قرار وزارة الصحة إعلان مكافحة الممارسة غير القانونية للطب في المصحات الخاصة وعزم الوزارة إجراءات المتابعة القانونية لإنهاء هذه الظاهرة يأتي في إطار منظومة من القرارات الحكومية التي تؤشر على وجود معالم تحول عميق في تدبير الحكومة للإصلاح، وأنها اختارت الخيار الصعب في معالجتها لبعض الملفات بعدما استقرت تقاليد في العمل الحكومي تجنح إلى تأجيل الإصلاح المكلف الذي يجعل الأحزاب السياسية المشكلة للحكومة في مواجهة مباشرة مع لوبيات الضغط المستفيدة من الوضعية القائمة أو متخوفة من ردود فعل الشارع أو ردود فعل نخبة أو شريحة منه. هناك على الأقل سبع قرارات مفصلية تؤشر على هذا التحول، وتؤكد بأن هذه الحكومة اختارت بوعي سياسي عميق أن تنخرط في الإصلاح العميق تاركة وراء ظهرها الاعتبارات السياسية والانتخابية وغير متخوفة من مواجهة الصعب أو مواجهة الصخب في تدبير الملفات الساخنة. - أهم هذه القرارات وهو القرار القوي وزير الصحة، الحسين الوردي، بمكافحة الممارسة غير القانونية للطب من طرف مهنيي الصحة وتهديد الوزارة بالمتابعة القانونية للمصحات الخاصة إن تبث أنها تسمح بالممارسة غير القانونية لأطباء القطاع العام داخلها. - ونشر وزارة التجهيز والنقل للوائح المستفيدين من مأذونيات النقل واتخاذ رئيس الحكومة قرارا بنشر لوائح المستفيدين من مقالع الرمال، والاتجاه الكلي نحو إلغاء منطق الريع والامتياز واستبداله بمنطق التعاقد وفقا لدفاتر تحملات واضحة. - والإعلان عن الانخراط في إصلاح صندوق المقاصة وتحديد سقف الإنجاز داخل ولاية هذه الحكومة (2013) مع ما يمكن أن يترتب عنه من إشكالات عميقة اضطرت الحكومات السابقة إلى تأجيل هذا الورش خوفا من مواجهتها. - قرار وزير التربية الوطنية بمنع أطر التعليم العمومي من التدريس في التعليم الخصوصي والذي سيجد تطبيقه بشكل متدرج في السنة المقبلة. - إصرار الحكومة على إنهاء التوظيف المباشر واعتماد مبدأ الاستحقاق وتكافؤ الفرص بين المواطنين في التوظيف. - التوجهات التضامنية التي سنتها الحكومة في مشروع قانون المالية 2013 وإقدامها على القطع مع منطق ربط دعم تنافسية الاقتصاد الوطني بالإعفاءات الضريبية، وإلزام ذوي الدخل المرتفع والشركات التي تحصل على أرباح ضخمة بضريبة تضامنية في أفق ثلاث سنوات لتمكين صندوق التماسك الاجتماعي من أداء وظيفته الاجتماعية. - ثم إدخال الحكامة إلى الإعلام العمومي، وإنهاء منطق الريع والامتيازات في التعامل مع شركات الإنتاج، واعتماد منطق الجودة والتنافسية وتكافؤ الفرص في انتقاء البرامج. هذه القرارات الكبرى التي أثارت جدلا واسعا ووجهت بلوبيات قوية صرفت اعتراضها بطرق متعددة، انعكست بشكل واضح على الواجهة الإعلامية، تؤكد وجود وعي لدى الحكومة، بأن الإصلاح العميق في جميع القطاعات، لا بد له من كلفة سياسية تتحملها، وأن منطق الترضيات والمحافظة على التوازنات والخوف من الضغوط واللوبيات، وأن هاجس الخوف من ضغط بعض الشرائح وردود فعلها المفترضة أو من أثر ذلك على الشعبية الانتخابية للأحزاب المشكلة للحكومة، كرس تقاليد في العمل الحكومي منعتها من المغامرة وتبني الاختيار الصعب لتحقيق الإصلاح. مؤكد أن هذه الإصلاحات والتي تليها، ستجد مقاومة عنيفة، ومؤكد أيضا أن كلفتها السياسية ستكون مرتفعة، لكن لا خيار للإصلاح من المضي في هذا الطريق الصعب، ولا بد من تجربة تقدم على مغامرة كسر التقاليد الحكومية المعيقة للتقدم في الإصلاح، وتأسيس ثقافة سياسية مواطنة وبناء مسلكية جديدة في العمل السياسي لا تضحي بالإصلاح وبمصالح الوطن فقط من أجل تحصين مواقع انتخابية أو سياسية. ليس مهما في اللحظة التأسيسية النظر إلى الكلفة السياسية التي ستدفعها الحكومة بكل مكوناتها، وليس مهما أيضا حجم الاعتراضات التي قد تبديها جيوب مقاومة الإصلاح أو حتى بعض الجهات التي تحس بأن قرارات الحكومة ستنهي بعض امتيازاتها، إنما المهم في هذه اللحظة هو المضي بكل إصرار وحكمة وتعقل في اتجاه تهيئة كل الشروط للمضي في الطريق الصعب لإنجاز الإصلاح والتعبير عن أعلى مستويات الوطنية والالتزام بخدمة مصالح هذا البلد. إن النتيجة الطبيعية لهذا الاختيار الصعب هو المساهمة في تغيير الثقافة السياسية، بل تغيير المنطق الانتخابي أيضا، بإعادة بناء قواعده على معايير الإنجاز والتضحية من أجل مصالح الوطن، لا على أساس ترضية الجهات المستفيدة ضدا على مصالح الوطن