يُعتبر التفكير في الإسلام اليوم ضرورة من الضروريات التي تكتسي طابعا استعجاليا اليوم بالنسبة للمسلمين أنفسهم، وبالنسبة لغير المسلمين أيضا. ومع ذلك، فإنّ إعمال هذا التفكير هو ورش كبير وصعب يبقى، رغم كلّ الإيجابيات الكبيرة التي تحقّقتْ، مفتوحا على مصراعيه لإنجازه. إنّ التفكير بالنسبة لي معناه فهم دلالات الدّرس الذي تحمله هذه الديانة، ومعناه أيضا الوعْي بأسسه، بعيدا عن كلَ ما يكتسي طابع القداسة. إنَ الفهم، المقصود هنا، يقوم على إلقاء الضوء على مختلف التشريعات التي جاء بها النّص القرآني. ومن ثمّ، فإنّ النصوص التي تتكوّن منها هذه السلسلة من الحلقات تساهم بكل تواضع ضمن هذا الطموح. وهي تسعى إلى تسليط الضوء على الجذور العميقة والاجتماعية، والتاريخية العميقة إذن، لمثل هذه التشريعات. وهي تنطلق من قناعة مفادها أنّ سرّ تلك التشريعات يكمن في تاريخ البشر، الأمر الذي لا يمسّ في شيء محتواها القدسي. إنّ المسلمين اليوم مهتمون أكثر، في سياق مغامرة الحداثة، بمعرفة بأسس ديانتهم الخاصّة من خلال إنجاز قراءة عقلانية. وقد آثرتُ أنْ أتناول بالتحليل مظاهر محددة من الممارسات الدينية، ولم أقُم بشيء آخر سوى إنجاز قراءة أخرى للحجم الهائل من المعطيات التي أوردها المفسّرون العرب والمسلمون قديما. وأعتقد أن رفع المظهر الأسطوري والخرافي، بمعنى التمييز ما بين الحدث الأسطوري والحدث التاريخي، تمرّ من هنا. وقد فضّلتُ أن أتناول بالتحليل مظاهر حاضرة بقوّة في الحياة اليومية للإنسان المسلم، والتي تبدأ من شعائر الصلاة إلى السلطة، وإلى مختلف الوقائع الاجتماعية. إنها عناصر تنطوي على أهمية قصوى تهمّ وتشغل بال المؤمن وغير المؤمن. غير أنّ التحرك مع ذلك ليس متروكا للصدفة بقدر ما ينخرط في هندسة متمرْكزة حول العرش. إنّ كلمتي:» يُسبّح» و»سَبَحَ»، التي توضّحها، تحيلان على النظام، وعلى مركزية لا تقبل الفوضى في الامتثال والخضوع. من هنا يمكننا فهم الآية التي تقول: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (سورة الأنبياء، الآية 33). وفي هذا الإطار، فإنّ التبعية والثبات يطبعان المخلوقات المكلفة بإنجاز مهمّتها، كلّ على حدة. لا يتعلق الأمر بمجرّد عملية ميكانيكية تخضع لها الشمس والقمر، بل إنهما معا يخضعان لنفس المعاملة التي يتم التعامل بها مع الكائنات الحيّة. لكنْ، ما أدْرانا إذا كان الاعتماد على هذين النّجمين، وعلى انتظام حَرَكَتيْهما، مُوجّها بالأساس إلى البشر حتى يبيّن لهم الله سلطانه المطلق على الكون، وحتى يذكّرهم بما يعنيه الخضوع والامتثال له. فالسبح معناه هنا التحرك في السّكينة والخفّة بلا مقاومة ولا تردّد. فداخل الاستقامة ووهب النفس بصفة مطلقة يتم التعبير عن الاعتراف بالإلهي وتكريمه. فهما معا اللغة المشتركة بين جميع الكائنات الحيّة، واللغة المشتركة للمادة التي تصلي هي أيضا دون أن نسمعها. ثم إنّ الحوْم هو كذلك تجسيد للامتثال؛ وللتأكد من ذلك أكثر، يجب الحفر في اللغة الدنيوية. فالخادم هو من يحوم حول الإنسان الذي يلبّي حاجياته، ويهرع مسرعا لخدمته. هو الطائف ( وهذا الجانب يذّكرنا بطواف الحجّ)، الذي تجسّده هنا الملائكة التي تحيط بالعرش الإلهي مسبّحة له: «وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» (سورة الزمر، الآية 75). إنها تنديد بارتداد بعض من المعتنقين الجدد للإسلام، والمنافقين. فإليهم يتمّ توجيه مثل هذا التشخيص للإيمان الحقيقي. لكنْ، إذا كانت حركة النجوم تعطي المثال الجيد على الامتثال، فإنّ الأمر لا يتعلق بآلية تحكّمية صرفة، بقدر ما تتوجّه إلى مجتمع له قيمة الخاصة، وله منطقه الخاص. الصلاة والعقلانية التجارية تحيل صورة النجوم في حركتها المنتظمة حول الأرض على تجاذب متبادل تتضمّنه لفظتا «سبحان وحسبان»: الأخذ والعطاء، هذا ما يغذّي العلاقة ويرسّخها في ديمومتها واستمراريتها. فالشمس