أثير في الآونة الأخيرة على الساحة القانونية المغربية نقاش هام حول مدى قانونية اقتطاع أجور موظفي القطاع العام المضربين عن العمل تأسيسا على مبدأ "الأجر مقابل العمل"، بين اتجاه أول يؤكد قانونية الاقتطاع على أساس المبدأ المذكور الذي لا يقتصر- حسب رأيهم- على العلاقة الشغلية لوحدها بل يتعداها إلى علاقة الموظف بالإدارة، واتجاه ثان يرفض تطبيق مبدأ الأجر مقابل العمل على علاقة الموظف بالإدارة باعتبارها علاقة نظامية لا تعاقدية تحكمها مبادئ القانون العام. وفي خضم هذا النقاش القانوني المطروح وبعيدا عن الجدل الفقهي والقضائي الذي عرفته مسألة تحديد طبيعة العلاقة التي تجمع الموظف بالإدارة (على خلاف ما عرفته مسألة تحديد طبيعة العلاقة الشغلية)3، من علاقة تعاقدية في إطار القانون الخاص إلى علاقة عقد في نطاق القانون العام ثم إلى علاقة نظامية4، يمكن القول على أن مبدأ "الأجر مقابل العمل". يعتبر من الناحية القانونية محل التزام لكل علاقة قانونية بين طرفين مهما كانت طبيعتها تعاقدية أو نظامية.... يلتزم بموجبها مقدم الخدمة بأداء العمل المتفق عليه مقابل التزام طالب الخدمة بدفع المقابل له، وأن تعليق مقدم الخدمة التزامه بتقديم العمل أثناء الإضراب يترتب عنه حق طالب الخدمة بدوره في إيقاف التزامه بدفع الأجر المقابل للمدة التي توقف فيها مقدم الخدمة المضرب على اعتبار أن الأجر هو الالتزام المقابل للالتزام بالعمل. وما يبرر أن الأجر يؤدى مقابل مزاولة العمل (العمل المنجز) كمبدأ عام في جميع العلاقات تعاقدية كانت أم نظامية، لجوء المشرع إلى تأكيد المبدأ سواء في إطار الظهير الشريف رقم 1.58.008 الصادر بتاريخ 24 فبراير 1958 بشأن النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية (الفصول 15 و17 و26 مكرر) أو ضمن أحكام المرسوم الملكي عدد 330-66 بتاريخ 12/04/1967 بشأن النظام العام للمحاسبة العمومية ( الفصل 41 )، أو في إطار القانون رقم 65.99 المتعلق بمدونة الشغل (المادتان 6 و32) أو في ظهير الالتزامات والعقود (الفصل723)، مع وضع بعض الاستثناءات على سبيل الحصر يؤدى فيها الأجر رغم عدم القيام بالعمل سواء في علاقة الموظف مع الإدارة أو في إطار علاقة الأجير مع المؤاجر لم ترد ضمنها حالة الإضراب، و ذلك في الحالات الآتية: * في إطار قانون الوظيفة العمومية: يستفيد الموظفون من الأجر رغم عدم قيامهم بالعمل وفق شروط وضوابط حددها القانون في الحالات الآتية6: الرخص لأسباب صحية ( الفصل 39)؛ الرخصة السنوية ( الفصل 40 )؛ الرخص الاستثنائية أو حالات الإذن بالتغيب (الفصل 41 )؛ المرض المثبت بصفة قانونية ( الفصل 42 )؛ رخصة الولادة ( الفصل 46 )؛ حالة الموظف المستفيد من التفرغ النقابي (الفصل 46 مكرر ثلاث مرات )؛ حالة الموظف الذي تعذر إعادة إدماجه من طرف إدارته الأصلية بعد قضائه فترة الإلحاق بإدارة أخرى (الفصل 51 )؛ الموظف المقرر توقيفه مع الاحتفاظ بمرتبه كاملا أو بعد الاقتطاع منه ( الفصل 73 ). * في إطار قانون الشغل: يستفيد الأجراء من الأجر رغم عدم قيامهم بالعمل وفق شروط وضوابط حددها القانون رقم 65.99 المتعلق بمدونة الشغل في الحالات الآتية: مدة تغيب الأجير للبحث عن شغل آخر أثناء أجل الإخطار (المادة 48 )؛ استراحة الوضع الخاصة بالأم الأجيرة ( المادة 161)؛ العطلة السنوية المؤدى عنها ( المادة 231 )؛ الراحة في أيام الأعياد المؤدى عنها وفي العطل ( المواد من217 