جدير أن نتوقف عند مؤتمر السفراء السنوي الذي عقده فرانسوا هولاند أول أمس الاثنين مع حوالي 200 دبلوماسي فرنسي عبر العالم، فقد كان الموعد مناسبة لتحديد أولويات السياسة الخارجية الفرنسية مع مختلف دول العالم، كما كان محطة لعرض رؤية فرنسا للتحديات التي يعاني منها العالم ومنهجيتها المستقبلية في التعاطي معها ومع أن الاهتمام الأكبر في خطاب فرانسوا هولاند سينصرف إلى تحليل الرؤية الفرنسية في التعاطي مع الملف السوري والملف النووي الإيراني، إلا أن هناك حاجة، خاصة في البلدان التي عرفت تحولات ما بعد الربيع العربي، إلى التوقف عند محاور السياسة الفرنسية الموجهة إليها، وفي هذا الصدد نحاول أن نركز على النقاط الآتية: تتعلق الأولى بالتحدي اللغوي، أو بعبارة أدق، التحدي الفرنكفوني، فقد تم رفع اللغة الفرنسية في كلمة فرانسوا هولاند إلى مستوى جعلها أحد محددات السياسية الخارجية الفرنسية، بل وقع التحديد الدقيق لمفهوم اللغة وكونها لا تعني اللسان الفرنسي فقط، وإنما تعني الثقافة والقيم ورؤية فرنسا للعالم. وتتعلق الثانية، بالتحدي القيمي، إذ ركز هولاند في كلمته على محدد الحريات والحقوق في التعاطي مع الحكومات التي أفرزها الربيع العربي، وركز في كلمته بشكل خاص على حقوق الإنسان وعلى حرية المرأة، مما يعني مزيدا من تقديم الدعم لأجندات الحراك الحقوقي المتمحور حول مفهوم خاص للحريات الفردية. وتتعلق الثالثة، بمنظور فرنسا للعلاقة مع دول المغرب العربي، وأولوياتها في التعاطي معه هذه البلدان . فواضح من خلال المقدمات الكبرى التي بنى عليها فرانسوا هولاند رؤية فرنسا لسياستها الخارجية أن ما يهمها في هذه المرحلة بشكل أساسي هو قضية الأمن في جميع أبعاده، بما في ذلك الأمن السياسي والاقتصادي. ولذلك، فلا عجب أن ينعكس هذا التصور على أولويات فرنسا في التعامل مع دول العالم العربي، إذ وضعت فرنسا مواجهة تحدي الهجرة والمخدرات في أولى أولويات سياستها الخارجية، فيما أتى بعد هذه الأسبقية، قضية التبادل المهني والأكاديمي، ثم جاء في المرتبة الأخيرة التعاون الاقتصادي والتجاري. وتتعلق الرابعة، بأولوية مواجهة التحديات الأمنية في دول الساحل جنوب الصحراء، إذ بدا واضحا التركيز على ضرورة الضغط على الدول المجاورة لهذه المنطقة من أجل إقامة تعاون إقليمي يحول دون إمكانية توسع الخطر الإرهابي في المنطقة. وتتعلق الخامسة بتحول مفصلي في السياسة الفرنسية في إفريقيا، والتوجه نحو انفتاح أكبر على مكونات الطيف السياسي بما في ذلك المعارضة ومكونات المجتمع المدني، مما يعني وجود إرادة لتوسيع النفوذ الفرنسي في إفريقيا وخلق محاور جديدة تابعة للدائرة الفرنسية في هذه القارة. الخلاصة التي تجمع هذه العناصر الخمسة، أن أولويات فرنسا في سياستها الخارجية تجعل تنمية دول جنوب المتوسط في آخر انشغالاتها، وفي المقابل تجعل من التزامات هذه الدول بمواجهة التحديات المقلقة لفرنسا أولوية من أولوياتها، وتعتبر منطقة شمال إفريقيا، بل والقارة الإفريقية برمتها حقلا خصبا لنشر الثقافة والقيم الفرنسية، وتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي، أما قضايا التعاون الاقتصادي والتجاري، ومطالب تنمية بلدان جنوب المتوسط، فقضايا لاحقة وتابعة تسبقها التزامات هذه الدول بإزاحة كل التحديات التي تقلت أمن فرنسا بكلمة، إن الحاجة اليوم تدعو دبلوماسيات دول جنوب المتوسط، وبشكل خاص حكومات الربيع العربي، أن تنسق جهودها لبناء رؤية مشتركة تستطيع الضغط من أجل إعادة التوازن في العلاقات شمال جنوب متوسط، والتأكيد على أن لهذه الدول رؤيتها ومطالبها واحتياجاتها الخاصة، وانها لن تكون ابدا أداة في خدمة الدبلوماسيات الأخرى.