تؤكد الدراسات المستقبلية أن الصين والهند ستكونان القوتين الاقتصاديتين الرئيسيتين خلال العقود المقبلة. ففي سنة 2030م ستصبح الصين القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وستسهم بنسبة 28% من الاقتصاد العالمي، تليها الولاياتالمتحدة بنسبة 18%، ثم الهند، أما الاتحاد الأوروبي فسيتدحرج إلى الخلف، كما ستبرز قوة جديدة كإندونيسيا و تركيا والبرازيل. بالمناسبة فقد كان الغرب يسيطر على 84% من الاقتصاد العالمي سنة 1928م.فالفيل والتنين آتيان لا محالة لقيادة الحضارة العالمية في منتصف هذا القرن، إن استمرت نفس المعطيات ونفس الاتجاه التاريخي الجاري اليوم. ستعرف الحضارة العالمية خلال هذا القرن بصمتين جديدتين:البصمة الكونفوشيوسية والبصمة الهندوسية،والسر في ذلك أن الصين والهند قوتان سكانيتان عملاقتان تتجاوز كل واحدة منهما المليار نسمة،في وطن أو إقليم جغرافي واحد،ونظام سياسي واحد، وحوض حضاري واحد: الكونفوشيوسي بالنسبة للصين والهندوسي بالنسبة للهند. يمكن تعريف عصر ما بعد الحداثة بأركانه، وهما ركنان أساسيان: عودة الدين من منفاه أي بداية هجرة البشرية نحو الله، وبداية تشكل التكتلات الإقليمية الكبرى، أي بداية هجرة الدولة القومية نحو الدولة العابرة للقوميات. والاتحاد الأوروبي نموذج على الكيان السياسي العابر للقوميات، فهو تكتل لأكثر من 25 وطن وشعب في القارة الأوروبية، في أمة جديدة ووطن جديد،وكتلة سكانية تقارب 300م نسمة. لكن حجم الصين السكاني لوحدها والهند لوحدها أكثر بثلاثة أضعاف الاتحاد الأوروبي.أي أنهما تعيشان عملياً عصر ما بعد الحداثة. وبالمناسبة فأوربا الغربية لم تنهض إلا بعد نمو سكاني هائل شهده عصرها الحديث. وشيخوختها السكانية العامل الحاسم في تقهقرها أمام الصين والهند اليوم وفي مقبل العقود. نحن أيضاً أمة العروبة والإسلام عملاق سكاني، يقارب تعدادنا المليار ونصف، فهل بإمكاننا أن نبصم بصمة إسلامية على الحضارة العالمية في منتصف هذا القرن؟؟ الجواب رأساً نعم. لكن بشرطين أساسيْن: أن نمتلك كأمة وصفوة الوعي التاريخي المطابق،والفعل التاريخي المطابق.وعي مطابق لروح الإسلام وروح عصرما بعد الحداثة،وفعل تاريخي مطابق لمقاصد الإسلام مسخِّراً منتجات عصرنا في النهوض.أول الوعي التاريخي إدراك أن بداية انتقال الحضارة إلى الشرق هو تعبير عن مرحلة انتقالية في التاريخ البشري اليوم.ويسمى عند علماء التاريخ ب(( الأنومية)).أهم خصائصها بداية تفكك القوانين أو السنن التاريخية التي كانت تحكم المرحلة السابقة،وبداية تشكل قوانين أو سنن تاريخية جديدة. فإدراك اللحظة التاريخية لبداية التشكل أول الوعي عندنا، والتدخل السريع الراشد للإسهام في صياغة تشكيل تلك السنن ثاني الوعي. في هذه اللحظة الحاسمة نفهم العلاقة الجدلية بين حرية الفعل الإنساني في التاريخ وجبريته. فمثل المرحلة الانتقالية كمثل طرق قضبان الحديد الساخن، فيمكنك ليِّها وتشكيلها بيسر حتى وإن كانت سميكة، لكن إن برد الحديد السميك فليُّه وتشكيل قضبانه يصبح أكثر صعوبة،وربما مستحيلا.فبتدخلنا في صياغة القوانين التاريخية للمرحلة الانتقالية، سنضمن بصمة إسلامية على الحضارة العالمية للقرون المقبلة، وذلك بداية شهودنا الحضاري الثاني.إنها مرحلة الحرية في الفعل التاريخي.لكن إن تشكلت السنن التاريخية للمرحلة المقبلة، لا قدر الله دون إسهام إسلامي، فسنكون على هامش مجرى التاريخ لهذا القرن على أقل تقدير.فعندما تتشكل السنن التاريخية وتبرد ندخل كشعوب وحضارات في جبريتها الصارمة،منفعلين لا فاعلين، منضبطين لإيقاعها الصارم حتى حين. فبداية انتقال الحضارة نحو الشرق فرصة تاريخية لنهضة الأمة الإسلامية من جديد، وشهود حضاري جديد.فكيف نسخرها؟ التسخير يتطلب رعاية وتطويرا وتنمية ثلاث صحْوات كبرى:الصحوة الإسلامية الجارية في وسطنا منذ عقود ،والصحوة الديمقراطية الجارية مع الربيع الديمقراطي العربي،وأضيف لها: ((الصحوة القومية)) أي الانتقال إلى عصر التكتلات الكبرى، إلى عصر الدولة العابرة للقوميات والأقطار. تلك هي الرافعات الكبرى لانتقالنا من عصر الصحوة إلى عصر النهضة، من عصر بناء الإيمان إلى بناء السلطان والعمران. إننا نسعى كمسلمين إلى إقامة الاستخلاف الراشد في الأرض، وهو عمارة من ثلاثة طوابق: بناء الإنسان الراشد، وبناء السلطان الراشد، وبناء العمران الراشد.الرعاية تتطلب تعميق الصحوة الدينية أفقيا وعمودياً بين المسلمين.و تعميق الصحوة الديمقراطية أفقياً وعمودياً في المجتمع.وتعني أيضاً وبملحاحية التفكير والعمل جدياً على بناء التكتلات الإسلامية والعربية في دار الإسلام.لابد أن يصبح هذا الهدف التاريخي على رأس أجندة العلماء والمفكرين والأحزاب الإسلامية والجماعات الإسلامية الجمعيات المدنية.لابد من بناء تكتل في شمال إفريقيا يمثل المغرب الكبير في مرحلته الأولى.يُجمِّع عرب إفريقيا في مرحلة ثانية، ومسلمي إفريقيا في مرحلة ثالثة.وتكتل لعرب آسيا،.وآخر في وسط آسيا من باكستان إلى كازاخستان. وآخر في جنوب شرق آسيا.فنحن عملاق سكاني، لكننا كغثاء السيل لا قيمة حضارية للمليار والنصف إلا بدخولنا عصر كيان الدولة العابر للقوميات.والكيان السياسي لن يكون دولة مركزية كلاسيكية،أو نظام خلافة كلاسيكي أبداً، بل كيانات في شكل فدراليات أو كونفدراليات على نموذج الاتحاد الأوروبي. عند تسخير هذه الفرص فقط سيستيقظ المارد الإسلامي من جديد.ليشهد على الشعوب بالعلم والعدل والرحمة والعيش الكريم والسلام الدولي.