إيمانا منا بحرية النقاش, وبضرورة احترام الرأي الآخر المختلف عن قناعاتنا ومبادئنا, نستمع لتخوفات دعاة الإتباع وعدم الابتداع من الأسئلة التي نثيرها ونضعها كمفتاح لمعالجة ولكسر القيود التي أطبقت على الإنسان الريفي... الذي سلب حقه في التفكير تحت مسميات عدة, وبالتالي صار تحت وصاية الأغيار ومتخذي اللّحَى كشعار لمواجهة الحاضر والمستقبل, وهذه مسألة معروفة في الريف, وقضية تمس كل واحد منا وتعنيه, وبكوني ريفي احتككت بهذه النماذج الدخيلة على بلادنا والتي تريد أن تفرض نفسها عليك باسم الدين الذي هو ملك للجميع وليس موضوع احتكار من طرف جماعة او فئة دون أخرى, أود أن أناقش معكم موضوعا أراه في بالغ الأهمية, ألا وهو قضية سلطة العقائد المتوارثة وثورة السؤال عليها.
أي على هذه السلطة التي اكتسبتها بغير حق إلا لأنه قد تم إضفاء هالة وصفة القداسة عليها مع مرور الزمان.وهذه السلطة تمارس على الطفل الريفي وهو لم يبلغ بعد سن الرشاد وسن التمييز,ليميّز بين الذي يجب أن يعتقد به ليجتاز هذه الحياة والأفكار التي يريد من أجلها أن يحيا ويموت, دون مراعات لابسط حقوق الانسان في ان يختار ويحدد مصيره.
وأنا هنا لست بصدد القدح في أحد , بل بالعكس أنا أكن الاحترام لكل الأطراف ,وأستمع إلى تخوفاتهم مما نقول, لكن وبما أنهم يتقدمون إلينا بنماذج وبأطروحات يقولون بان خلاصنا فيها ,فانه لابد من التدقيق فيها وتمحيصها, فمن هذه الزاوية يجب أن يفهم كلامي, إذ كيف يجوز انخراطي في مشروع لست على علم بمضامينه, بخلفياته,بِ.......,خاصة وانه مشروع يقدم إلينا على انه متكامل لا مجال لإعمال العقل فيه ,بل كل مل عليك هو الاقتداء بسلفك الصالح أو بشيخك فلان...., وهذا في حد ذاته طعن في كرامتي , وكأنني لست بصالح ولا استطيع أن آتي بمثل ما أتى به الاوائل أو وكأني لا املك عقلا للتفكير أصلا, وهذا شبه بحالة مرضية تقدس كل ما هو ماض, حتى الأفراد الذين ماتوا أفضل من الأحياء.
طبعا مسألة التدقيق والتمحيص_وهي في حقيقة الأمر نوع من إعادة البناء_ هذه ليست بالبساطة التي نتصورها,فما تم إحكام نسجه في عقود طويلة_ حتى أصبحت طرق العيش في الريف متمازجة معه_لا يمكن هدمه في يوم أو في بضعة أيام, بل يحتاج إلى مجهود جبار من التربية والتنوير ومساعدة الإنسان الريفي ليقف على رجليه, وللتجرؤ على استخدام عقله الخاص, لكن مع كل هذه الاكراهات لا يجب ترك الأمور تسير وفق رغبة هؤلاء ,فان تكون ريفي يكفي أن تناقش مصيرك وتحدد المسار الذي ترضاه طريقا لعبور هذه الحياة, في غنى عن أي وصاية تسلبك هذا الحق, وإلا سنكون جميعا مسئولون بالأساس أمام أنفسنا وأمام بلادنا عن تقصيرنا في تحقيق هذه الغاية.
