أطل العام الميلادي الجديد حاملا معه تغيرا واضحا في المشهد السياسي الأميركي ستكون له انعكاسات مباشرة على منطقة الشرق الأوسط، ومن خلالها على المسرح العالمي كله، بعد أن أسفرت انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي عن أغلبية ديموقراطية تتبنى أجندة سياسية تختلف أولوياتها عن أجندة الإدارة الجمهورية الحالية بقيادة الرئيس بوش. صحيح أن النظام السياسي الأميركي مر بمراحل مماثلة من عدم التجانس بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من دون أن يؤثر ذلك كثيرا على استمرارية سياسته الخارجية، غير أن الأمر يبدو مختلفا هذه المرة نظرا لأن قضايا السياسة الخارجية كانت هي العامل الأكثر تأثيرا في حسم خيارات الناخبين في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وهو أمر نادر الحدوث في تاريخ الانتخابات التشريعية الأميركية. ولأن الأغلبية الجديدة في الكونغرس تدرك إدراكا عميقا أنها تحمل تفويضا من ناخبيها بالعمل على تغيير النهج الحالي للسياسة الخارجية الأميركية، خصوصاً ما يتعلق منها بالعراق، فهي تبدو مصممة على أن تبذل كل ما في وسعها لحمل الإدارة على البحث عن مخرج يتيح للولايات المتحدة انسحاباً مشرفاً من العراق. غير أن مهمتها هذه لن تكون سهلة في ظل إدارة تبدو متمترسة داخل خنادق أيديولوجية وما تزال سادرة في غيها وتعتقد أن بوسعها كسب رهانها الخاسر في العراق. فعندما بدأت الضغوط تتزايد عليها لتغيير سياستها من أجل البحث عن مخرج مشرف للولايات المتحدة من الوحل العراقي الذي غرست نفسها فيه، وبدا أن تقرير بيكر- هاملتون يمكن أن يشكل أرضية لسياسة بديلة تقوم على توافق بين الحزبين، راحت هذه الإدارة تناور للالتفاف حول التقرير وإجهاض ما ورد به من توصيات، وانتهت بها مناوراتها إلى قرار بزيادة عدد القوات بدلاً من خفضها بعد إعادة تحديد مهماتها بما يسمح بسحبها مع نهاية الربع الأول من عام 2008 كما يوصي التقرير. ومن الواضح أن الأغلبية الجديدة في الكونغرس أدركت على الفور خطورة هذا التوجه الجديد، ولذا جاء ردها سريعاً ورافضاً ومحذراً في أول رسالة وجهها رئيسا هذه الأغلبية في الكونغرس للرئيس بوش فور تنصيبهما رسميا، ما ينبئ بمعركة حامية الوطيس الأرجح أن تستمر حتى انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني عام 2008 وأن تزداد ضراوة مع اقتراب موعد هذه الانتخابات. البحث عن مخرج من الوحل العراقي هو إذن عنوان المعركة التي بدأت بالفعل على مسرح السياسة الداخلية الأميركية. غير أن الباحث في تفاصيل ما يجري على الساحة الأميركية ربما يكتشف أن قضية العراق ليست سوى الجزء العائم من جبل الثلج، وأن المعركة الأكبر تدور حول مجمل الرؤية الأيديولوجية للمحافظين الجدد والتي أصبحت الحرب على العراق بمثابة البوتقة التي صهرتها قبل أن تصبح مهددة بالاحتراق فيها. ولأن هذه المعركة هي بطبيعتها متعددة ومتصلة الأبعاد فمن الطبيعي أن تتسع لتشمل قضايا أخرى على جانب كبير جداً من الأهمية مثل: مشروعية الحرب الاجهاضية، الموقف من العمل الدولي المتعدد الأطراف، خصوصاً ما يتصل منه بالمحكمة الجنائية الدولية وبإصلاح الأممالمتحدة، إلخ... اللافت للنظر هنا أن بعض القضايا التي كانت تبدو في ما مضى غير خلافية ومحل إجماع النخبتين الفكرية والسياسية، مثل العلاقة بإسرائيل والموقف من الصراع المحتدم معها في منطقة الشرق الأوسط، بدأت تدخل بدورها ساحة الجدل الدائر على مسرح السياسة الداخلية الأميركية.