لم نكن نشاهد حمل السبحة كسلوك أو مظهر ديني إلا مع الشيوخ، الذين كانوا لا يفارقونها أبدا، و كأنهم كانوا يشعرون بأن هذه السبحة تملك قوة سحرية لا يدرك كنهها إلا صاحبها.. حيث رمزية و دلالات هذا الفعل، كانت ترمز في أذهان الناس إلى نوع من الورع و الصلاح، وربط هذا الفعل بضرورة الالتزام. ومع تطور استعمالاتها لم تعد "السبحة" مظهرا أو مسلكا دينيا فحسب، بل أصبحت عادة اجتماعية، انتشر استخدامها في المنازل كنوع من الديكور والزينة، وتعد أحد أهم الهدايا التي ينقلها حجاج بيت الله الحرام والزوار والمعتمرين من الأراضي المقدسة، حين عودتهم بعد تأدية فريضة الحج إلى ديارهم، وفي بعض الأحيان يقدمها الناس العاديون إلى آخرين كسبا للمودة أو المنفعة، نراها في أعناق الدراويش، ويحملها كثير من الناس للمباهاة والزينة، كما تعد ثروة أو تحفة، لمقتني الجواهر والمعادن الثمينة... ومهما يكن، فقد أصبحت صورة أي شخص رجلا أو امرأة وباختلاف المواقع مألوفة، وهو يداعب عناقيد سبحته، ويحرك خرزاتها ما بين السبابة والإبهام بسرعة مذهلة، وتنتقل أصابعه من حبة إلى أخرى بانسياب يقوده نظمها ب "المسبحة"، من دون أن ينطق بكلمة واحدة من ألفاظ التسبيح والدعاء..، يتحدث إلى الناس ويحكي عن الأيام الخوالي...من دون أن تفارق المسبحة يديه، التي رامت أن تداعب مادة صلبة، ومتحركة في الوقت نفسه.. بحيث أن أصابعه لا يمكن أن تبقى ساكنة مهما كان حاله.. استعمالات مختلفة تشير المراجع التاريخية إلى أن "السبحة" لم تكن مستخدمة في صدر الإسلام، وقد قال عمر بن الخطاب، في ذلك: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده"، غير أن بعض الصحابة استعانوا بعد ذلك في تسبيحهم بما يساعدهم على ضبط العدد مثل النوى والحصى والخيوط المعقودة. وفي العصر الأموي ظهرت "السبحة" وسيلة لتسبيح الله، قبل أن تصبح مع الوقت أحد مظاهر التقوى، ومع توسع الفتوحات الإسلامية، برع الصناع في تصميم السبح من الجواهر والأحجار الكريمة، فضمت خزائن الخلفاء الراشدين والحكام المسلمين أجمل نفائس السبح. وعلى الرغم من أن المغاربة عرفوا شكلا من أشكال المسبحة، واستعملوها لمختلف الأغراض كالزينة والتباهي ولغرض التدين، إلا أن تحبيذها في عملية التسبيح من قبل الصوفيين، وأصحاب الطرق الدينية...، أدى إلى تعزيز محبتها في قلوب قطاع كبير من الناس من الناحية الدينية.. وكانت محط اهتمام عدد كبير من الشخصيات العامة...، وإن كان البعض الآخر منهم قد انتقد استخدامها ورأى فيها أسلوب رياء و بدعة. بين المجزين والمانعين تحيل المراجع التاريخية إلى أن السبحة اتخذت شكلا معروفا، يتكون من تسع وتسعين حبة، بعدد أسماء الله الحسنى التي ذُكِرت في القرآن الكريم، وتنظم هذه الحبات في خيط أو سلك معدني، يفصل بينها - في ثلاثة أقسام متساوية - حبتان مستعرضتان أكبر حجمًا من الحبات الأخرى، علاوة على حبة أكبر من الجميع تتخذ يدا لها، وقد جاءت أسماء الله الحسنى في عدد كبير من الآيات القرآنية الكريمة ومن ثم جمّع عددها، فعن أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن لله تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر). وهناك السبحة المكونة من ثلاث وثلاثين حبة، وهو الأكثر انتشارا، وهناك السبحة المؤلفة من ستة وستين حبة. وتنقل المراجع الفقهية أن المذاهب الأربعة اتفقت على جواز اتخاذ السبحة والذكر بها، وقال بعضهم : إن ذلك خلاف الأولى، وإن الأولى الذكر بالأنامل (كما كان يفعل ذلك النبي صلى الله عليه و سلم وروي عنه أنه أمر بعقد التسبيح بالأنامل و قال: " إنهن مسؤولات مستنطقات ").