في وقت يجمع فيه معظم المراقبين على استحالة بقاء الوضع السوري على حاله، أعني لجهة بقاء النظام القائم، وعلى رأسه بشار الأسد مهما طال أمد المعركة، فإن المشهد لا يزال يثير الكثير من الأسئلة المعقدة بخصوص المدى الزمني الذي ستستغرقه عملية إسقاط النظام، وهي أسئلة ما كان لها أن تطرح في ظل بسالة الثورة وتداعي قبضة النظام على أجزاء كبيرة من مساحة البلد لولا الدعم الإيراني والروسي الهائل للنظام، الذي يتجاوز الدعم العسكري إلى دعم تكنولوجي، فضلا عن الدعم الاقتصادي، ما يجعل التساؤل حول موقف هاتين الدولتين من الصراع وتداعياته عليهما مشروعا إلى حد كبير. منذ شهور طويلة، قلنا إن سوريا قد أخذت تحاكي النموذج الأفغاني، من حيث تدفق المقاتلين الإسلاميين من الخارج، وبالطبع إثر تحول المعركة من انتفاضة سلمية إلى مسلحة على نحو شبه شامل، وإن بقيت الفعاليات السلمية قائمة بهذه الدرجة أو تلك. وقلنا إن الحشد مع الشيوعية في أفغانستان قد استبدل منه على نحو ما الحشد ضد الشيعة وإيران، بينما تؤكد معظم التحليلات أن إيران ستدفع ثمنا باهظا في هذه المعركة، تماما كما دفع الاتحاد السوفياتي ثمنا باهظا في حربه في أفغانستان، فضلا عن الثمن الذي ترتب على هزيمته المدوية فيها ممثلا في تفكك الاتحاد. وها هي روسيا وريث الاتحاد السوفياتي تكرر التجربة مع الفارق، إذ دفعت الكثير في المعركة، والأرجح أنها ستدفع أكثر بعد سقوط النظام. وكما غاب العقل في الاتحاد السوفياتي بتورطه في المستنقع الأفغاني، وإصراره على استمرار المعركة سنوات طويلة رغم وضوح عبثيتها، الذي أدى إلى ما أدى إليه، فقد فقد العقل الإيراني رشده أيضا، ومعه الروسي، والنتيجة أن إيران لن تدفع فقط ثمنا باهظا على صعيد فشل مشروع تمددها الذي اشتغلت عليه ثلاثة عقود، ودفعت فيه كلفة باهظة (أعني تأثير الهزيمة على إنجازاتها في العراق ولبنان على وجه الخصوص)، فضلا عن الكلفة المالية التي دفعتها من أجل الحفاظ على بشار الأسد (بلغت حتى الشهر قبل الماضي 10 مليارات دولار حسب مصادر غربية)، بل ستضيف إلى ذلك خسائر أخرى تتمثل في حراك داخلي كبير يبدو أكثر من متوقع، ولا يستبعد أن ينتهي بثورة إيرانية تطيح بحكم المحافظين برمته. لعل ذلك تحديدا هو ما يدفع إيران إلى القتال حتى الرمق الأخير من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، مثل المقامر الخاسر الذي يزداد تشبثا بالطاولة رغم استمرار خسائره (ينطبق ذلك على روسيا أيضا). ويتمثل بؤس تفكير إيران في إحجامها عن تقديم حل تقبله المعارضة السورية مقابل دفع الأوضاع دفعا نحو هزيمة مدوية سيكون ثمنها باهظا، تماما كما كان عليه الحال للاتحاد السوفياتي في أفغانستان. واللافت هنا أن الغرب (خاصة أميركا) الذي يتحرك شرق أوسطيا على إيقاع الهواجس الإسرائيلية ما زال يمنح إيران فرصة بالأمل بإبقاء الأسد، وهو يفعل ذلك لأن إيران القوية، والمصرة على برنامجها النووي تشكل خطرا على الكيان الصهيوني، وحين يستدرجها (أعني الغرب) نحو مزيد من التورط في المستنقع السوري، إنما يضرب عصفورين بحجر واحد، إذ يدمر سوريا الدولة والكيان أكثر فأكثر بحيث تنشغل بنفسها لعقود، في الوقت نفسه الذي يستنزف فيه إيران التي ستكون بعد سوريا أكثر جاهزية للتنازل عن برنامجها النووي. ولعل ذلك هو ما يفسر التراجع الإسرائيلي الملحوظ في الحديث عن الخيار العسكري حلا للتعاطي مع المشروع النووي الإيراني، حيث بدأت الدوائر الإسرائيلية والغربية عموما، تشتم قابلية أكبر لدى طهران للمساومة على المشروع من أجل التخلص من العقوبات التي سيكون تأثيرها أكثر سوءا بعد سقوط الأسد، أعني لجهة تأثيرها على الشارع الإيراني. بمعنى أن المحافظين الذي سيُهزمون في سوريا لن يجدوا من أجل إسكات الشارع بديلا عن التنازل عن البرنامج النووي كي ترفع العقوبات، وهو خيار لا تراه غالبية الجمهور الإيراني كارثيا، لأنها أصلا لم تكن مقتنعة بجدوى ذلك البرنامج. نتذكر في هذا السياق ما كشفه استطلاع للرأي أجرته القناة الإخبارية في التلفزيون الإيراني قبل خمسة أشهر، حيث تبين أن غالبية الإيرانيين يؤيدون وقف التخصيب مقابل الرفع التدريجي للعقوبات الدولية على إيران. وكانت القناة قد سألت الجمهور عن الطريقة التي يفضلونها «لمواجهة العقوبات الأحادية التي فرضها الغرب على إيران»، طارحة عليهم ثلاثة خيارات، هي: «التخلي عن التخصيب، في مقابل رفع تدريجي للعقوبات، إغلاق مضيق هرمز، أو مواجهة العقوبات للحفاظ على الحقوق النووية لإيران». وكانت المفاجأة أن 63 % قد أيدوا وقف التخصيب، بينما أيد 20 % إغلاق مضيق هرمز، وقال 18 % بأن الأفضل هو مواجهة العقوبات. وللتقليل من تأثير الاستطلاع بادر موقع القناة إلى تجميده بعد 28 ساعة من بدء التصويت عليه، موضحا أن قراصنة إنترنت من خارج إيران هم الذين أثروا على النتيجة. لا يحدث ذلك مع إيران وحدها، بل مع روسيا أيضا، إذ إن السياسة الأميركية والغربية ما زالت تحاول استغلال الأزمة السورية في سياق إضعاف الدب الروسي الذي كان يتحرك حثيثا في اتجاه استعادة نفوذه الدولي، وسجل نقاطا مهمة في سياق استعادة ما سُلب منه في حديقته الخلفية التي كانت نفوذا للاتحاد السوفياتي السابق، وحين يجري تفكيك آخر قاعدة عسكرية روسية في الشرق الأوسط (في طرطوس) بتلك الطريقة المذلة المتوقعة، فإن ذلك لن يكون فأل خير على هيبة روسيا ونفوذها، لا سيما بعد أن خرجت موسكو صفر اليدين من الكعكة الليبية. كان بوسع إيرانوروسيا أن تتخذا موقفا أكثر عقلانية من الصراع في سوريا، ولو انحازا لمطالب الشعب لما كان لهما أن يتعرضا لكل هذه الخسارة التي سيتعرضان لها، وتحقق جزء منها عبر المصاريف الباهظة التي دفعت لأجل إسناد النظام. مع أن الخسارة السياسية ستكون أكبر بكثير، وبالطبع بعد أن تحولت روسيا إلى عدو في وعي جماهير الأمة الإسلامية، بينما خسرت إيران غالبية الأمة الإسلامية، وصارت في وعيها من ألد الأعداء، وهو ما ستكون له تداعياته الكبيرة على البلدين. بقي القول إن أي تسوية يمكن التوصل إليها لن تقلل كثيرا من الأضرار التي تعرض وسيتعرض لها البلدان، هذا إذا تم التوصل فعلا لتسوية، ولم يسبقها حسم عسكري لن يستقر الوضع بعده بسهولة.