يُعتبر التفكير في الإسلام اليوم ضرورة من الضروريات التي تكتسي طابعا استعجاليا اليوم بالنسبة للمسلمين أنفسهم، وبالنسبة لغير المسلمين أيضا. ومع ذلك، فإنّ إعمال هذا التفكير هو ورش كبير وصعب يبقى، رغم كلّ الإيجابيات الكبيرة التي تحقّقتْ، مفتوحا على مصراعيه لإنجازه. إنّ التفكير بالنسبة لي معناه فهم دلالات الدّرس الذي تحمله هذه الديانة، ومعناه أيضا الوعْي بأسسه، بعيدا عن كلَ ما يكتسي طابع القداسة. إنَ الفهم، المقصود هنا، يقوم على إلقاء الضوء على مختلف التشريعات التي جاء بها النّص القرآني. ومن ثمّ، فإنّ النصوص التي تتكوّن منها هذه السلسلة من الحلقات تساهم بكل تواضع ضمن هذا الطموح. وهي تسعى إلى تسليط الضوء على الجذور العميقة والاجتماعية، والتاريخية العميقة إذن، لمثل هذه التشريعات. وهي تنطلق من قناعة مفادها أنّ سرّ تلك التشريعات يكمن في تاريخ البشر، الأمر الذي لا يمسّ في شيء محتواها القدسي. إنّ المسلمين اليوم مهتمون أكثر، في سياق مغامرة الحداثة، بمعرفة بأسس ديانتهم الخاصّة من خلال إنجاز قراءة عقلانية. وقد آثرتُ أنْ أتناول بالتحليل مظاهر محددة من الممارسات الدينية، ولم أقُم بشيء آخر سوى إنجاز قراءة أخرى للحجم الهائل من المعطيات التي أوردها المفسّرون العرب والمسلمون قديما. وأعتقد أن رفع المظهر الأسطوري والخرافي، بمعنى التمييز ما بين الحدث الأسطوري والحدث التاريخي، تمرّ من هنا. وقد فضّلتُ أن أتناول بالتحليل مظاهر حاضرة بقوّة في الحياة اليومية للإنسان المسلم، والتي تبدأ من شعائر الصلاة إلى السلطة، وإلى مختلف الوقائع الاجتماعية. إنها عناصر تنطوي على أهمية قصوى تهمّ وتشغل بال المؤمن وغير المؤمن. يتناول المؤمنون المثابرون والمتّقون، بالمسجد أو داخل بيوتهم، مسبحة في أيديهم يُكرّونها بين أصابعهم، مردّدين عبارة «سبحان الله». وهي عبارة دعائية تضبط الإيقاع اليومي للعديد من المسلمين. وهي مُستعملة ومكرّسة في الحياة اليومية للتعبير عن دهشتنا أمام الأمور المفاجئة غير المتوقّعة، وعن تعجّبنا من المعجزات التي نسندها كل يوم، إلى الله. إنها عبارة تشكّل جزْءا لا يتجزّأ من الشعائر الدينية، ومن الثقافة كذلك. غير أنّ هذه العبارة اليومية باتتْ بمثابة ردّة فعل طبيعية يفرغها ويجرّدها من سحرها. فعلى أيّ شيء تحيل عبارة «سبحان الله»؟ وما هو محتواها الحقيقيّ؟ وما طبيعة العلاقة التي تقيمها مع ما هو ألوهي؟ من الدّنيوي إلى القُدسيّ «سبحان الله» عبارة سابقة على الإسلام، في الخطاب اليومي وفي الكتابات العربية. كما نجدها على لسان الشعراء في مدحهم كرم ومزايا الشخصيات الاستثنائية. ومع مجيء الديانة الجديدة، سوف تحتل العبارة مكانة هامّة داخل المعجم الذي تدور مفرداته حول العلاقة بما هو ألوهيّ، وتساهم في بنائه، لكي تختفي تقريبا فيما بعد من اللغة اليومية، لغة الدّنيوي وتستقرّ داخل القدسيّ. وبما أننا لا نتوفّر على فكرة دقيقة بخصوص كيفيّة تشكّلها داخل سيرورة تشييد الصّرح السماوي، فإننا سنبحثُ عن ضالّتنا في المفردات اللغوية، محاولين عدم البقاء سجناء المضامين التي يقدّمها رجال التفسير. تختصّ عبارة «سبحان الله» بإبراز السيادة الإلهية ووحدانية الله بصفته خالقا للكون وسيّدا عليه. وهي تساهم في بناء مكانته الأحدية، مميّزة إياها عن باقي القوى التي تتوق لبلوغ هذه المكانة. فالله هو الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يتخذ له زوجة ولا شريكا. بعبارة واحدة، هو الذي لا يمكن أنْ يشبه في أيّ شيء باقي السُّلط الدينية والسياسية السائدة خلال الفترة التي جاء فيها الإسلام:»وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ ...» ( سورة الأنبياء، الآية 