وسط زحام المدينة بالمارة والسيارات- خاصة في أوقات الذروة- وهرولة الركاب تجاه سيارات الأجرة، ليس هناك مجال للحوار.. ما من سبيل أمثل للتفاهم بين الركاب والسائقين سوى لغة الإشارات التي تعبر عن أسماء المحطات المقصودة. عليك أن تقف بعيدا وتشير.. لا تحتاج أن تقترب كثيرا من «سيارة الأجرة»، فقط قف على الرصيف، وقم ببعض الإشارات بيدك لتصل إلى المكان المطلوب.. و إلا كلفك حرجك أو جهلك بمفردات هذه اللغة الانتظار لساعات طويلة على قارعة الطريق..، ولن تنتفي حالتك تلك إلا إذا استرشدت بالمطلوب من حالات مواطنين أو سائقين يحكون هذه اللغة سلوكا على الطريق.تلك صورة لسلوكيات مجتمعية بسيطة، استخدامها على الطريق الآن لغة شائعة، قد يختلف حيالها البعض، إلا أنها تظل في إطار الممتع، والمحبب والمستساغ، وسيلة ناجعة لتعريف السائقين بوجهة الراكب.. حين لا تستوفي الشروط الكافية من وجود لوحات تحدد الاتجاهات.. في البدء إشارة في كثير من الأحيان كان اللجوء إلى لغة «الأتوستوب»، هو الخيار الوحيد للعديد من المسافرين للانتقال من مكان إلى مكان عبر الطرق السريعة.. لكن الحكاية الآن لم تعد مجرد إشارة واحدة على الطريق السيار للحصول على وسيلة غير مكلفة للتنقل، كان ولا زال يستخدمها الملايين من المسافرين.. بل تطورت الفكرة خلال الحياة اليومية للناس، إلى أن أصبحت إشارات الأصابع تستخدم بطرق مختلفة للتعبير، عن أسماء المحطات المقصودة، بل وصار لكل منطقة إشارة وإيماءات خاصة بها في كل منطقة بالمدن المغربية الكبرى خاصة. فالسرعة الشديدة التي يتميز بها إيقاع المدينة، لم يعد معها وقت لتوقف «سيارة الأجرة» أولا ثم توجه حديثك إلى السائق..بل يكفي أن تشير إلى الوجهة التي تقصدها بلغة الطريق المتعارف عليها في مدينتك. وبهذا السلوك الشائع تختصر الوقت والمجهود في تعريف السائقين بوجهاتهم عن بعد.. لا أحد يستطيع بالطبع أن يحدد أو يجزم على وجه الدقة من الذي ألهم الآخر هذه الإشارات لغة خاصة في عالم المواصلات، ليستدل بها على أسماء وجهات محددة وهي تختلف من منطقة لأخرى..، هل أخذها السائق من الركاب أم أن العكس هو الصحيح، أو أنها كانت نتيجة لاجتهادات تواطأ عليها الطرفين في التواصل.. لكن بين هذا وذاك، فلغة الإشارة في الطريق أصبحت بمثابة «عقد عرفي» بين الراكب والسائق في تدبير عملية التنقل بالمدن الكبرى. بما أضحى معه في حكم الوارد أن المواطن إذا استخدم على الطريق لغة الكلام العادية وأهمل لغة الإشارة الشائعة، فإنه لن يتمكن من إيقاف «سيارة الأجرة» لتقله إلى وجهته المقصودة. مسرح صامت في المحطات الرئيسية ل «سيارات الأجرة»، لا تخطأ عينك ملاحظة صخب المكان. هناك يكون المرشد إلى وجهة الركاب (الكورتي) الذي ينادي عليهم، ويدلهم في الوقت ذاته على المحطة المقصودة. لكن ما إن يغادر «الطاكسي» المحطة حتى تبدأ تمظهرات ما يسميه البعض ب «المسرح الصامت». في هذا المسرح هناك اتفاق بين الركاب من جهة وبين السائقين من جهة أخرى، يقضي باستخدام لغة الإشارة للتواصل والتفاهم في كل ما يتعلق بعملية الركوب والنزول والمحطة التي يقصدها «الطاكسي» أو الراكب، وبيان ما إذا كان هناك مقاعد شاغرة أم لا، أو تحديد عدد المقاعد الشاغرة