في ظل الربيع العربي الذي عاشته عدد من الدول العربية كل على طريقتها؛ تبرز الجزائر كدولة عصية على أي انتقال سياسي أو فعل احتجاجي قوي قادر على تغيير الوضع برمته. إذ استطاع النظام الحاكم الذي ينتمي للجيل الأول رغم عجز رئيسه بسبب المرض امتصاص نسيم الربيع الذي كان يهب من تونس وليبيا شرقا والمغرب غربا، ولم تفلح الحركة الاحتجاجية في فرض حالة شعبية غاضبة رغم أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية سيئة بالبلاد في ظل القبضة الأمنية للحاكمين الذين ليسوا سوى عسكريين ورجال مخابرات يضعون في الواجهة رجلا مدنيا. الوضع في الجزائر الذي لم يتغير يطرح تساؤلات عديدة عن مدى تميز الجزائر عن الدول العربية التي شهدت حراكا بغض النظر عن مآلاته وإفرازاته، وتثير تساؤلات عن الأسباب التي تمنع اندلاع ثورة لتخليص الشعب، خاصة أن البلاد ما تزال تعيش على وقع الانقلاب على الشرعية الديمقراطية من طرف العسكر،وخرج للتو من عشرية دموية بعد فرض العسكر إرادتهم على إرادة شعب بأكمله. في هذا الصدد، تنشر «التجديد» ما ورد في دراسة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان «مأزق الانتقال السياسي في الجزائر» للباحث عبد الناصر جابي، تتناول التساؤلات السالفة الذكر. عوامل تبقي الوضع على حاله بعد أن تبين أن الشروط الموضوعية قد تكون عوامل تثبيط وإبقاء على الوضع القائم، تشير الدراسة إلى ثلاثة عوامل ذاتية تدخل إمكانية إنجاز انتقال سياسي في الجزائر إلى المجهول. وهي؛ العامل الأول: خصوصيات النظام السياسي وآليات تسييره عوامل غير مساعدة على إنجاز الانتقال بالسلاسة المطلوبة، لأن النظام السياسي ليس نظاما رئاسيا بالنمط الذي كان عليه النظام التونسي والمصري، كما أن خصوصيات العلاقة التي تربط المدني بالعسكري لن تكون لصالح التغيير والإصلاح، بأي حال من الأحوال، باعتبار أن مسير الواجهة المدني يمكن أن يتغير من دون يحصل أي تغيير على صاحب القرار الفعلي العسكري. العامل الثاني: خصائص الفئات الوسطى في الجزائر وأدوارها، بكل الانقسامية التي تعانيها، فهذه الفئات معزولة ومنقسمة على ذاتها ثقافيا ولغويا، وهي فئات لن تكون ذات فعالية كبيرة في المبادرة والإصلاح، فأغلبها تلجأ إلى الحلول الفردية، كما يتبين من سلوك الهجرة ومغادرة الجزائر عند الشدائد. العامل الثالث: يتعلق بما أسميناه «خصائص الثقافة السياسية الشعبية» التي توصف بكونها مطلبية جذرية ومساواتية، مقابل ما يميز الفئات الوسطى في الجزائر من انقسامية وعدم مبادرة سياسية، تجعل إمكانية اللقاء بين الحركات الاجتماعية الشعبية ومؤسسات هذه الفئات الوسطى –كالحزب والنقابة والجمعية- نادرة وصعبة التحقيق، بكل الانعكاسات التي يمكن أن نتصورها، على مآل هذه الحركات نفسها ومدى تحقيقها لأهدافها. في سياق ذلك، خلصت الدراسة إلى أن أزمة التغيير في الجزائر، تظهر مرة أخرى في تفضيل الحلول الفردية وعدم الإيمان بالقدرة على الفعل الجماعي، فالإنسان الجزائري غير مبال، لا يهتم إلا بنفسه وبمشاكله الشخصية، لا ينخرط في الأحزاب التي غادر ساحتها، يفضل