26). لا ينبغي أنْ ننسى بأنّ هذه المسألة، التي قد تبدو عبثية بالنسبة لمؤمن اليوم، قد كانت تكتسي في تلك المرحلة راهنية كبيرة، لأنّ التحوّل الذي الحاصل يومها كان يقوم على التعلّق بالله تعويضا عن جميع الآلهة المعروفة. وبناء عليه، فإنّ هذا المعنى التأسيسي الأوّل، الذي يستند على الواحدية والسموّ والاختلاف، سوف يترك مكانه تدريجيا، داخل التّمثّلات الشعبية، للتسبيح فقط. سَبَّحَ، سِباحة، حصانُ النّبيّ ومع ذلك، فقد كان يتعيّن البرهنة هذه الفكرة البديهية لأولئك الذين اعتنقوا الإسلام في بداياته الأولى، وذلك بوساطة التصوير الذي يرغب فيه الناس. «سبحان» مشتقة من «السّبح» و»السباحة»، وهما معا كلمتان تشيران في اللغة العادية إلى عملية «العوم». غير أنّ العوم يكون سطحيا أو عميقا، في حين تقتصر «السباحة»، في نظر البعض، على السطح. إلاّ أنّ الأمر في الحقيقة لا يتعلق بالسباحة بصورة مباشرة بقدر ما يتعلّق بالحصان. وهنا نذكر «سبحة»، وهي اسم حصان النبيّ محمد الذي كان يمتطيه خلال معركة بدر التي أسستْ لأمجاده، لكونه برهن على سرعة فائقة من خلال الامتداد الهائل لقوائمه الأمامية (يديه) أثناء العدْو. كما أن جعفر بن أبي طالب كان يملك بدوره حصانا بالاسم ذاته إلى جانب اسمه «البراق». و»السَّبّاح» كذلك هو اسم آخر لحصان مشهور، مثل «السّبّوح». وهذا اللّقب هو الذي يُطلق على مدينة مكّة (السّبّوحة)، مما يحمل على الاعتقاد بأنّ الاسم يشير إلى دلالات الشَّرَف والصّفاء. «السّبح» عموما هو حصان السباق، والتذكير بالسرعة هنا أساسي وهامّ، غير أنّ الصورة تزداد دقّة أكثر من كلمة «السابح»، أي الحصان الذي يمدّ «يديه» في اطلاقته. ويكاد يجمع رجال التفسير على الرّأي القائل بأن عبارة «سبحان الله» تعود في الأصل إلى هذه الصورة: صورة السرعة في الحركة، والسرعة في تنفيذ الأوامر. السرعة في الامتثال والخضوع لله هي التي يتمّ التأكيد عليها في هذا المقام. فالحضان الذي يمدّ رجليه الأماميتيْن، يفعل ذلك كما لو أنه يدخل أفقيّا في الماء بصورة أسهل. فهو ينطوي على نفسه، ويسجد اتجابة وتلبية لأوامر سيّده. الصورة هنا قويّة للتعبير عن الامتثال المطلق. فداخل مجتمع معجب بالحصان الأصيل، رمز الامتثال الذي لا تردّد فيه تجاه السّيّد، تكون الرسالة الواجب بعثها واضحة هنا. ثم إن الحصان الذي هو رمز للسرعة هو أيضا رمز كاف للشرف والانخراط في القضايا المقدّسة. لذلك لا ينبغي للمؤمن إذن أن يعتبر امتثاله وخضوعه للعليّ القدير بمثابة احتقار له وحطّ من قيمته، وهو الأمر الذي لم يكن، على أية حال، موجودا من قبل. سبحان الله! الأناقة والشرف عنصران أساسيان داخل هذا السّجّل. فالكلمة ترتبط داخله بصورة غير مباشرة بواسطة لفظة «السُّبُحات» الإلهية، أو الأنوار الباهرة. لسلطانه وجلاله. وفي هذا السياق يُروى عن المَلَك جبريل أنه قال: «لله دون العرش سبعون حجابا ، ولو دنوْنا من أحدها لأحرقتنا سبحات وجه ربنا». ثمّة انسجام في العلاقة المطلقة والتامّة بين المؤمن وبين ربّه، حيث أنّ النور الإلهي يُلقى على من يسبّح له. وفضلا عن ذلك، تُطلق كلمة «سبحات»، بالجمع، على تلك المناطق من جسم الإنسان التي لها اتصال مباشر بالأرض عند السجود. وينبغي التذكير، في النهاية، بأنّ اللجوء إلى معجم لغويّ مرتبط بالوسط المائي له رمزية كبيرة في التعبير عن السيادة الإلهية، لأن الماء هو العُنصر الحيويّ الذي وضع عليه الله عرشه، أي مُلْكه. فالتحرُّك داخل الماء معناه التحرّك داخل الحياة، أي داخل ما خلقه الله، وبالتالي معناه التسبيح له وحمده على ما أعطى. ولهذه الغاية فإن جميع مخلوقاته تتحركّ من أجله، مُسبّحة له في صلاتها. غدا: نظام سماويّ