شكلت دراسات النص القرآني الحداثية جهازا مفاهيميا خاصا استغلت فيه الآليات الإجرائية والمعرفية المعاصرة وحاولت تطويع النص المفارقة لأبجديات المعرفة النسبية الطبيعية . ومن أهم مداخل هذه القراءات المدخل الاصطلاحي الذي سنتوقف عند بعض مفاهيمه المؤسسة كما وردت في القرآن الكريم. ولنبدأ بمفهوم العقل. تدور دلالة معنى الجدر (ع ق ل) في المعاجم العربية على العديد من المعاني المتقاربة: حبس، ربط، جمع، منع ، وباقي المعاني الواردة فيها هي تشبيهات واستعارات ومجازات فالسيف عقل لأنه يمنع صاحبه من نيل العدو، والمرأة عقيلة لأنها مشدودة إلى بعلها، والدية عقل لأنها تمنع من سفك الدم وهكذا. وقد لخص ابن دريد الأمر بقوله: «كل شيء منع من شيء فهو عقل». وقد أخذ معنى عقل من العقال وهو الحبل، وتدقيقا من وظيفة العقال وهي الربط، ربط قوائم الجمل. وفي القرآن ورد الجدر عقل بجميع اشتقاقاته: يعقلون، تعقلون، يعقلها، نعقل، عقلوه في القرآن تسعة وأربعين مرة موزعا بين القرآن المكي 34 مرة والقرآن المدني 15 مرة، وورد هدا الجدر بالصيغ الآتية: أفلا تعقلون 14مرة، لعلكم تعقلون08 مرات، لقوم يعقلون 08مرات، لا يعقلون 14 مرة، صيغ أخرى05 مرات. وكانت الصيغة الأولى تحضيضا على التعقل، والثانية توقعا له، والثالثة تخصيصا له، والرابعة نفي له عن قوم معينين، والخامسة إقرار مشروط له. وقد ورد الجدر عقل بكل صيغه ومشتقاته فعلا مضارعا إلا في حالة واحدة ورد فيها ماضيا (عقلوه)، وحسب الزمن النحوي فان الفعل (عقل) ومشتقاته هو فعل مضارع فقط، لكن زمنه القرآني يستوعب كل أزمنة الحاضر والاستقبال. وعدم ورود الجدر(عقل) بدلالته اللغوية العامة،في القرآن، يدل على انه مصطلح يرمز إلى مفهوم خاص، وعرف محدد، وعدم وروده اسما ولا مصدرا يدل على انه مفهوم وظيفي وفاعلي وليس مفهوما ذاتيا. والمتأمل في آيات النص القرآني يخلص إلى أنه لا يذكر العقل إلا في مقام التنظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، في سياق دعوة القرآن الكريم إلى التفكر والتدبر والنظر في أسرار الكون. من خلال الإشارة إلى وظائف العقل، كقوله تعالى:( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ) و (يَتَذَكَّرُونَ) و (أَفَلَا يَنظُرُونَ) و (يَتَفَكَّرُونَ). وقد وردت في القرآن الكريم ألفاظ مرادفة للعقل، هي: الألباب: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) النهى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى) الحجر: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ) الحلم: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) الفقه: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا). فالقرآن الكريم حينما يحض على التعقل في مثل قوله تعالى(وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للدين يتقون أفلا تعقلون) ،أو ينفي التعقل عن قوم معينين في مثل قوله تعالى(ان الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون )، أو يحصر التعقل في قوم مخصوصين في مثل قوله تعالى(إن في دلك لآيات لقوم يعقلون) ، فهو يعرض مفهوم العقل باعتباره وظيفة وصفة وفاعلية محمودة ومطلوبة في القوم الراشدين المهتدين، ومسلوبة من القوم المعاندين. ومن ثمة فالعقل باعتباره جوهرا عضويا غير موجود في القرآن، ولكنه موجود باعتباره فاعلية ووظيفة إنسانية.