يصدر عنها، فقد استعمل الملك الحسن الثاني قيادات الاتحاد الاشتراكي في مبادرات دبلوماسية ترمي إلى إقناع اليسار الذي صعد إلى الحكم في العديد من الدول بقضية وحدتنا الترابية العادلة، وجمع قيادات الحركات الإسلامية في الجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية، وفعل مثل ذلك الملك محمد السادس في إشراك الإمكان الحزبي في الدبلوماسية الوطنية، وكان حضور الاتحاد الاشتراكي في الأممية الاشتراكية مفيدا للبلاد ولمصالحه الوطنية، وقد قامت الحركة الإسلامية بأدوار كبيرة في هذا الاتجاه، إلى الحد الذي أوشك أن لا تكون أي حركة إسلامية في الوطن العربي تقول بغير مغربية الصحراء بما في ذلك حركات إسلامية جزائرية، وقامت إلى جانب حركات إسلامية بعدد من دول غرب إفريقيا بدور محوري في إفريقيا عبر واجهة توسيع دائرة الوسطية ونبذ التطرف والغلو، وهي تستثمر اليوم وجود حزب العدالة والتنمية في الحكم لتقنع رجال الأعمال في تركيا بمضاعفة استثماراتهم الأجنبية في المغرب، ويمكن أن تقوم في المتوسط القريب بأدوار كبيرة لو صعدت حركات إسلامية إلى الحكم او شاركت فيه أو كان لها وجود مؤثر في القرار السياسي في أقطارها. إن المقياس الحقيقي لاختبار وطنية هذه الهيئة واستقلالية قرراها السياسي وعدم ارتباطها بأي جهة أجنبية ليس هو حضورها في هذا المؤتمر أو ذاك، وإنما المقياس هو مدى استثمارتها في علاقاتها المختلفة لخدمة المصالح الوطنية. إن التحدي المطروح، هو كم عدد الأحزاب اليسارية التي نجح الاتحاد الاشتراكية من خلال الأممية الاشتراكية في إقناعها بمغربية الصحراء، وكم كانت فعالية الدبلوماسية الحزبية في خدمة المغرب على كافة المستويات، وما الكسب الذي سيتحقق للمغرب من مشاركة الإسلاميين لبعضهم البعض؟ هذا هو التحدي؟ وهذا هو السؤال؟ وإلى هذه الوجهة ينبغي أن يسير النقاش، أما أن ينزلق المثقف والسياسي إلى الأسلوب الأمني الاستخباراتي، فيصير الإسلامي تبعا لذلك يتحسس تأشيرة سفره خوفا من أن يتهم بالعمالة لهذه الجهة أو تلك، فهذه هي الدوغمائية في أحلك صورها.