الصلاة في منزله بدل المسجد، لا يقرأ الجرائد، ولا يثق في أي خطاب. تجليات صراع الأجيال أوردت الدراسة قصة أول صراع أجيال شهدته الجزائر والذي وقع بين جيل الآباء المؤسسين للحركة الوطنية، وجيل الفعل الثوري المباشر الأصغر منه سنا، حيث اتهم هذا الجيل الأول بمهادنة الحالة الاستعمارية، وعدم قيامه بالقطيعة التي يفرضها الكفاح المسلح الذي بادر به الأخير (أي جيل الفعل الثوري) في فاتح نونبر سنة 1954 ضد الاستعمار الفرنسي. وأكدت أن هذا الصراع بين الجيلين أثر بصورة واضحة في محتوى الفكرة السياسية الوطنية، إذ أدمج فيها كثير من المقولات التي أفرزها هذا الصراع، لتتحول أثناء الثورة وبعد الاستقلال إلى «ثقافة سياسية وطنية». من تلك المقولات؛ رفض زعامة الفرد، وتفضيل القيادة السياسية الجماعية، وأولوية الشعب على النخبة. وأوضحت الدراسة أن معاداة النخبة وصلت إلى حدودها القصوى في أثناء ثورة التحرير في بعض الولايات. ومن تجليات الصراع كذلك –وفقا للدراسة-؛ سيطرة العسكري على السياسي، وتحول المثقف إلى ما يشبه الكاتب التابع، ونبذ النقاش السياسي والفكري العلني لصالح التسويات الشخصية والشللية المبنية على موازين القوى المؤقتة. هذه كانت من إفرازات المرحلة المؤسسة في تاريخ الوطنية الجزائرية ومحتواها الفكري. تغيير مؤجل رغم توفر شروطه! تؤكد الدراسة أن هناك شروط تساعد الجزائر على الانتقال الديمقراطي تنقسم إلى موضوعية وأخرى ذاتية، وتنحصر الشروط الموضوعية في ثلاث رئيسية تساعد في تسريع إنجاح الانتقال السياسي وإتمامه في ظروف مواتية ومعقولة، وهي؛ ما هو متعلق بالوضع المالي للبلد، وما هو مرتبط بالتجربة السياسية القريبة للجزائريين وما استخلصوه من عبر، ثم البعد العربي والدولي الذي يضغط بقوة. أولا: الوضع المالي الذي تعيشه الجزائر وليس الوضع الاقتصادي، يعد للوهلة الأولى عاملا مساعدا في إنجاح الانتقال لأنه قد يكون عاملا لصاحب القرار باتخاذ القرارات الاقتصادية والاجتماعية التي عادة ما تواكب مرحلة الانتقال بكل تعقيداتها، من دون الرضوخ إلى ضغوط أجنبية أو التخوف من آثار الوضع المالي في الخيارات التي يمكن أن تتخذ. غير أن المفارقة –حسب للدراسة- أن الوضع المالي الميسر موضوعيا قد يتحول إلى عامل معرقل لعملية الانتقال نفسها، كما هو سائد منذ يناير 2011 تاريخ انطلاق الثورات العربية، حيث لجأت السلطات العمومية في هذه الفترة إلى سياسات اجتماعية هي أقرب إلى منطق «الرشوة الاجتماعية»، منها إلى الإصلاح الاجتماعي أو الاقتصادي، بهدف شراء سلم اجتماعي «هشّ» يساعد على استمرار الأوضاع السياسية كما هي وليس على تغييرها؛ أو إدخال تحسينات شكلية تهتم بالإطار القانوني في أحسن الأحوال، من دون النفاذ إلى لب المشاكل، مما جعل الحراك يستمر ويتنوع في مطالبه ويبدو وكأنه من دون سقف. ثانيا: من العوامل المساعدة أيضا ما وصفته الدراسة ب «تعقل الجزائريين» الذين اكتووا بنيران حرب أهلية، لمدة تزيد عن عقد من الزمن، أزقهت فيها أرواح أزيد من 200 ألف مواطن، وتكشف الدراسة أن هذا التعقل في بنوعية النقاش الاجتماعي