إلا لمن خشي عدم ضبط العد فالسبحة أولى وزاد بعضهم : إذا كانت ستذكره بذكر الله فهي أولى أيضا. وقال كثير من العلماء بجواز استعمال السبحة لعد التسبيح والذكر والاستغفار، فقد رويت فيها آثار كثيرة عن الصحابة والتابعين أنهم ما زالوا يستعينون بالسبح المصنوعة من النوى على الذكر والتسبيح، وهي من وسائل العبادات المشروعة، بل إن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عقد التسبيح بيمينه يدل على جواز عقد التسبيح بما يستعين به المسلم على حفظ العدد، فلا وجه للقول ببدعيتها. وعد من بعض الخصال المكروهة في السبحة، اتخاذها للزينة واللعب بها : قال المناوي في فيض القدير (..أما ما ألفه الغفلة ...، من إمساك سبحة يغلب على حباتها الزينة وغلو الثمن ويمسكها من غير حضور في ذلك ولا فكر ويتحدث ويسمع الأخبار و يحكيها وهو يحرك حباتها بيده مع اشتغال قلبه ولسانه بالأمور الدنيوية فهو مذموم مكروه من أقبح القبائح ) وقريب من هذا بحسب العلماء ما يفعله بعض من ينسب إلى العلم فيتخذ السبحة في يده ، وهو مع ذلك يتحدث مع الناس في مسائل العلم وغيرها ويرفع يده ويحركها في ذراعه، وبعضهم يمسكها في يده ظاهرة للناس ينقلها واحدة واحدة كأنه يعد ما يذكر عليها وهو يتكلم مع الناس في القيل والقال وما جرى لفلان وما جرى على فلان.. ومعلوم أنه ليس له إلا لسان واحد فعده على السبحة على هذا باطل إذ إنه ليس له لسان آخر حتى يكون بهذا اللسان يذكر واللسان الآخر يتكلم به فيما يختار فلم يبق إلا أن يكون اتخاذها على هذه الصفة من الشهرة والرياء والبدعة ). وأكد الدكتور أحمد كافي أستاذ التعليم العالي للدراسات الإسلامية، بأن السبحة وسيلة من الوسائل المتخذة للذكر، والكلام عن الحكم الشرعي، متوقف على وظيفتها ومقاصد مستعملها. موضحا بأن الوارد في النصوص الشرعية وغالب الاستعمال في القرون المشهود لها بالخيرية هو استعمال العد عن طريق الأيدي. ولذلك يرى كافي جميلا ما يقوم به البعض من مرافقة السبحة في كل مجلس ومكان، حيث يلاحظ الناس السبحة معلقة بيده أو مطوقا بها عنقه، حتى أصبحت موضة جديدة.. فَنَقَلَ هؤلاء معنى السبحة من العبادة إلى العادة والتقاليد. ومنهم من يعد بها ويتكلم مع الناس ويخوض فيما يخوضون فيه، وربما التفت العادُّ هنا وهناك، فأين حضور القلب والانتفاع بالذكر؟! يتساءل أحمد كافي مشددا على أن هذا مما يزيد القول بعدم صحة هذه الأفعال والممارسات المرافقة للسبحة. وبناء على ذلك، اعتبر الدكتور كافي أن ترك السبحة والاقتصار في العَدِّ على الأيدي أولى بسبب ما يُخشى من فوات ذِكْرِ الذاكر عليه لما سبق بيانه من المحظورات. ولم يرى بأسا في استعمالها شريطة تجنب الإشهار والمراءاة. صورتين متناقضتين يرى علي الشعباني أستاذ علم الاجتماع، أن سياق استعمال السبحة عند المغاربة لم يكن يخرج عن الأماكن الخاصة مثل المساجد أو بعد الصلاة في البيوت، فيما استعمال السبحة في الأماكن العامة، لم يبزر كظاهرة إلا مؤخرا. هذا في الوقت الذي كانت فيه هذه الصورة مألوفة بالنسبة للمشارقة، حيث نادرا ما يلاحظ من لا يحمل السبحة في هذه البلاد، حتى ولو لم يكونوا في أماكن التعبد. وفي التفاصيل، أكد عالم الاجتماع على أن الظاهرة بالنسبة للمجتمع المغربي أصبحت حديثة، مشيرا إلى أنها تضفي صورتين مختلفتين ومتناقضتين، تلك التي توحي بأن هذا الإنسان الذي يستعمل السبحة متعبد ومتدين، ويظهر للناس هذه الصورة من خلال استعماله للسبحة أو من خلال تمتمته غير المفهومة والمبهمة، والصورة التي تحيل على أن استعمالها فعلا من أجل التعبد، لكن هؤلاء لا يستعملونها إلا في أماكن العبادة. وهكذا يظهر استعمال السبحة -حسب أستاذ علم الاجتماع-، وجهين متناقضين لفئتين من الناس، ما بين العبادة وإظهار الجانب الديني للآخرين.