إذا ما لاحظ السائق أن عدد الركاب المنتظرين أكثر من المقاعد. وأي محاولة لالتقاط هذه الإشارات غير الشفهية وفك رموزها، تحتاج إلى عين دقيقة ترصد التفاصيل الصغيرة لهذه اللغة وحركاتها الدالة على تحديد الوجهة المطلوبة... ففي مدينة مزدحمة وصاخبة كالدارالبيضاء أو مراكش مثلا، يحتاج قاطنوها في بعض الأحيان إلى أكثر من مجرد لغة منطوقة للتواصل، خاصة حين يصعب استخدام اللغة المنطوقة أو المسموعة. فأمام الزحام وسرعة وتيرة الحياة، لم يعد هناك مجال للحوار بين السائقين والركاب إلا عبر إشارات تشعل «طقوسها» خيال المواطنين وهم يبدعون علاماتها الدالة على الأماكن.. أصبع الخنصر أو السبابة، عندما تثنيه وتبسطه يوصلك إلى أشهر الشوارع، وأصابع اليد حين تستخدمها بطرق مختلفة يفهم من خلالها السائق وجهتك التي تريد الذهاب إليها، كل منطقة و شارع وحي... لها علاماتها المميزة الخاصة بها. والفهم أول طريق للحل. لغة التأشير تطال كذلك شوارع عارية الاسم والانتماء، وأسماء على غير مسمى.. تبدو الإشارات عجيبة، وفي كثير من الأحيان تتسبب في بعض المآزق. وقد توقع الراكب في حرج يكون مصدره الأساس أن أسماء بعض الأماكن يمكن أن تكون غير لائقة، خاصة إذا ما تصادف أن الطرف الآخر يفهم الكلمات خارج سياقها.. حتى المحطات التي يخيل إليك أنها تستعصي على لغة الإشارة أبدع لها هؤلاء (سائقين وركابا) حركة معينة تدل عليها ويفهم الجميع أنها المقصودة لا غيرها. إشارات مختصرة هذا الدليل النموذج يحكي بعضا من قواعد لغة الإشارة في المواصلات كما هو متعارف عليها بين مواطني مدينة الدارالبيضاء. في كثير من الأحيان يكون اللجوء إلى لغة «التصفير»، هو خيارك الوحيد لإيقاف سيارة أجرة، حيث تكون هذه اللغة الصوتية البسيطة بنغماتها المتعددة، الأكثر «قدرة» على لفت انتباه السائق الذي لا يرى أحيانا الشخص الذي يريد إيقافه..، وإذا كنت من ركاب منطقة «دورة المذاكرة» بحي عادل تحديدا بالحي المحمدي مثلا، فعليك أن تشير إلى السائق بعلامة الدائرة بإصبعك. وإذا كان اتجاه السبابة إلى الأسفل في حركة دائرية أيضا، فالإشارة تعني «الساحة» بدرب السلطان حيث أحد أكبر المراكز التجارية للتسوق بالجملة. وذات الحركة يمكن أن يفعلها الشخص المنتظر في المحطة ليدرك السائق أن هذا الشخص يقصد «الكارة» وبناء عليه يقرر السائق أن يقف أو لا يقف. وهناك إشارة واضحة ومهمة في الدارالبيضاء، وهي الإشارة إلى ما يدل على الحمق في حركة تربط الأمراض العقلية بجناح»36»، ومعناها أن الراكب يقصد مدينة برشيد حيث أكبر مستشفى للأمراض النفسية والعقلية. أكثر المحطات حضورا في ذهني هي الوجهة إلى «حي الشعبي» مثلا، كنت أعتقد أنها محطة من الصعب ترجمتها إلى لغة الإشارة لصعوبة الدلالة عليها، ولكن كذب ظني عندما رأيت شابا وهو يرفع ساعده الأيسر إلى الأعلى قليلا ويلوح بكفه الأيمن كمن يستعد للعزف على آلة «الكمانجة» التي يتفرد بها الغناء الشعبي بالمغرب، عندها عرفت على الفور وعرف المنتظرون على الرصيف أن «الطاكسي» القادم وجهته حي الشعبي بالحي المحمدي تحديدا. وحينما يضم أحدهم أصابعه لتبدو قبضته كمن يستعد للملاكمة، إلا أنه يهزها ارتفاعا وانخفاضا كأنه يفتح ويقفل باب «ريدو» محل تجاري، فالإشارة يستخدمها الجميع للدلالة على المركز التجاري الشهير «كراج علال». وإذا وضع أحدهم سبابتيه بناصية رأسه بشكل لولبي للإحالة على صورة «قرون الكبش» فمعناه أن الراكب يريد أن يذهب إلى منطقة «الكرون» بسيدي مومن... ووضع السبابة والوسطى على الكتف علامة على «رتبة عسكرية» يفهم من خلالها السائق أن وجهتك هي «القشلة» بحي بورنازيل، وحي «التشارك»، يمكنك الإشارة بعلامة تشابك الأيدي لكي تصل إلى هناك... لكن على الرغم من أن بعض الأحياء والمناطق يسهل استنباط الإشارة من مسمياتها من قبيل «حي الإنارة»، «شارع الشجر»..، فإن هناك بعض الأحياء والمناطق بلا إشارة مختصرة، حيث يضطر المواطنون إلى الاستعداد لإلقاء اسم المنطقة من شباك «الطاكسي» للسائق الذي يهدئ من سرعته قليلا بالمقدار الذي يسمح له بسماع صوت الراكب. ففي السابق كان الزبون هو الذي يتحكم في الوجهة وليس السائق، أما الآن فأغلب السائقين يرفضون ويقبلون الرحلات انسجاما مع مزاجهم الخاص. لغة أخرى على الطريق إذا كان الأصل في بوق السيارات أو الشاحنات أو الحافلات وغيرها من وسائل النقل، أن يكون أداة تنبيه ومساعدة على القيادة. والإشارات الضوئية أداة ضرورية للقيادة السليمة، وضمان عدم وقوع الحوادث. فإن هذه العناصر تحولت للغة خاصة جدا غير منطوق بها، يتفاهم بها السائقين على الطريق العام، تبدأ بالتحذير من وجود كاميرات «الرادار» على الطريق السريع وتنتهي بالتعارف.. في هذا الدليل السريع نأخذ بيدك لتفهم قواعد اللغة الجديدة، كما حكاها سائقون ل «التجديد». فشارة الضوء يمينا مرتين وراء بعض، ومرتين شمالا يعني أن سائق السيارة الذي يوجد أمامك على الطريق، يقول لك «أطفأ النور العالي». واستخدام السائق للضوء العالي بومضات متتابعة تعني أنه يعطي المجال ويسمح بالسيارة التي أمامه بقطع الشارع والمرور قبله بينما يستخدمه آخرون كتنبيه وتحذير للآخرين بعدم العبور. فشارة أضواء الطريق العالية تعني التحذير من وجود «الرادار»، ونفس الشارة تعني السؤال عن وجود رجال الدرك في الطريق، إذا كان الجواب بنفس الشارة الضوئية يعني عدم وجدهم، أما إذا كان الجواب بشارة ضوئية «الفار والكود» فيعني ذلك وجود رجال الدرك. وشارة أصابع اليد بحسب عدد «الحواجز الأمنية» تقول لك «خفف السرعة»، وشارة «السويكلاس» تقول لك أن الطريق ليس بها حواجز أو كاميرات «رادار». لو تعاند أحدا و تتجاوزه لتشغل المساحة الأمامية قبله، تعطي شارة ضوء خلفية معناها «باي باي». وضغطتان متتاليتان بمنبه السيارة كل واحدة منفصلة معناها «شكرا». استخدام منبه السيارة بطريقة ثلاث ضغطات متتالية يتتبعها ضغطة طويلة تعني «الشتيمة» على تجاوز معيب أو عدم احترام الأسبقية مثلا... ومع صوت المنبه العالي المتواصل يفهم السائق المخطئ غلطته ويرد ب «منبه»متوسط الصوت ولمرة واحدة كنوع من الاعتذار.بعض السائقين يعتبرون أن التعبير بهذه اللغة ليس لها أي أساس أو مرجع، بل ابتدعه السائقون وصار أشبه بالعرف بينهم. لكن ليس الكل يفهمها، وقد يحدث أحيانا سوء فهم للمقصود من إشارة معينة، لذلك فالحذر واجب.. لأن هذه اللغة السائدة بين السائقين - بحسبهم- سلوك يمثل انعكاسا لحالة من الفوضى المرورية التي يمكن أن تتسبب في حوادث قاتلة.