والقمر اللذان يوجدان في تسبيح دائم حمدا لله «الشّمس والقمر بحسبان» (سورة الرحمان، الآية 5). الكلمة التي تستعمل للتعبير عن عملية الحساب هي «الحسبان»، سواء كجمع للحساب أو كمصدر. وإذا كانت اسم « السّبّوح» في هذا السياق اللغوي هو أحد أسماء الله الحسنى، الذي يحيل على القدسي، فإنّ «الحسيب» يشير إلى المتعهّد، أيْ المانح. إنها كلمة مشتقة من الكرم أو «الحسب»، أحد أُسُس الشرف (1 ) فالغنى أو اليسر هو الذي يؤسّس لمثل هذا النعت. وبالفعل، فإننا نجد « الحسب» في السيرة النبوية بمعنلى الممتلكات واليسر. فالذي يتحكم في منح مثل هذه الألقاب دائما هو الحساب الدقيق. فالحَسب هو ما يحسبه الرجل من مفاخر آبائه (2 ) . يترتب عن قلب الكلمات قلب للأدوار. ومن ثم، فإذا كانت «سبحان» تعني الاعتراف للسّيّد المطلق، فإنّ عبارة «حسبُك الله» معناها أنّ الله يعطي ما يكفي بحساب «عطاء حِسابا» (سورة النبأ، الآية 36). ذلك أن القرآن يتوجّه إلى الشعب في لغته مثلما يعنيه في ممارسته العقائدية. وهو هنا يأخذ في الاعتبار ميولاته التجارية. «الحِسبة» هي فنّ تدبير الأمور التجارية بالكثير من التّبصّر(3) . وفي هذا السياق يقال إنّ قبيلة قريش استمدّت اسمها من طبيعتها كقِرش في تدبير الشؤون التجارية (لنذكّر بأن كلمة «قِرش» في اللغة العربية تعني عملة مالية). ولم يخطئ النبيّ محمد حين تعاطى بدوره، في بدايات حياته، للتجارة. ومن ناحية أخرى، فإنّ طقس التسبيح، الذي يشير في الوقت ذاته، إلى الصّلاة والمِسْبحة، معناه كذلك أنْ يقوم المرء بكَرِّ سُبُحاتها. يتعلق الأمر في الحقيقة بنوع من مَسْرحة للحساب، وللعَدِّ، ينجزه المرء بيديْه. ويذهب بعض المفسّرين إلى انعدام وجود هذه الكلمة في اللغة العربية القديمة، وأنها لم تظهر للوجود إلا في بدايات الإسلام لتجسيد هذه الممارسة الدينية. المِسبحتان، أو الأُصبعان اللّذان يكرّان المسبحة هما السبّابة والإبهام. وتوجد في النّصّ القرآني خمس سور يُطلق عليها اسم «المُسَبّحات» بامتياز، كان يرتّلها الرسول قبل خلوده للنوم، حسب ما ترويه كتب الحديث والأخبار. وهذه السور هي: ( الحديد، الحشر، الصفّ، الجمعة، التّغابن). ومع ذلك تبقى الآية الأكثر إشارة إلى التسبيح هي :»هو الأوّل والآخر، والظاهر والباطن» (سورة الحديد، الآية 3). صحيح أنّ المجتمع المكّي كان فضاء للنشاط التجاري، غير أنه كان مفيدا على وجه الخصوص للأرستوقراطية المكيّة. كان المجتمع بصفة عامة يعيش في وسط قاس يعرف جفاقا دائما. وهكذا فقد كان هذه الترسانة اللغوية تأخذ في الاعتبار صعوبة الحصول على العيْش. لكن «أحْسَبُ» و»حسب» لا يتمّ النظر إليهما من هذه الزاوية فقط، على الأقل ليس على المدى القصير. إنهما يعنيان، عند الحديث عن الفرد، إطعامه وإرواء عطشه. نحن مسؤولون أمام الله عن أفعالنا، لكنه بالمقابل يعفو على الناس ويعطيهم الحياة والأمل. وبالنسبة للمرتدّين والمنافقين، فإنّ اللفظ ينطوي على مضمون آخر أكثر قساوة، ويتلخّص في الغضب الإلهي الذي يصل إلى حدّ الرجم بالنار. وبعبارة واحدة، فهي عذاب يؤشّر مسبقا هنا على الأرض على عذاب جهنّم. نحن إذن دائما داخل منطق الظهر والباطن بحكم أنّ نفس الكلمة، أو كلمات أخرى تنتمي إلى نفس الجذر اللغوي تتضمّن أضدادا دلالية تبرز الوجه المتلألئ من السيف، أو جانبه القاتل. هذه الحركة المنتظمة، المنخرطة في حساب كونيّ عامّ، هي الحركة ذاتها التي يلخّصها التسبيح، وهي العبادة المتواصلة التي يُنصح بها المؤمن. إن النموذج الذي يقدّم إلى المؤمن هو انتظام التسبيح والصورة التي يعكسها. تتجلى هنا دينامية تعمل على إدماج مظاهر متناقضة في الظاهر، دون أن تكون متناقضة في الواقع وهي: العطاء، الحساب، الاختيار الحرّ، السُّلطان. 1 لسان العرب، الجزء الأول، ص. 310 2 لسان العرب، الجزء الأول، ص. 311 3 منجد الأصمعي، ص. 101 محمد الناجي