وفي تقديري أن الدراسة الأكاديمية التي قام بها منذ شهور عدة كل من البروفيسور ميرشايمر، الأستاذ في جامعة شيكاغو، والبروفيسور ستيف والت، الأستاذ في جامعة هارفارد، حول تأثير اللوبي الصهيوني على السياسة الخارجية الأميركية، تعد خير شاهد على تعاظم قلق النخبة الفكرية من التأثيرات السلبية للانحياز المطلق لإسرائيل على المصالح الأميركية. ويبدو أن هذا القلق، والذي ظل في ما مضى مكتوما لفترة طويلة، بدأ يدخل مرحلة نوعية تبدو غير قابلة للاحتواء، فقد انتهت هذه الدراسة الى نتيجة مفادها أن قرارات السياسة الخارجية الأميركية التي اتخذت تجاه منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الخمس الماضية، عكست ثقل ونفوذ اللوبي الصهيوني في عملية صنع القرار الأميركي، وجاءت في مجملها معبرة عن المصالح الإسرائيلية أكثر مما عبرت عن المصالح الأميركية. أما قلق النخبة السياسية من المحاولات الإسرائيلية الرامية لفرض الأمر الواقع على الشعب الفلسطيني، فقد عبر عنه الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر خير تعبير في كتابه الأخير المعنون: «فلسطين: سلام لا فصل عنصري»، والذي أكد فيه ثلاثة أمور بالغة الأهمية. الأمر الأول: أن حدود إسرائيل المعترف بها رسميا من جانب الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي هي الحدود المتفق عليها في اتفاقية الهدنة عام 1949 والتي هي ذاتها حدود ما قبل حرب حزيران (يونيو) عام 1967، وبالتالي لا يحق لإسرائيل تعديلها وضم أي أراض جديدة إلا في إطار تبادلي مقبول ومتفق عليه من جميع الأطراف المعنية. الأمر الثاني: أن أفضل العروض التي قدمتها إسرائيل لتسوية القضية الفلسطينية في عهد باراك كان أقل بكثير مما يمكن لأي زعيم فلسطيني أن يقبل به ولم يكن كافيا لصنع سلام حقيقي بين إسرائيل والفلسطينيين. الأمر الثالث: أن المسؤولية الرئيسية عن فشل عملية السلام تقع على عاتق إسرائيل بسبب استمرارها في سياسة الاستيطان وبناء جدار عازل لا يفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين فقط، وإنما بين الفلسطينيين أنفسهم ويحاصرهم داخل معازل عنصرية تحول بينهم وبين الحياة الاعتيادية، بما في ذلك إمكانية ممارسة الشعائر الدينية. وهذه لغة قد تكون معتادة في أحاديثنا نحن العرب، لكنها ليست معتادة على الإطلاق في الولاياتالمتحدة الأميركية، خصوصاً من رئيس أميركي سابق يحظى باحترام كبير في الأوساط المدافعة عن حقوق الإنسان في العالم.فإذا وجهنا أنظارنا نحو الساحة الأوروبية فستبدو لنا تصريحات الرئيس الفرنسي جاك شيراك الأخيرة حول فشل السياسة الأميركية في العراق مثيرة للتأمل والانتباه، فلم يكتف هذا السياسي المحنك بالتذكير بالموقف الفرنسي الرافض منذ البداية للحرب الأميركية على العراق، ولكنه راح يطالب علنا، ربما لأول مرة، بانسحاب القوات الأجنبية من العراق وفق جدول زمني محدد. وفي تقديري أن هذه التصريحات حملت في طياتها، ضمنا على الأقل، نوعا من المراجعة لسياسة التقارب مع الإدارة الأميركية عقب نجاحها في إسقاط صدام. فقد بدت هذه السياسة حينئذ شديدة الانتهازية وبالغت في حرصها على التكيف مع الأمر الواقع الجديد