كان شهر غشت هو الأكثر دموية على الإطلاق في تاريخ الثورة السورية، ولا ندري هل سيتفوق عليه شهر سبتمبر أم سيقل عدد الضحايا، إذا لم يقدر الله سقوطا للنظام يحمي ما تبقى من مقدرات السوري، وينقذ عددا كبيرا من البشر المهددين بالقتل. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو لماذا هذا التصعيد في آلة القتل والتدمير من قبل نظام بشار الأسد؟ وهل يمكن القول إن هذا اللون من السلوك هو سلوك رجل يعتقد أنه سيتمكن من إخضاع الثورة وإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء وكأن شيئا لم يحدث طوال ما يقرب من عامين؟ من المؤكد أن الطغاة يزدادون شراسة كلما اقترب سقوطهم، لكن افتراض وجود قليل من العقل والمنطق في صفوف النظام وداعميه لا بد أن يفضي إلى اعتقاد وجود خطة ما خلف هذا التصعيد في مسلسل القتل والتدمير. ما يدفعنا إلى هذا الاعتقاد هو ذلك النشاط الذي دب في الدبلوماسية الإيرانية خلال الأسابيع الأخيرة، بخاصة عشية قمة عدم الانحياز في طهران وقبل ذلك ترحيبها بمبادرة الرئيس المصري بإنشاء مجموعة اتصال تتشكل من مصر وتركيا وإيران والسعودية من أجل إيجاد حل للمعضلة السورية، فضلا عن مشروع الحل «العقلاني والمقبول» الذي قال وزير الخارجية الإيراني علي صالحي إنه سيعرض على القمة، وسيكون من الصعب على الأطراف المتنازعة أن ترفضه. ويبدو أن تصريحات الرئيس مرسي المطالبة بتنحي الأسد لم تعجب طهران التي ردت عليها بتصريح لبروجردي رئيس لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى الإيراني يتحدث عن مؤتمر لأصدقاء سوريا يعقد في طهران. لم يعد ثمة شك في أن إيران هي التي تدير المعركة في سوريا بوصفها المعركة الكبرى التي تحدد مصير مشروع تمددها في المنطقة، بصرف النظر عن طبيعة المشاركة، وما إذا كانت تكتفي بالتخطيط والتسليح ومنح التكنولوجيا والتمويل، أم تتعداها لمشاركات مباشرة على الأرض. بل إن مجمل سلوكها وتصريحاتها لا تزال تؤكد أنها تتعامل بمنطق الوصاية على النظام، في ذات الوقت الذي تسنده معنويا بشكل يومي من أجل أن يحافظ على تماسكه عبر إقناع الفئات الداعمة له بأنه لا يخوض حربا يائسة. من هنا يمكن القول إن أي حراك سياسي تديره إيران لا بد أن يكون منسجما مع النشاط العسكري الذي يُدار على الأرض في التعامل مع الثورة. والذي نميل إليه هو أن التصعيد العسكري في مسلسل المجازر والدمار إنما يهدف في جانبه الأهم إلى تحسين شروط التفاوض بين النظام والمعارضة بناء على تقدير موقف يقول إن المعركة قد تطول على نحو يدمر البلد بأكمله، ومن الأفضل إيجاد حل سياسي، لاسيما أن من بين المحسوبين على المعارضة من يتبنون هذا الطرح كما هو حال هيئة التنسيق الوطني التي طرحت مبادرة لا يمكن رفضها من قبل النظام إذا تم تبنيها فعليا من قبل المجلس الوطني والجيش الحر، وهي التي تعد إنقاذا له من المأزق القائم، وربما إنقاذا للطائفة التي ينتمي إليها عمليا، والتي وضعت بيضها كاملا في سلته. ولا يمكن النظر إلى المؤتمر الذي ستعقده الهيئة المشار إليها في 12 سبتمبر بعيدا عن هذا الحراك، وهي التي يُعتقد وجود صلات بين بعض رموزها وبين حزب الله وإيران. كما أن من الضروري القول إن الأمر يتعدى التصعيد العسكري إلى مساعي إظهار التماسك من قبل النظام عبر تصريحات متشددة لرموزه، وعبر ظهور لبشار الأسد في مقابلة مع فضائية الدنيا المساندة، وما تضمنته من حديث يؤكد القدرة على الانتصار على الثورة، وإن بشكل متدرج. هذا هو الهدف الأهم من عملية