جميع الحجج التي ساقها ويسوقها مَنْ وقفوا إلى جانب الانقلاب العسكري في مصر تبدو ساقطة في تونس، فلا النهضة استأثرت بالحكومة، ولا هي صاغت دستورا بمواد إشكالية بالنسبة للقوى الأخرى، ولا هي مارست القمع والإقصاء بحق أي أحد. منذ اللحظة الأولى لفوزها بالمرتبة الأولى في انتخابات المجلس التأسيسي، أظهرت حركة النهضة انفتاحا غير عادي على القوى السياسية، وشكلت "ترويكا حاكمة" مع الحزبين الأكبرين بعدها في الانتخابات، فيما تركت الرئاسة لأحد الرموز المحسوبين على فترة النضال ضد بن علي (المنصف المرزوقي). تلك الفترة العصيبة التي كانت خلالها الكثير من القوى اليسارية والليبرالية تمنح الشرعية لقمع النظام للنهضة طوال عقدين من الزمان، قبل أن ينقلب على أكثرها، ويستأثر من خلال حزبه بكل شيء في البلاد. ويعلم الجميع حجم القمع الرهيب الذي تعرضت له النهضة منذ مجيء بن علي إلى السلطة على أنقاض سلفه بورقيبة. وهو قمع تواطأت معه الكثير من تلك القوى التي قبلت بلعب دور "الكومبارس" لنظام عسكّر المجتمع بالكامل من أجل تكريس سيطرة عائلة، ولا نقول حزبا على السلطة والثروة. على أن ما يجري في مصر بعد الانقلاب ما لبث أن أحيا الآمال لدى العديد من القوى اليسارية والليبرالية التي فشلت في خيار الصناديق، وتلك المحسوبة على النظام القديم (حزب نداء تونس بزعامة الباجي السبسي) بإمكانية تكرار السيناريو المصري، وربما بذات الطريقة، وربما التفاصيل أيضا. مقابل جبهة الإنقاذ في مصر، تشكلت جبهة الإنقاذ في تونس، ومقابل حركة "تمرد" في مصر التي خرجت من أروقة الأمن بعد عجز القوى المحسوبة على المعارضة وعلى الثورة في آن في حشد أكثر من آلاف فيما كانت تسميه مليونيات، مقابلها؛ تشكلت "تمرد" تونسية، فيما حضرت ذات المنظومة العربية التي دعمت ذلك، ومن يتابع تغطية الفضائيات العربية التي دعمت الانقلاب في مصر، سيجد ذات السياسة هنا في تونس من حيث تضخيم الاحتجاجات والأخطاء، والمتابعة اليومية للحدث، لكأن ثورة تكاد تندلع بعد ساعات.لا شيء يفضح المنظومة العربية التي تقف خلف دعم مسيرة الثورة المضادة والانقلاب على ربيع العرب أكثر من ذلك الذي يجري في تونس، فالدول هي ذاتها والأموال هي ذاتها، والإعلام والخطاب أيضا، مع توفر عامل آخر هنا في تونس يتمثل في حضور الجزائر في المشهد، والسبب أن تونس بالنسبة إليها تبدو أكثر أهمية من الدول المشرقية، وكذلك الحال بالنسبة لليبيا التي تعيش هي الأخرى ما يمكن القول إنه ثورة مضادة بطريقة مختلفة بعض الشيء عنوانها تكريس الانفلات الأمني ودعم بعض المجموعات التي تواصل العبث من أجل الحيلولة دون انتقال البلاد إلى مرحلتها الجديدة. في الجزائر تجربة شبيهة في الانقلاب على خيار الصناديق، لكنها قديمة بعض الشيء، إذ تنتمي إلى مطلع التسعينات عندما انقلب الجيش على نتائج الانتخابات وخاض حربا دموية ضد جماعات مسلحة نشأت من رحم اليأس من الخيار الديمقراطي الذي انحازت إليه جبهة الإنقاذ. ويبدو أن السلطة الحاكمة في الجزائر لا تريد لتجارب ناجحة في تونس أو ليبيا (مع قدر أفضل من التعددية في الحالة المغربية) أن تثير شهية الشارع الجزائري إلى شيء مماثل، ما يدفعها إلى اللعب في الساحة التونسية من خلال اختراقات في بعض الجماعات المسلحة من أجل تفجير الوضع هناك، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الثورة، ممثلا في ديمقراطية ديكور مبرمجة كتلك الموجودة حاليا في الجزائر، وكتلك التي كانت موجودة أيام بن علي في تونس.على أن الدور الجزائري لا يخفي أبدا الدور الأكبر الذي تلعبه الدول العربية التي دعمت انقلاب العسكر في مصر، والتي لا خيار لديها غير الاستمرار في دعم الثورة المضادة من أجل إجهاض فكرة الثورات برمتها حتى لا تصل إليها، مع العلم أن موقفها لا يتصل أبدا بالإخوان المسلمين أو الإسلام السياسي تحديدا، وإنما بفكرة الثورات والربيع العربي من حيث أتت، وإن أخذ الإسلاميون مستوىً أكبر من العداء بسبب طبيعة الشارع السياسي عندها، والذي يتصدره الإسلاميون أيضا. وحتى في سوريا التي تتخذ فيه بعض تلك الدول موقفا مختلفا، فهي علاوة على صلة ذلك بموقفها من إيران، إلا أنها لا تبدي حرصا على انتصار حقيقي للثورة يمكن أن يؤدي إلى استمرار مسيرة الربيع العربي، بقدر ما تريد الحالة السورية محطة في تجاه تكريه الناس فيها تبعا للنتائج التدميرية التي ترتبت ويمكن أن تترتب عليها. حتى الآن تبدو حركة النهضة التونسية على وعي كبير بما يجري، لكن الأمر لن يمر بسهولة رغم ما تبديه من مرونة، لاسيما أن مشكلة الحياد المفترض للجيش والأجهزة الأمنية لا تبدو صحيحة، ومن العبث التعويل إليها، لكن الأمل أن يُدار المشهد هناك بالكثير من الحكمة حتى لا يُسمح لأعداء الربيع العربي بالنجاح من جديد، مع التذكير بأننا قلنا منذ اللحظة الأولى بأننا إزاء تحولات تاريخية في منطقة بالغة الحساسية للعالم أجمع، ولن تمر بسهولة أبدا، لكن فضيحة أكثر القوى والرموز الليبرالية واليسارية صارت على رؤوس الأشهاد؛ هي التي لا تريد الاعتراف بحجمها في الشارع، ولديها الاستعداد للانقلاب على الثورات وخيار الشعوب من باب النكاية السياسية لا أكثر؛ ما سيسهم في المزيد من سقوطها من أعين الجماهير.