تضافرت نصوص الدين لتحث على العمل والكسب الحلال، وما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله من وسيلة بيان وإيضاح لاستنبات هذه القيمة النبيلة في نفوس المسلمين، وتنقيتها مما علق بها من تصورات وأحكام خاطئة إلا وظفها.. ففي أحاديثه طائفة صحيحة مليحة من التوجيهات المحببة للعمل، وفي سيرته الحياتية جملة كثيرة من المواقف العملية الداعية إلى الكسب.. مما لا يترك للمسلم الصادق أية حجة أو تكأة لإيثار البطالة والفراغ، أو ذل المسألة والاستجداء. ويمكن بسط عناصر هذه المنظومة القيمية المتكاملة وفق العناوين الآتية: 1 - الإسلام دين العمل بامتياز:إن متأمل الوحيين الشريفين ليعجب كثيرا من ارتفاع قضية العمل من مجرد وسيلة كسبية لتحقيق غايات مادية، إلى قيمة دينية وحضارية واجتماعية حفز الإسلام لتمثلها من خلال آيات كريمة وأحاديث شريفة وقصص مؤثرة، وبناها وفق ضوابط منظمة كي لا تميل إلى طرفي الإفراط والتفريط. كما رتبت نصوصه على قيمة العمل من المنافع الدنيوية والثمار الأخروية ما يكون مهمازا يدفع المسلم إلى العمل بقوة وصدق وإخلاص وأمانة لنيل سعادة الدارين. ففي بيان واحدة من غايات الخلق المرتبطة بالعمل والبذل يقول المولى الكريم: "والى ثمود اخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره هو انشاكم من الارض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا اليه ان ربي قريب مجيب" سورة هود 61..فالاستعمار هنا هو طلب العمران، ولا يتم عمران بلا عمل وجهد. وفي الأمر بالكسب والاطمئنان إلى الرزق يقول تعالى: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور" سورة الملك: 15 وفي تقديم القدوات العاملة الداعية بسلوكها قبل قولها، وردت النصوص والأخبار بشهادات مهنية لطائفة من الأنبياء والصالحين في كل زمان.. فهذه آيات سورة المؤمنون ناطقة بمهنة النجارة التي زاولها نوح عليه السلام: قال تعالى: "فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون" سورة المؤمنون27..وهذه آيات سورة سبأ شاهدة لداود عليه السلام بمهنة الحدادة: ولقد ءاتينا داود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد، أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صلحا إني بما تعملون بصير، ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعيرسورة سبأ 12-10 وسورة القصص مخبرة برعي موسى عليه السلام للغنم بمدين ردحا ليس بالقصير من عمره لقاء زواجه... ولم يكن رسول الله بدعا من الأنبياء في هذا السياق، فقد رعى الغنم لأهل مكة على قراريط، ثم ما لبث أن انطلق تاجرا في مال خديجة رضي الله عنها.. ألم يكن عمله في تجارتها بابا لزواجه صلى الله عليه وسلم بها؟ فتأمل!! وكذلك نهج الصحابة الأبرار والعلماء الأخيار، فقد احترفوا حرفا مختلفة؛ تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ( كان أبو بكر ابي بكر أتجر قريش حتى دخل في الإمارة)، وكذلك أوصى عمر ( في كلمته الرائعة:(تعلموا المهنة، فإنه يوشك أن يحتاج أحدكم إلى مهنته)..وبين سَعيدُ بنُ المُسَيّبِ رحمه الله أنْ (لا خير فِيمن لا يطلب المال يقضي به دينه ويصون بِهِ عرْضه ويقضِي بِهِ ذِمَامَه، وَإِنْ مات تركه ميراثا لَمنْ بعدهُ).