التصعيد القائمة وما انطوت عليه من مواقف وتصريحات مهمتها الإيحاء بتماسك النظام، أعني تحسين شروط التفاوض على المخرج، لكن الهدف الآخر الذي لا يمكن تجاهله يتمثل في التعامل مع السيناريو الأسوأ ممثلا في فشل الحل السياسي واليأس من إمكانية بقاء النظام. هنا يمكن القول إن هدف التدمير الممنهج والرعب الواسع النطاق الذي يبثه النظام هو تدمير الدولة المركزية، خصوصا مدينتي حلب ودمشق الأكثر أهمية وحساسية في البلد، ومن ثم اللجوء إلى خيار الدويلة العلوية في الساحل السوري بعد تطهيره من السكان السنة، الأمر الذي سيجعل من الصعب على دولة ضعيفة تنهشها الخلافات السياسية بين أطياف المعارضة (دعك من إمكانية استئثار الأكراد بجزء منها) أن تلاحق تلك الدويلة الوليدة التي ستحظى بدعم استثنائي من إيران. ولا يُستبعد أن يكون هدف الاستئثار بمناطق معينة ليس تثبيت الدويلة، بل التفاوض على إعادتها للدولة مقابل ضمانات للطائفة العلوية. والحال أن أيا من المخططات التي تديرها إيران وينسجم معها النظام لن يكتب لها النجاح، وفق السيناريوهات المرسومة على الأقل؛ فلا الثورة ستقبل بتقسيم سوريا مهما كان الثمن، وتبعا له الابتزاز، ولا دول الجوار ستقبل ذلك مهما طالت المواجهة. أما الحلول السياسية فلن يُقبل منها ما ينطوي على نصف انتصار للثورة، بل لا بد من انتصار واضح يغير بنية النظام وليس رأسه فقط، مع العلم بأن جوهر التحرك الإيراني لا يستبعد على ما يبدو (وإن قال غير ذلك) إمكانية تنحي الأسد مقابل الحفاظ على البنية الأمنية والعسكرية للنظام، وتبعا لها وضع الطائفة العلوية في الوضع الجديد. من جهة أخرى تزداد ملامح التدخل الخارجي وضوحا، ليس حبا للثورة ولا رأفة بالضحايا، وإنما خوفا على السلاح الكيمياوي الذي فضح النظام حجمه الكبير، وهو ما يحفز بدوره جهود إيران لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل ذلك التدخل الذي لن يكون بالإمكان مواجهته، فيما يعلم الجميع أن الحسم من دون تدخل عسكري سيكون ميسورا لو سمح بتسليح جيد للمعارضة ما زالت أميركا تمنعه بكل ما أوتيت من قوة. ليس الخوف على السلاح الكيمياوي وحده تبعا لمصلحة الكيان الصهيوني هو ما يحفز التدخل، إذ هناك طبيعة الثوار ووجود مجموعات تصعب السيطرة عليها (يرتبط ذلك بمخاوف وقوع السلاح الكيمياوي في يدها أيضا)، فضلا عن التحكم في مسار الثورة التي تقترب حثيثا من النصر، وبالطبع من أجل تطويق عنق الشعب السوري بجميل يجعله بعيدا كل البعد عن أية سياسات لا تنسجم مع المصالح الأميركية الإسرائيلية في المنطقة. ولا شك أن مخاوف الأتراك من التقسيم وأحلام الأكراد ستدفعهم إلى التوافق مع تدخل عسكري غربي حتى لو لم يكونوا مقتنعين به تماما. لقد قلنا وسنظل نقول إن البرنامج الأكثر فاعلية في السياق السوري إلى الآن هو البرنامج الإسرائيلي الذي أيقن استحالة بقاء النظام، فذهب نحو خيار تدمير البلد من أجل إشغاله بنفسه لعقود، مما يعني تخلصه من بعض إزعاجات النظام السابق من جهة، وعزله لإيران على نحو يسهِّل أمر التعامل مع برنامجها النووي من جهة أخرى، في ذات الوقت الذي قد يستجد فيه في سوريا وضع غير مزعج، مدة ثلاثة عقود قادمة على الأقل. كل ذلك ليس قدرا بحال، فالثورة الرائعة التي قدمت أعظم التضحيات لن تستسلم لخيارات الأعداء، وهي قادرة على حسم المعركة على غير ما يشتهي العدو، كما أن الشعب السوري لن يكون مطية لأية مخططات أجنبية لا تنسجم مع مصالحه من جهة، وروحه القومية والإسلامية من جهة أخرى.