أعود وأقول أن الطفل الريفي_أركز هنا على الطفولة لأنها المرحلة التي يتم فيها تحميل الإنسان أفكارا لا يعي منها شيئا_ما إن يرى النور ويخرج إلى هذا الوجود, حتى ليجد أمامه جيش من المبشرين كل يريد هذا المولود الجديد أن يعزز صفوف فرقته, فان لم يكن هذا المبشر في أسرته يعوضه مدرسوه في المؤسسات العمومية, أو صاحب الحانوت المجاور لهم, أما دور الإعلام في هذا الأمر فحدث ولا حرج, وهكذا تسري في مجتمعنا خيوط محكمة النسج تلف كل عقل ما يزال في عنفوانه للعمل والاجتهاد,وتقيده بأجوبة وقوالب فكرية جاهزة, وما عليه إلا يسلم بها ويرتاح.وبالمناسبة, فأنا الآن أتذكّرُ احدهم, وهم في الحقيقة كُثُر,وأنا كنت حينها لم اجتز بعد مرحلة التعليم الإعدادي, وهو يدعوني الى طريق الحق والرشاد حسب( زعمه طبعا) ويشرح ما معنى العقيدة تمهيدا لتمرير مضامينها إلي, طبعا وكأي طفل في السابعة من عمره كنت استمع إليه بحماسة شديدة ومنبهرا مما يقول, وما أتذكره انه كان يقول لي: العقيدة هي ما عقدت عليه القلب, أي شددته عليه وأحكمته.......الخ, ولم أدرك خلفيات هذه المواعظ إلا في وقت لاحق.فأنت إن عقدت القلب على شئ ,فيعني انه لا مجال للجديد فيه, بل قد أحكم عقده على أفكار معينة وما سواها فباطل وان أتاك صاحبها بالحجة الدامغة,أو بالبراهين القاطعة, فلا حق معه لأنك ببساطة قد عقدت قلبك عل عقيدة معينة, من خلالها تنظر إلى العالم وتحكم عليه.
وفي جو كهذا يكون السؤال عن مصداقية ما تلقيته مقلقا لهؤلاء الأوصياء الناطقين باسم الرب في الأرض ,ومزعزعا لما ألفوا واعتادوا بثه في أذان الناشئة,واحكموا به عقولهم,وفي هذا السياق قرأت لأحدهم وهو ليس بالبعيد عن أولائك الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على الناس يحددون ما يجب التفكير فيه والمحرم التقرب منه,ويتفننون في ذلك, مقالا ينتقد فيه استشكالنا للأوضاع وللقضايا التي تخص الريف , بطرحنا بعض الأسئلة التي رأيناها تناسب المقام, وهو إذ يفعل ذلك تشم بين سطوره رغبة دفينة لو أن النتائج كانت تخرج دائما بمثل ما يأتي به هو, لكن وكما يقول الشاعر: تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن,ومن الطرافة انه يبتدئ كلامه بيُحكى لاعتيادهم على صم أذاننا بحكايات القدماء.
وحتى في انتقاده لسؤالنا استعمل السؤال كوسيلة, لكنه لم يفلح في صياغته لأنه لم يتعود عليه وإنما تعود على التلقي والخضوع والإيمان القطعي الجازم الذي لا مجال لإثارة السؤال فيه وإلا رميت بالزندقة وضعف الإيمان أو ربما بفقدانه .إن الإنسان في كلامه بصفة عامة يكون أمام أمرين,شئ يدعو إليه, يراه صالحا للإنسانية ولتقدمها وبالتالي تقديم الحجج لتعضيد موقفه ونصرته, وشئ آخر ينفر منه ويحذر الناس منه.وهكذا نستطيع القول, بأنه في الريف اليوم صنفين من الناس, صنف يحارب السؤال ويقلقٌه,وصنف آخر يؤكد على ضرورة ممارسة السؤال وبالخصوص في هذا الظرف التاريخي الذي يجتازه الريف والتحديات التي تبرز في الأفق في كل حين.
الصنف الأول كما قلنا ,يرى انه لا يجوز السؤال حول ما حسم فيه من طرف السلف, لان هذا الجيل حسب قولهم لا يصلح إلا بما صلح به الأوائل ,وهذا مستحيل لان الظرف التاريخي قد تغير كما يقول عبد الله العروي, وإلا فعليهم إرجاع التاريخ إلى الوراء ليتأتى لهم ذلك, والنتيجة التي تترتب عن فكر كهذا هو تقديم التقليد كحلّ, وما يطرأ في العالم يوميا من طوارئ لم يكن للإنسانية عهد بها يتم تفسيره بالعودة إلى نصوص القدماء وتفسيرها حسب مقتضى الحال في عملية ميكانيكية ,فالعالم وفق هذا التصور يسير وفق إرادة عليا هي إرادة الله ,والباقي مجرد مترجمين لهذه الأفعال الحقة, حتى الإنسان نفسه لا يستطيع تغيير مجرى الأحداث التي أريد لها أن تسير وفق مسار محدد.
