صادقت الحكومة يوم الاثنين الماضي على مشروع قانون المالية 2013، وكشفت عن ثلاث توجهات أساسية مؤطرة لهذه الميزانية تمثلت في دعم الاستثمار وتحسين تنافسية الاقتصاد الوطني، وتدعيم سياسات استعادة التوازنات الماكرو اقتصادية، وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية. ومع أن تفاصيل مشروع قانون الميزانية هي التي تكشف بالتحديد العناوين والتوجهات الاقتصادية والمالية الحكومية، إلا أن المقارنة الأولية بين عناوين ميزانية 2012، والمؤشرات التي تم وضعها في مشروع قانون المالية لهذه السنة، يكشف وجود انشغال عميق بمعادلة يصعب حلها دون تحمل كلفة في أحد الجوانب. مآزق هذه المعادلة غير خافية، فالرهان على تحقيق النمو وتوزيع ثمراته لتقليص الفوارق الاجتماعية وتحسين الخدمات الاجتماعية والتقليص من نسبة البطالة، يتطلب أن تكون الوضعية الاقتصادية محفزة لنمو الاقتصاد الوطني وغير محكومة بإكراهات الأزمة الاقتصادية التي ضربت أوربا، والتي كانت لها تداعيات مباشرة على موارد الدولة. كما أن كلفة الرهان التقليدي على استعادة الموازنات الماكرو اقتصادية لا تتحملها في الغالب إلا الشرائح الاجتماعية، فيما تعاني أي سياسة اقتصادية تتوجه أولوياتها إلى الجانب الاجتماعي إلى الزيادة في المديونية الداخلية والخارجية والارتهان إلى المؤسسات المالية الدولية. طبعا، هذا لا يعني، أن النفق مسدود، وأن كل الخيارات المتاحة تؤدي بالضرورة إلى تعقيد الأزمة، وإلا فما الحاجة إلى حكومة سياسية إن لم تكن لها القدرة الإبداعية على تقديم مقاربة اقتصادية قادرة على الخروج من الأزمة وإعادة العافية للاقتصاد الوطني؟ من سوء حظ هذه الحكومة أن تدبيرها الاقتصادي والمالي مرهون بالوقت، ليس بمعناه الدستوري الذي يتسع لخمس سنوات تملك فيها الحكومة الحرية في بناء برنامجها المتدرج لبناء الاقتصاد الوطني التنافسي، وإنما بمعناه اليومي، الذي يرتبط بحجم الإكراهات والانتظارات الاجتماعية الضاغطة. ولذلك، كان من الضروري أن يتم مراجعة منطق "انتظار ثمرات النمو"، لأن النمو نفسه مرتبط في بعض جوانبه بمحددات قد لا تكون للحكومة يد في إنتاجها، فالجفاف وارتفاع أسعار النفط، لم يترك أي فرصة لتحقيق المؤشرات التي أعلنت عنها الحكومة بناء على تقدير سنة فلاحية متوسطة وسعر نفط لا يتجاوز 100 دولار، ومن ثمة كان لا بد من إدخال تعديلات على هذا المنطق، والتوجه إلى آليات جديدة لتنمية موارد الدولة وتوجيهها إلى البعد الاجتماعي التضامني وتوفير مناصب شغل بحجم يستوعب نسبيا ضغط الشارع أو على ألأقل يخفف منه، والرهان على مواصلة مشاريع وأوراش التنمية المفتوحة ودعم الاستثمار المنتج وإنجاز الإصلاحات الأساسية المرتبطة بالعدل والتقاعد والمقاصة، وتحسين تنافسية الاقتصاد الوطني والتوجه نحو التصنيع بدل الارتهان كلية إلى الفلاحة وإحداث التوازن في النسيج المقاولاتي عبر دعم المقاولات المتوسطة والصغرى عبر سلسلة من الإجراءات الضريبية والتمويلية والإدارية. توجهات كهذه، إذا انضافت إليها المؤشرات الكبرى التي رفعتها الحكومة في مشروع قانون المالية 2013 - معدل نمو 5 ر4 في المائة وتقليص نسبة العجز من الناتج الداخلي الخام إلى 8ر4 في المائة وتوفير 24 ألف منصب شغل على مستوى الإدارة نصفها تقريبا في القطاعات الاجتماعية وإطلاق عدد من المبادرات لمواجهة تحديات البطالة- هذه التوجهات، بل هذه المؤشرات الكبرى، تطرح سؤال الموارد الإضافية التي ستمكن الحكومة من المضي في تطبيق الإجراءات التضامنية، وهل ستلجأ إلى السياسة الضريبية فقط لتحقيق هذه الرهانات؟ أم أنها ستعتمد مقاربة شمولية، تمزج بين اعتماد الإجراءات الضريبية وبين الحوافز التمويلية والإدارية التي من شأنها أن تقضي على التملص الضريبي أو تخفف من غلوائه، وتطهر مناخ الاستثمار، وتقدم شروطا أفضل له؟ لحد الآن، لم تكشف الحكومة عن أي معطى يخص المقاربة المعتمدة لتحقيق هذه التوجهات والوصول إلى تلك المؤشرات، ربما لأنها تقدر أن جزءا من تدبير هذا الملف، يتطلب التحفظ قبل وصول المشروع إلى السادة نواب الأمة، لكن، في ظل وجود معالجات خبرية، تحاول أن تختصر مقاربة الحكومة في "إحداث ضرائب جديدة"، ربما كان الاستمرار في التحفظ مساعدا على تقديم صورة مغلوطة عن تصور الحكومة ومقاربتها لآليات بناء الاقتصاد الوطني وتطوير قدرته التنافسية، والتوجهات الاجتماعية التي تعتزم تحقيقها. ليس المطلوب من الحكومة الاستجابة لهذه المعالجات، وإنهاء سياسة التحفظ التي اختارتها في التعامل مع المعطيات التفصيلية لمشروع قانون المالية 2013، وإنما المطلوب مضاعفة الجهد التواصلي لمنع ترسيخ أي صورة سلبية عن هذا المشروع، ومحاولة خلق نقاش عمومي حول الظرفية الاقتصادية الحالية والسيناريوهات المتاحة وكلفة كل خيار على حدة، وتبرير الاختيارات المالية والاقتصادية الذي لجأت إليها الحكومة، وتبسيط الخطاب لإشراك أوسع شريحة ممكنة من المواطنين في فهم هذه الخيارات. فهذه هي نقطة قوة أي حكومة تريد لمشاريعها أن تحظى بالدعم والإسناد الكافي لاسيما في هذه الظرفية الحساسة.