الموت في شريعتنا ليست لحظة تضع حدا للوجود في دار الفناء، فينقطع الأكل والشرب والسمع والبصر، والحركة والكلام، وتدفق الدماء في العروق والمشاعر في الأعصاب والجلود... الموت لا يضع حدا لكل هذا وغيره في هذه الدار فحسب، ولكنه يفتح الباب على أوسع مصراعيه أمام حياة جديدة شقية أو سعيدة، ودار أخرى هي دار القرار. فمن مات إذن فقد مات عن دنيانا وولد في الدار الأخرى، ومن بقي حيا في هذه الدار فهو ميت لدى سكان تلك الدار. أحياء دار الفناء يحملون إلى القبور أحياء دار البقاء، فمن الأحياء ومن الأموات؟ إذا حضر أحدنا الموت، وأحاطت به الملائكة المكلفون بقبض روحه يرأسهم ملك أمر بتولي أمر القبض بنفسه، فلا يبصرهم أحد من الناس سوى من كتب عليه الانتقال من حال إلى حال، وإذا علم الأهل والأقربون بخروج الروح وبقاء الجسد الهامد الجامد، بكى منهم الباكون، وذرفت على موته الدموع غزيرة ساخنة، وشهق منهم الشاهقون، وولول منهم المولولون، وتعانقوا بحرارة وصدق، وآزر بعضهم بعضا... ومن لم يبك منهم تباكى وتداعى مع البكائين. إذا رأيت كل هذا حسبت أن الجميع سينتهي عما كان عليه، وأن قاطعي الرحم سيصلون ما انقطع منها، وأن تاركي الصلاة سيشرعون فيها في تلك اللحظة، وأن مانعي الزكاة سيتخلصون من حقوق الفقراء على وجه السرعة، وأن المدمنين على الخمور والفجور والفسوق سيكفون عن كل ذلك في لحظة توبة وندم تقلب النفس رأسا على عقب، وتزهق باطل الشيطان وحزبه، وسينادي المنادي لقد جاء الحق وزهق الباطل... إن الباطل كان زهوقا. وترى الجنازة محمولة على الأكتاف أو على متن سيارة تدب على الأرض بلطف وهدوء، والناس يذكرون الله العلي الأعلى ورسوله الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى، وأن إلى ربك المنتهى.. ويذكرون الموت والبلى، والقبر وضيقه وظلماته، والبرزخ ونعيمه وعذابه... حتى إذا ما وصلوا بالميت إلى المسجد للصلاة عليه دخل منهم فريق وبقي فريق آخر ينتظر خروج الجثة والمصلين عليها. عجبا لهؤلاء الذين رفضوا أن يضعوا أرجلهم داخل المسجد!! ماذا دهاهم؟ وماذا وقع لهم؟ ألم يبكوا مع الباكين؟ ألم يتعانقوا مع المتعانقين؟ ألم يعلموا أن الموت حق وأن ما بعد الموت حق وأن القبر حق والبرزخ حق والجنة حق والنار حق وأن الآخرة هي دار القرار؟ أم أنهم يؤمنون بنصف الحقيقة ويكفرون بالباقي؟ وأي إيمان هذا الذي يأخذ هذه ويدع تلك؟ ترى لو عاد الميت إلى هذه الحياة ونظر إلى جموع المصلين عليه ثم لم يجد فيهم فريقا رافقه من البيت إلى باب المسجد، ماذا تراه يقول لهم؟ وهل سيتردد في القول بأعلى درجات صوته: ويحكم أيها الحمقى المغفلون.. لماذا لا تصلون؟ إن لم تصلوا اليوم فمتى؟ وإن لم تسجدوا وتركعوا اليوم فمتى تركعون مع الراكعين وتسجدون مع الساجدين؟ يا ويحكم... أنتم الموتى في الدار الفناء ونحن الأحياء في دار البقاء؟ وشبيه بهذا الموقف أولئك الذي يفرحون مع العريس يوم عرسه، ويطوفون به في الدروب والأزقة بعد انفجار الفرحة في بيته، حتى إذا ما وصلوا إلى المسجد دخل فريق منهم صحبة العريس، وبقي فريق آخر بالباب ينتظر. يا عجبا من أمرهم، يرفضون رحمة الله ورأفة الله وعناية الله. أي حمق أكبر من هذا! وأي شقاء أكبر من هذا! الذين يحملون المبيت إلى مثواه الأخير ويمتنعون عن الصلاة عليه يستحقون أن يصلي الإنسان من أجلهم ويدعون الله لهم بإبصار نور الهداية من آية الموت المحكمة المبصرة، والذي يطوفون بالعريس فرحا وسرورا ويرفضون الدخول معه إلى المسجد يستحقون الحزن والأسى من أجلهم، والدعاء لهم حتى تكتمل فرحتهم ويتصاعد سرورهم في الدنيا والآخرة. في لحظتين إنسانيتين للحزن والفرح تعمى بعض الأبصار وتنطفئ البصائر ولا يستطيع بعض الناس إعلان التمرد والتحدي على لحظات الضعف والهبوط، فمن الموتى إذن... الذين أخذت الملائكة أرواحهم فانتقلوا إلى الآخرة.. أم الذين لا تزال الحركة تسري في أجسادهم ويحسبون من الأحياء؟ موتى أحياء وأحياء موتى يفترقون عند باب المسجد... فهل يستوي الأحياء والأموات؟ حسن السرات