وحتى لا يكون كلامي مجردا ,سأضرب لكم مثالا من عمق الريف,بالتحديد من تمسمان, لنرى مدى تأثير الأفكار في حياة الإنسانية, فالأفكار ليست شيئا ثانويا أو خيالا بل لها تبعات كبيرة , إذ يرفض بعض الفلاحين استعمال الأدوية المتاحة للقضاء على بعض الأمراض التي تأتي على مزروعاته عن آخرها, ومع ذلك تجده يعلق على الأمر, لم يشأ الله أن تنجح مزروعاتي هذا العام..... أوالرزق بيد الله......... في حين تجد فلاح آخر يستعمل ما يوفره له السوق من أدوية, وقد ظفر بسنة فلاحيه عادية أو جيدة دون أن يتعارض ذلك مع إرادة الله.الصنف الثاني وهو مقابل للأول مختلف عنه اختلافا جذريا, وهو الذي يرى انه من الواجب عليه ومن المسؤوليات الملقاة على عاتقه,أن يعمل العقل بوصفه كائنا ناطقا يمتلك العقل,أي أن يعمل عقله في أمور دنياه, وإلا لكان وجود العقل نفسه باطلا, وهذا مستحيل,واستشكال هذا السائد الذي يتزيّى بزيّ البداهة وما هو كذلك, وتدقيق النظر فيه وعدم قبول أي شئ ,قبل أن يخضع للمسائلة الدقيقة وللتمحيص.وقد يقول قائل:وما موضع الدين من هذا المنظور؟ وهو سؤال مشروع, ونتفهم طرحه.
أقول انه لا خوف عليه, إذ انه أمر يخص الفرد كفرد,في حياته الخاصة, ولا دخل للآخرين فيه, وهذا يجعلنا في منأى عن الاصطدام مع قناعات الآخرين, حتى بين المنتمين إلى ديانة واحدة مثلا المنتمين إلى الديانة الإسلامية, باعتبار الهوة التي نجدها بين الفرق المتناحرة فيما بينها_ تحت قبة الإسلام طبعا _كل فرقة تدعي امتلاك الحق لنفسها دون غيرها,وقد لا تجد هذه العداوة لديهم تجاه الأديان والملل الأخرى.
لكن إن جعلنا العقائد أمرا يخصنا نحن كأفراد,وتدخل ضمن حياتنا الخاصة, بذلك نفتح المجال لأفق مشترك بعيد عن التعصب والأهواء, وهذا ما لم ينتبه إليه دعاة التقريب بين المذاهب,إذ يريدون التقريب بين عقائد وأفكار هي أصلا متناقضة, والعمل بها في وسط مشترك يجمع هذه الأطراف في شكل جماعي دون الاعتراف بان مسالة الاعتقاد هي مسالة تخص الأفراد وحدهم أو التنازل عن تسيير هذا الوسط من خلالها,وهو أمر مستحيل كذلك.
فإرجاع العقائد إلى قائمة الأمور التي تخص كل واحد منا, والتي يمتلك كامل الحرية في اختيارها, هو السبيل الوحيد الذي يجعلنا ننصرف إلى الاهتمام بواقعنا, والاحتكام إلى سلطة العقل في تدبير أمور مدينتنا, دون الوقوع في صدامات نحن في غنى عنها.وسلطة العقل تنمّى بامتطاء صهوة السؤال ,فمتى توسعت حدود السؤال, إلا وازداد العقل فاعلية وإنتاجا, وكلما قلّت ,إلا وانغلق العقل على نفسه وفقد وظيفته لصالح قوى أخرى كالعواطف والأهواء.
ختاما أريد أن أشير إلى مسألة في بالغ الأهمية, وهي أن تلك الأطراف التي يقلقها السؤال وتريد زيادة على ذلك أن تنتقدنا فيه,تلجأ هي الأخرى إليه, لكنها لا تفلح في الأمر لسبب بسيط وهو أنها لم تتعود على ممارسته, بل تعودت على التلقي والاستيعاب دون إعمال العقل أو النقد, والقبول بممارسة السؤال, يحتم علينا القبول بالنتائج التي يؤدي بنا إليها, وإلا لكانت أسئلتنا لا تعدو أن تكون ضربا من ضروب اللغو,كذلك لا يجب أن يكون استعمال السؤال أحادي الجانب, أي نساءل به في جهة, ونرفضه في جهة أخرى,بل علينا أن نستعمله في كل الظروف والأحوال ,فالسؤال لا خطوط حمراء له وان أرادوه أن يكون كذلك للتحكم فيه وفي نتائجه وبالتالي التحكم في مستعمليه.وكفى فخرا للسؤال انه مرغوب من كل الأطراف, ولو بدرجات متفاوتة.
فلولاه لبقية البشرية في الأدغال ,ولما وجدنا في أنفسنا حاجة إلى البحث عن حلول لما يواجهنا في الواقع من إكراهات .هكذا أقلقهم السؤال...