والسياسي في الجزائر في السنوات الأخيرة مقارنة بالطرح الذي كان سائدا خلال تسعينات القرن الماضي، والذي ساد فيه الطرح الثقافي والإيديولوجي، بدل الاقتصادي- الاجتماعي والسياسي الذي يملك قوة تفاوضية كبيرة. ثالثا: ضمن الشروط الموضوعية المساعدة على إنجاح عملية الانتقال وتسريعها، البعد العربي والدولي السائد منذ بداية السنة الحالية. ذلك أن الجزائر موضوعيا؛ إذ أوضحت الدراسة أن الجزائر لا يمكنها أن تغرد خارج السرب المغاربي والعربي، كأن تبقى الأوضاع راكدة أو تنتكس عما هو ماثل من سقف إصلاحي في المنطقة. وأبرزت أن الوضعان العربي والدولي عاملان ضاغطان على النظام السياسي الجزائري، لكي يقوم بإصلاحات سياسية تساعده على عدم التحول إلى نظام «شاذ» في المنطقة، محاصر دوليا ومن محيطه القريب. دراسة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تؤكد أن ما اعتبرته عوامل موضوعية مساعدة على الانتقال والإصلاح يمكن أن يتحول في بعض الحالات إلى عوامل مثبطة للإصلاح ومعرقلة للانتقال، كما هي حال الوضع المالي الجيد الذي تعيشه البلاد بعد أن تحول إلى عملية «رشوة اجتماعية» واسعة، للإبقاء على الوضع السياسي في الوقت الحالي، كذلك يمكن لتأثير البعدين العربي والدولي أن يكون في اتجاه سلبي على قرار التغيير والانتقال في الجزائر، ففوز الإسلاميين في انتخابات ما بعد الثورة في تونس ومصر يمنح النظام حججا لصالح استمرار الأوضاع على ما هي عليه، وعدم تغييرها، بدعوى الخوق من انتكاسها وتكرار التجربة السابقة التي عاشتها الجزائر في بداية التسعينات. سيناريوهان للانتقال والتحول الشعب الجزائري إلى ثلاثة أجيال سياسية أساسية، ارتبط بها إنجاز عملية الانتقال السياسي التي لن تكون سياسية فقط؛ بل ديمغرافية كذلك. وذكرت سيناريوهات للانتقال السياسي بالجزائر؛ أولا: سيناريو الانتقال الهادئ والسلس للسلطة من الجيل الأول المولود بين العقدين الثاني والثالث من القرن الماضي إلى الجيل الثاني الذي ولد في السنوات الأخيرة من حرب التحرير وبدايات الاستقلال، فالجيلان يعرفان بعضهما البعض، ويملكان نظرة إيجابية عن بعضهما البعض كذلك، وهو ما يسهل عملية الانتقال ويجعلها إيجابية لتدفع بالأوضاع في الجزائر نحو الأمام، خاصة أن عملية الانتقال السياسي بين جيلين، ستبقي الجزائر في حدود الوطنية. ثانيا: سيناريو انتقال السلطة من الجيل الأول إلى الجيل الثالث الأصغر سنا الذي قاد الحركات الاحتجاجية وعبر من خلالها عن رفضه لأوضاعه، وعن معارضته للفئات الحاكمة، وسلطتها السياسية ومؤسساتها وخطابها السياسي، والمختلف من حيث تنشئته وخصائص لحظته السياسية. فهو جيل الفعل المباشر الذي ولد وعاش وتربى في فترة ما بعد الاستقلال، وهي فترة بدأت فيها مشاريع الدولة الوطنية تشهد الكثير من الشروخ والإعياء، وهو سيناريو آخر أكثر اضطرابا وأحد قطيعة مقارنة بالسيناريو الأول. في هذا الصدد، افترضت الدراسة أن الجيل الأول قد وصل إلى نهاية مشواره في الحياة، لأنه أصبح هرما بيولوجيا، فضلا عن الاعتبارات السياسية الأخرى المرتبطة بتسييره للشأن العام، مما