إلى230) ؛ الإجازة بمناسبة الولادة ( المادة 270 )؛ الغياب بسبب المرض المهني أو حادثة الشغل ( المادة 273 )؛ التغيبات بسبب أحداث عائلية كالزواج والوفاة والختان والعملية الجراحية، أو لاجتياز امتحان أو لقضاء تدريب رياضي أو وطني، أو للمشاركة في مباراة رسمية دولية أو وطنية ( المواد 274 و275 و276)؛ فترة غياب مندوبي الأجراء لأداء مهامهم داخل المؤسسة أو خارجها (المادة 456 )؛ فترة غياب الممثلين النقابيين لأداء مهامهم ( المادة 472 ). ومن خلال ما تم توضيحه أعلاه يتبين أن المشرع أكد مبدأ الأجر مقابل العمل كقاعدة أساسية لجميع العلاقات القانونية تعاقدية كانت أم نظامية أو ذات طبيعة خاصة، مع وضع استثناءات حصرية يؤدى عنها الأجر في غياب العمل المقابل اقتضتها دوافع صحية أو اجتماعية أو تمثيلية أو إدارية لمقدمي الخدمات أجراء كانوا أم موظفين لا تدخل ضمن زمرتها الغياب بسبب الإضراب7، إذ يتحمل مقدم الخدمة ( الأجير والموظف) تبعات إضرابه (تضحية) للتعبير عن مطالبه ولا يمكن للخزينة العامة للدولة أن تتحمل ذلك، وهو ما أكده القضاء الإداري المغربي في أحد أحكامه حينما أشار إلى أن: " وحيث انه طالما أن الطاعن تغيب عن العمل طيلة يومي 28 و29 دجنبر 2005 للسبب المشار إليه أعلاه فان من حق الإدارة حرمانه من المرتب عن الفترة المذكورة احتكاما لضوابط الفصل 41 من مرسوم 67 المتعلق بالمحاسبة العمومية الذي ينص بكون الأداء هو العمل الذي تبرئ به المنظمة العمومية ذمتها من الدين ولا يمكن تنفيذ هذا الأداء قبل تنفيذ العمل." هذا، وقد أكد القضاء المغربي في عدة مناسبات مبدأ العمل مقابل الأجر في مجال الوظيفة العمومية أسوة بمجال العلاقة الشغلية من خلال قرارات متواترة نذكر من جملتها الأحكام والقرارات القضائية التالية: * " ... وحيث إن عقد التوظيف هو اتفاقية تجعل الموظف في وضعية نظامية تجاه الإدارة يضع بمقتضاها الموظف نشاطه في خدمة الإدارة التي تكون لها السلطة القانونية عليه وتؤدي له مرتبا مقابل تفرغه للعمل لديها. وأنه تفريعا عن ذلك، فان من واجب الموظف أداء عمله بنفسه وبدقة وأمانة وإخلاص ودون إهمال أو تقصير أو تماطل لتأمين حسن سير المرفق العام وانتظامه ورعاية لحقوق ومصالح المواطنين. ... إن كان الإضراب حقا دستوريا ومشروعا إذا ما تمت ممارسته طبقا للضوابط المشار إليها أعلاه، فان من حق الإدارة الاقتطاع من الأجر طيلة المدة التي تغيب خلالها المدعي لممارسة الإضراب، لأن واجبات الموظف أداء العمل مقابل المرتب الذي يتقاضاه، إذ أن القاعدة المسلم بها أن كل حق يقابله واجب". ( حكم المحكمة الإدارية بفاس رقم 918 بتاريخ 29/11/2006 في الملف عدد 286 غ/ 2006)11؛ * " ..... وحيث انه من بين الآثار المترتبة عن الانقطاع عن العمل أو عن ممارسة حق الإضراب كما هو مستقر عليه في الفقه والقضاء الإداري الفرنسي، هو فقدان الحق في الجرة عن الفترة التي يتم فيه الانقطاع عن العمل، وأن الأمر هنا لا يتعلق بعقوبة تأديبية وإنما بتطبيق " مبدأ العمل المنجز" كما هو منصوص عليه في الفصل 11 من مرسوم 21/04/1967 المتعلق بسن نظام عام للمحاسبة العمومية". ( حكم المحكمة الإدارية بأكادير رقم 274/2005 بتاريخ 22 دجنبر 2005 في الملف عدد 211 / 2005غ)12؛ * " ثبوت عدم التزام الجهة المضربة بالضوابط المقررة لممارسة هذا الحق بشكل أدى إلى عرقلة سير المرفق العام ولجوء الإدارة إلى تطبيق مقتضيات المرسوم رقم 2.99.12.1216 الصادر في 10 ماي 2000 باعتبار أن الأجر يؤدى مقابل العمل ... قرار الاقتطاع من الراتب قرار مشروع ....