في تونس يفتضح مشهد التعاطي الداخلي والخارجي مع ربيع العرب سياسيا وإعلاميا واقتصاديا. ورغم أنه واضح في مصر أيضا، إلا أن المشهد التونسي يبدو أكثر وضوحا بسبب غياب الإشكالات التي رافقت التجربة المصرية، فضلا عن غياب تهمة الاستحواذ التي ما برحت تطارد الإخوان المصريين، رغم افتقادها للأدلة العملية لو استبعدنا صراخ الفضائيات الكاذبة، ذات الأجندات المعروفة. لن نتوقف هنا عند البعد الخارجي المتمثل في مطاردة التجربة من قبل أنظمة عربية لا تكتفي بعداء الإسلاميين، بل تضيف إليه، وهو الأهم، موقفا عدائيا من مجمل الربيع العربي، وهي تبذل كل جهد ممكن من أجل حصاره وإجهاضه. كما لن نتوقف عند البعد الدولي أيضا، ذلك الذي يرتبط بصلة مع البعد العربي، كما ينهل من هواجس الخوف التقليدية من الإسلاميين. لن نتوقف عنده رغم قناعتنا بأن مواقف القوى الداخلية في مصر وتونس كانت ولا زالت تتنفس هواء الخارج، لأن شعورها باستهدافه (أعني الخارج) للتجربة ما زال يشجعها على مزيد من الجهد لإجهاضها. ما يعنينا هنا أكثر هو البعد المحلي ممثلا في مواقف فلول النظام السابق، وإلى جانبه غالبية القوى العلمانية واليسارية من التجربة الجديدة. وقد قلنا إن مصر تبدو مختلفة بعض الشيء بسبب توفر بعض الذرائع التي استخدمها علمانيون ويساريون في المعركة (الفلول يسيرون في الركب)، لكن التجربة التونسية كانت مختلفة إلى حد كبير. والحال أن الحركة الإسلامية التونسية كما مثلتها النهضة بقيادة الشيخ راشد الغنوشي كانت الأكثر انفتاحا بين القوى الإسلامية ذات المرجعية الإخوانية، وكان كتاب الشيخ راشد الغنوشي “الحريات العامة في الدولة الإسلامية" نقلة في الفكر الإسلامي الحديث على هذا الصعيد. وإذا قيل إن الشيخ حسن الترابي كان سباقا على صعيد التنظير، فإنه لم يتجاوز ذلك إلى الممارسة في تجربة الحكم (حاول ذلك لاحقا فتم إقصاؤه من قبل تلاميذه الذين أصروا على مسارهم التقليدي)، أما النهضة فقد حولت الفكر النظري إلى ممارسة عملية حقيقية قبل الانتخابات وبعدها. لم تفرض النهضة خطابها على المجتمع التونسي، بل آمنت بالتدرج وتقديم الوحدة على ما عداها، رغم أصوات المزايدة الدينية عليها من قبل تيار سلفي جهادي لا يؤمن بالديمقراطية كان قد ظهر في أواخر مرحلة بن علي، كما لم تستخدم فوزها الانتخابي في فرض شيء على الناس، بل ذهبت نحو خطاب عامر بروحية الشراكة والتعددية والحرية، وكل ذلك من أجل أن يقلع المجتمع التونسي نحو فضاء جديد بعد سنوات من العسكرة التي فرضها عليه بن علي. تجلى ذلك في نقاش مسودة الدستور، ثم تجلى أكثر في الشراكة الحكومية مع حزبين فازا إلى جانبه في الانتخابات، مع ترك منصب الرئاسة لقائد أحد الحزبين (منصف المرزوقي). كما تجلى في مساعي تكريس الحرية في المجتمع، لكن ذلك كله لم يكن مرضيا بالنسبة لفئات يسارية وعلمانية همشتها الانتخابات (دعك من صوت يحسب نفسه على الإسلام السياسي أثار قدرا من الشوشرة ضد الحركة عبر فضائية يملكها). هذه الأصوات ما برحت تلقي بالأشواك في طريق الحكومة التي شكلتها حركة النهضة رغم أنها حكومة مؤقتة أفرزها مجلس تأسيسي مؤقت، كما طاردتها بشكل يومي عبر وسائل إعلام أكثرها ضد الحكومة والنهضة، بما فيها (للمفارقة) منابر تمولها الدولة، وطاردتها عبر سلسلة من الإضرابات التي هددت مسار العمل اليومي في بلد يحتاج وقتا طويلا كي يلملم جراحه ويتجاوز معضلته الاقتصادية. وكل ذلك في إطار من المزايدة التي لا تأخذ مصلحة الوطن ولا إمكانات الحكومة في الاعتبار، بقدر ما تصدر عن أنانية حزبية وأحقاد أيديولوجية. جاء اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد ليمثل نقطة تحول جديدة في المعركة، ورغم علم الجميع بأن النهضة بريئة من الجريمة، بل هي أكثر المتضررين منها، إلا أن ذلك لم يوقف مد الهجوم عليها بوصفها من خلق مناخات العنف كما يقال، رغم علم الجميع بأن تيارات العنف إنما نشأت أثناء وجود قادة النهضة وعناصرها داخل السجون وفي المنافي. إن المصيبة أن هؤلاء الذين يعجزون عن المقارعة في صناديق الاقتراع يريدون أن يحصلوا بالمغالبة في الشارع على أكثر بكثير من حقهم (بمن فيهم شريكا النهضة في الحكم)، الأمر الذي يثير إحباط الناس، ويهدد مسيرة الربيع العربي بالفشل والتراجع. والمصيبة أنه كلما أمعنت تلك المجموعات في المغالبة، كلما نقصت شعبيتها، ما يدفعها نحو الهروب إلى الأمام بمزيد من التصعيد خشية اللقاء في ميادين الاختيار الحر للناس. لا نريد بث الإحباط، لكننا نشير إلى أن هذا التعثر الذي نتابعه يبدو طبيعيا في دول لم تعتد المدافعة السياسية السلمية، ولم تحقق الحد الأدنى من الإجماع على المسار السياسي والاقتصادي الداخلي. والنتيجة أن المعركة ستكون صعبة ومريرة، لكنها ستصل إلى بر الأمان في نهاية المطاف بإذن الله. والسبب هو وجود وعي جمعي يرفض العودة إلى أنظمة الفساد والقمع السابقة، بصرف النظر عن الشعارات التي ترفعها.