وآخرون يرون أن هذه الإشارات صارت متعارف عليها و متداولة بصورة كبيرة بين السائقين وتدل – بحسبهم - على التفاهم والوعي المروري الكبير بينهم واستخدامها دائما يكون للشكر، والاعتذار، وكذا للتنبيه، أو إعلان الضيق من أخطاء وجهل السائق الذي أمامه أو إلى جواره... محاولة للقراءة إذا كان سائقو «سيارات الأجرة»، يوضحون أنهم لا يستطيعون أن يقفوا لكل من يسألهم عن وجهته، ويؤكدون بأن الإشارة تشكل بالنسبة لهم الحل الأمثل للتواصل في ظل ظروف الازدحام الذي تعرفه المدينة. فإن لبعض زملاء المهنة وجهة نظر أخرى في الموضوع، حين يعتبرون بأن استخدام الإشارة أصبح له مردودا اقتصاديا. حيث أنها توفر على السائق كثرة التوقف، التي تؤدى إلى سرعة تآكل «الفرامل»، وفى الوقت نفسه تخفض استهلاك البنزين وزمن الرحلة، وتحد من الازدحام المروري خاصة في أوقات الذروة.أما المتنقلون عبر سيارات الأجرة، فيؤكدون بأن استخدام الإشارات يوفر عليهم الكثير من عناء الهرولة خلف السيارات، للسؤال عن مقصد السائق، خاصة وأن هذه الوسيلة في التنقل ليست لديها لوحات إرشادية بخط السير، كما أن السائقين يلجأون إلى تغيير خط السير باستمرار قبل الوصول إلى نقطة النهاية. وآخرون يعتبرون لجوءهم إلى هذه الإشارات، نتيجة لعشوائية الركوب والنزول، وعدم وجود محطات متقاربة. من جانبها قال خلود السباعي، أستاذة علم الاجتماع بكلية الآداب بالمحمدية، إن لغة الإشارة يلجأ إليها الشخص أحيانا عندما يصعب عليه استخدام اللغة المنطوقة أو المسموعة. موضحة ارتباط الإشارات دائما بجماعة معينة، حيث يحدث التواصل بها بطريقة عفوية في جماعة مغلقة وهوية معينة. و أضافت الأستاذة الجامعية بأن ما يميز هذه اللغة أنها يجب أن تكون متداولة حتى تحقق التواصل. واعتبرت خلود أن الإشارات المستعملة على الطريق اجتهاد عادي ربما لا يحل المشكلة، وربما لا يخلو من صعوبات في التواصل، مسجلة بأن عمق المشكلة هنا يكمن في عجز البعض (كالنساء مثلا) على التواصل بنفس الاشارة المتعارف عليها. وعلى خلفية ذلك شددت على ضرورة تنظيم القطاع، الذي يبين هذا السلوك الشائع الآن بأن «الحاجة هي أم الاختراع كما يقال»، لذلك لا بد من استغلال هذه الابداعات في التواصل، والاستفادة من المجهودات التي يبذلها المواطن في تدبير حاله بحاله، في ظل غياب الاهتمام الرسمي، كما أنها تحمل الدلالة على كيف أنه بأشياء بسيطة يمكن أن يحل المشكل. وفي قراءة للإشارات غير الشفهية المتعارف عليها بين الركاب والسائقين وفك رموزها، رأت أستاذة علم الاجتماع بأنها تعكس جوانب معينة في شخصية هذه المجموعة التي تتواصل وتتفاهم بها، وتؤشر على الذهنية الشائعة في المجتمع وتستنبط دلالاتها اللاشعور الجمعي. و اعتبرت بأن هذا السلوك، فيه الكثير من الدلالات التي يمكن القول بأنها تشكل مفتاحا لفهم الشخصية المجتمعية عموما وطريقة تفكيرها. ومهما كان، فقد صارت الإشارات المتعارف عليها في كل منطقة أكثر استخداما في المواصلات وعلى متن سيارات الأجرة بشكل خاص، كون محطاتها في الغالب لا تستوفي وجود لوحات تحدد كل الاتجاهات، وإن وجدت أحيانا فإنها لا تدل على الاتجاه الفعلي الذي يتجه إليه السائق.