أسيف:صحفي بإذاعة هولندا العالمية كيف تدهورت ثقة الريفيين في السلطة "الجديدة" بهذه السرعة بعدما "رممت" الزيارات الملكية المتوالية بعض الثقة في ثقب الجدار العازل بين الريف و المركز / المخزن ؟ سؤال يطرح نفسه أكثر من أي وقت مضى بعد أحداث "بوكيدارن" الأخيرة في الريف الأوسط. فقد عادت هذه الأحداث بذاكرة الريفيين إلى أحداث نهاية 1958 وبداية 1959، ذلك أن أوجه الشبه بين الحدثين أكثر من ملموسة. أطر شابة همشتها الأزمةالاجتماعية والاقتصادية بسبب غياب تصور حقيقي لاستيعاب هذه الطاقات، تفشي ظاهرة الزبونية الحزبية التي أنتجت حالة من اليأس العام، إقصاء جانب منالنخبة الريفية عن المشاركة في الإدارة الحقيقية للبلد لأسباب سياسوية، تنحي جانب آخر من النخبة الريفية 'طواعية‘ عن الانخراط في العمليةالتنموية التي لم تعد تستهوي غير المنتفعين. هذه الوضعية أنتجت حالة احتقان كامنة تطفو على السطح عند كل احتكاك. وهنامكمن الخطورة. فالاحتقان يعني ببساطة "فقدان الثقة" أولا، في السلطة التييجسدها رجالها المعينون من قبل مؤسسة القصر والداخلية والأجهزة الأمنية.وثانيا، في المستقبل بسبب ابتعاد الأحزاب التقليدية عن هموم المواطنينوتوسع طموحات الحزب السياسي الجديد، حزب الأصالة والمعاصرة الذي لا يعدماستخدام أسلوب الجزرة والعصا لتحقيق أهدافه المعلنة وغير المعلنة، لدرجةيحتار معها المواطن العادي عن كيفية التعامل معه، وهو ما عبر عنه أحدالمستشارين المحليين بقوله: الانضمام لهذا الحزب مشكلة والابتعاد عنهمشكلة. كان هذا أيضا حال الريف في السنوات الأولى من الاستقلال، حينما عمد حزبالاستقلال إلى تسخير أجهزة الدولة لتوسيع هياكله على حساب الأحزاب الأخرىرغم قلتها آنذاك. فحدث أن تكونت صورة لدى عموم الريفيين، هي أن حزبالاستقلال والسلطة وجهان لعملة واحدة. ولم تجد آنذاك تحذيرات العقلاءنفعا من أن الاستمرار في نهج سياسة "المغرب لنا لا لغيرنا"، في إشارةواضحة لإقصاء الآخر، ستؤدي لا محالة إلى الانفجار. هذا الشعار لا يبتعدكثيرا عن شعار "الحد من بلقنة" المشهد السياسي المغربي الذي يبرر به حزبالأصالة والمعاصرة زحفه الحالي على دواليب السلطة في المغرب.مبدئيا، من حق حزب الأصالة والمعاصرة أن ينشط ويعزز صفوفه بالأتباع والمناصرين ويوسع حضوره على كافة التراب المغربي، فهذا مطمح كل حزبسياسي. ومن حق أي مواطن ومناضل مغربي أن ينضم لهذا الحزب أو غيره ويعملفي الوقت ذاته على إقناع الآخرين بما اقتنع به هو. كما كان لحزبالاستقلال، وما يزال، كامل الحق في توسيع هياكله وأركانه في الريف وتعزيزصفوفه بالأتباع والمريدين. فحرية التعبير والاختيار وحرية تأسيس الجمعياتوالمؤسسات وما شابه ذلك والانضمام إليها، حق من الحقوق الأساسية للإنسان. بيد أنه ليس من الحق في شيء أن يتحول حزب سياسي إلى ما يشبه '"دولة"قائمة بذاتها تدور في فلكها كل الأجهزة والمؤسسات. فالمواطن لم يعد الآنيفرق بين "البام" والدولة، وهذا ما يقوي سطوة النفاق السياسي ويغلبالمصلحة الذاتية على المصلحة العامة من جهة، ويخلق القطيعة بين المواطنوالدولة/الحزب من جهة أخرى. تجربة الحزب/الدولة أدخلت المغرب في الماضيفي دوامة من الصراعات الداخلية، فهل المغاربة مستعدون - بعد مضي ستة عقود- لتكرار التجربة؟ أساليب الاستقطاب المصحوبة بالقمع البدني والمعنوي قادت في الماضي إلىتصفيات جسدية للخصوم واحتواء لأحزاب قائمة سرعان ما اختفت من الساحة(اختفت كل أحزاب المنطقة الخليفية: حزب الوحدة المغربية، حزب الإصلاحالوطني وحزب المغرب الحر) واختطافات لمعارضين أثثت لما سيسمى لاحقا بسنوات الرصاص. "الترميمات" الملكية للعلاقة بين الريف والمركز لن تستمر إلى ما لانهاية، وعلى "البام" أن يستخلص الدروس من الماضي وألا يكرر أخطاء سلفهحزب الاستقلال. ففي الريف لم يدفن الماضي بعد. لقد آن الأوان للتعامل معالريف بعقلانية ونضوج بعيدا عن المقاربة الأمنية الضيقة والمستعجلة.الريف لبنة أساسية في بناء الوطن كله إن لم يحسن المسؤولون التعامل معهاسقطت، وإذا سقطت لبنة الريف انهار البناء كله.ودون السقوط في شرنقة بعض الردود ضيقة الأفق عقب أحداث "بوكيدارن"الأخيرة، والتي تنعت الريفيين مجانا بالانفصاليين وتجار المخدراتوالتهريب، يمكن القول إن الأخطاء السياسية التي يراكمها المركز ومن يمثلهتجاه المنطقة، أدت إلى ميلاد جيل جديد من الريفيين يفكر جديا في إعادةتقييم علاقة الريف بالمركز. سبق أن قلت في إحدى المناسبات إن الانفصاليينالحقيقيين ينبغي البحث عنهم في العاصمة وليس في الريف.