إلغاؤه...لا." ( حكم المحكمة الإدارية بالرباط عدد 148 بتاريخ 07/2 /2006 )؛ هذا، وقد أكدت محكمة الاستئناف بالرباط نفس الاتجاه القضائي في عدة قرارات نذكر من جملتها القرار عدد 730 بتاريخ 17/10/ 2007 في الملف عدد 201/07/05، حيث اعتبرت أن ممارسة حق الإضراب في شكل امتناع عن العمل يؤدي إلى فقدان حق الحصول على أجرة ذلك اليوم في إطار الفصل 41 من قانون المحاسبة العمومية وقانون 81.12 نظرا لعدم حصول الموظف على رخصة التغيب عن العمل. وتجدر الإشارة، إلى أن العديد من الأنظمة القانونية المقارنة شهدت نفس النقاش المطروح حاليا بالمغرب حول اقتطاع الأجور في مجال الوظيفة العمومية تأسيسا على " مبدأ الأجر مقابل العمل" في فترات زمنية سابقة، كما هو الحال بالنسبة للنظام القانوني الفرنسي الذي أقر مفهوم العمل المنجز (La notion de service fait)15 منذ صدور قانون المحاسبة العمومية الفرنسي بتاريخ 31 مايو 1862 الذي نص في فصله العاشر (10) على مايلي : " Aucun paiement public ne peut être effectue qu'au véritable créancier justifiant de ses droits et pour l' acquittement d'un service fait". وهي القاعدة التي تم إقرارها في الأنظمة العامة لسنتي 1946 و1959 قبل أن يتم اعتمادها في النظام العام الحالي موجب القانون 83.634 الصادر بتاريخ 13 يوليو 1983 المتعلق بحقوق وواجبات الموظفين المعروف بقانون "" Le Pors الذي نص في مادته 20 على مايلي: "Les fonctionnaires ont droit, après service fait, a une rémunération comprenant...". وكذا ضمن أحكام القانون رقم 84.16 الصادر بتاريخ 11 يناير 1984 المتعلق بالأحكام النظامية بشأن الوظيفة العمومية في فصله 64 الذي نص على أن: " Les fonctionnaires régis par le présent titre ont droit , après service fait, a une rémunération fixée conformément aux dispositions de l'article 20 du titre 1er du statut général." هذا، وقد أصدرت الحكومة الفرنسية منشورا بتاريخ 30 يوليو 2003 يحدد آليات وكيفيات الاقتطاع من أجور الموظفين العموميين للدولة في حالة الإضراب. وموازاة مع توجه المشرع الفرنسي في إقرار مبدأ "الأجر مقابل العمل" في مجال الوظيفة العمومية أقر القضاء الفرنسي في عدة مناسبات المبدأ المذكور انطلاقا من قرار مجلس الدولة الشهير المعروف بقضية "Omont" الصادر بتاريخ 07 يوليو1978 (Rec. CE ) رغم الانتقادات الموجهة إليه، وكذا مجموعة من القرارات وعموما يمكن القول بناء على ما تم بسطه حول مبدأ الأجر مقابل العمل في مجال الوظيفة والعلاقة الشغلية، من مواقف وآراء قانونية وفقهية وقضائية سواء على مستوى النظام القانوني المغربي أو على ضوء الأنظمة القانونية المقارنة (فرنسا)، أن نطاق تطبيق المبدأ المذكور لا يقتصر على علاقة الأجير بالمؤاجر بل يتعداها إلى كل علاقة قانونية مهما كانت طبيعتها (تعاقدية، نظامية...) يلتزم بموجبها مقدم الخدمة بأداء العمل المتفق عليه مقابل الأجر، وذلك حفاظا على توازن المصالح بين الطرفين بناء على مبادئ العدل والإنصاف. ومن تم يكون للإضراب عن العمل أثر موقف للأجر لا يمكن أن يتحمل تبعته المشغل في العلاقة الشغلية والخزينة العامة للدولة في مجال الوظيفة العمومية لما فيه من إهدار لذمة المشغل والمال العام للدولة.