يحتم ضرورة انتقال السلطة السياسية إلى جيل أصغر سنا. ومهما كانت نوعية الانتقال وتداعياتها، سواء تعلق الأمر بالسيناريو الأول أو الثاني؛ أفادت الدراسة أن الجزائر تعيش في وضعية تشبه كثيرا المرحلة الأخيرة من الحقبة السوفيتية التي شاخت فيها القيادة السياسية كلها في وقت واحد، باعتبارها وليدة الجيل نفسه تقريبا، مبرزة أنها مرحلة انقراض بيولوجي لجيل كامل في الفترة نفسها تقريبا بكل ما حمله معه من تداعيات سياسية ومؤسساتية معروفة، أثرت بحدة في آخر أيام التجربة السوفيتية في مشاريع الانتقال السياسي. العائق الديمغرافي في الانتقال الديمقراطي تؤكد الدراسة أن الحراك السياسي الذي تعيشه المجتمعات العربية منذ بداية سنة 2011، أفرز تحولات سياسية ذات أبعاد ديمغرافية، وأصبح الحديث بقوة عن جيل الشباب ودوره السياسي، بعد اندلاع هذه الأحداث التي أدت إلى تهديد وإسقاط أنظمة سياسية هرمة ومشاريعها لتوريث الحكم للجيل الثاني من أبناء الحكام. وهي أنظمة سياسية سيطرت فيها «العائلة» على الفعل السياسي الرسمي على نحو واضح، فاحتكرت المال والسلاح والسياسة كمثل الذي حدث في مصر واليمن وليبيا، وسبقها النظام السوري إلى تدشين مشاريع التوريث السياسي للجيل الثاني من الحكام فلي المنطقة العربية. الدراسة حاولت أن تبرز العائق الديمغرافي في التحول الديمقراطي بالجزائر، إذ أفادت أن العلاقات بين الأجيال ونظرة كل جيل إلى الأخر ليست واحدة ومتشابهة، وليست مبنية على أسس ذاتية بل تتوقف على مدى معرفة كل جيل بالآخر واحتكاكه به، وأوضحت أن الجيل الثاني الذي اشتغل لدى الجيل الأول في تسيير المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية لا يزال يكن احتراما معقولا للجيل الأول، ينظر إليه نظرة احترام واعتراف بالأدوار التي أداها في ثورة التحرير واستعادة السيادة الوطنية، أبرزت أنه على عكس ذلك رفض الجيل الثالث دخول مؤسسات الجيل الأول (السياسية والنقابية) مما لم يسمح له بالاحتكاك بالجيل الأول، مما عمق الصورة السلبية لجيل الثورة لدى الجيل الأول. وأكدت الدراسة أن الجيل الأول احتكر تسيير الشأن السياسي منذ مرحلة ما قبل الاستقلال، مما جعله يدفع ثمن هذا التسيير الطويل للدولة الوطنية بكل ما أنتجه من تآكل في الشرعية، وعيوب، كالفساد وسوء توزيع الثروة الوطنية، والتخبط في المجال الاقتصادي والاجتماعي الذي جعل الجزائر تراوح مكانها على الرغم من إمكانياتها الطبيعية والبشرية. أما عن علاقة الجيل الثاني بالثالث فأوضحت الدراسة أنها أكثر موضوعية، لأننا أمام علاقة هي أقرب إلى تلك التي نجدها بين الأجير ورب العمل، فهي علاقة متواترة ونزاعية، لكنها ليست علاقة رفض. وأوردت أن الخيارات السياسية والاجتماعية الصعبة في بداية تسعينات القرن الماضي كتقليص دور الدولة والخصخصة وما رافقها من تسريح للعمال وحل للمؤسسات العمومية، مع ما تزامن من أزمة مالية؛ تسببت في زيادة نقاط الصراع بين الجيلين، لكنها تبقى صراعات مصالح وسياسات اقتصادية لا تتجاوزها إلى الجوانب السياسية والفكرية كما هي نظرة جيل الشباب إلى جيل الثورة.