إلى درجة التعاون النشط مع الإدارة الأميركية في الملف اللبناني إلى أن بدأت تدخل بدورها في مأزق جديد بعد حرب إسرائيل الفاشلة على «حزب الله» وعلى لبنان في تموز (يوليو) الماضي. وليس من المستبعد أن تكون هذه التصريحات انعكاسا وتعبيرا عن رغبة في إطلاق تحرك أوروبي داعم لضغوط الأغلبية الديموقراطية في الكونغرس لتغيير سياسة الإدارة الأميركية تجاه الشرق الأوسط عموما وتجاه العراق على وجه الخصوص. غير أنه ليس من المتوقع أن تبرز قوة الدفع الخاصة بهذا التحرك إلا عقب وفي ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية.أما إذا انتقلنا إلى الساحة الشرق أوسطية فسنجد أن التفاعلات الجارية فوقها لا تخلو من مفارقة، فهذه الساحة، والتي أسهمت بالنصيب الأكبر في صنع التغيير الذي بدأنا نرى بعض ملامحه على الساحتين الأميركية والأوروبية، تبدو عاجزة عن بلورة آلية قادرة على التعاطي مع هذا التغيير البازغ ورعايته وتوجيهه لخدمة المصالح العربية، الوطنية والقومية على السواء. صحيح أن التفاعلات التي شهدتها المنطقة على مدى السنوات القليلة الماضية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أنها تضم قوى قادرة على عرقلة المشروع الأميركي الصهيوني والحيلولة دون تمكينه من تحقيق كامل أهدافه، لكن هذه القوى ما تزال عاجزة عن إلحاق الهزيمة بهذا المشروع أو تصفيته.فالمقاومة العراقية الحقيقية للاحتلال الأميركي، والتي تمكنت حتى الآن من قتل ثلاثة آلاف جندي أميركي وعدد غير معروف من جنود الاحتلال الآخرين وجرح ما يقرب من ثلاثين ألفا، هي التي أفشلت المشروع الأميركي وحاصرت جيشه في العراق وأجبرته على الوقوف في خندق الدفاع، وبذلك حالت دون اتساع نطاق العدوان إلى بقية أجزاء «الشرق الأوسط الكبير» حيث بدت الولاياتالمتحدة مصرّة على تغييره وفقا لرؤيتها هي ولو بقوة السلاح إن اقتضى الأمر. والمقاومة اللبنانية بقيادة «حزب الله»، والتي حققت ما يشبه المعجزة مرتين: الأولى حين تمكنت من تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي ومن العملاء اللبنانيين المتعاونين معه من دون شروط عام 2000 والثانية: حين صمدت في وجه حرب شاملة شنتها إسرائيل على لبنان في تموز الماضي واستهدفت تصفية المقاومة نهائيا، هي التي أفشلت الخطط الأميركية الإسرائيلية الرامية إلى فصل المسارين السوري واللبناني وفرض تسوية بالشروط الإسرائيلية على لبنان. والمقاومة الفلسطينية، والتي نجحت حتى الآن في حمل إسرائيل على تفكيك كل مستوطناتها في قطاع غزة، هي التي حالت دون تمكين إسرائيل من فرض تسوية أحادية أو تفاوضية بشروطها على المسار الفلسطيني.غير أن جميع هذه القوى تبدو محاصرة داخل أوطانها بقوى أخرى تتقاطع أجنداتها السياسية وتتضارب إلى حد التناقض، فضلاً عن أن الدول الداعمة لها في المنطقة، وعلى رأسها سورية وإيران، تبدو بدورها معزولة نسبيا على الصعيدين الدولي والإقليمي. يضاف إلى ذلك أن غموض وازدواجية السياسة الإيرانية في المنطقة بات يشكل أحد أهم الثغرات التي ما زال بوسع الولاياتالمتحدة وإسرائيل النفاذ منها لتبديد ما حققته قوى المقاومة من إنجازات حتى الآن والالتفاف عليها من خلال إعادة توجيه التفاعلات وترتيب التحالفات في المنطقة على نحو يضمن لهما حسم الصراع لصالحهما في نهاية المطاف. ففي الوقت الذي تتجلى فيه إيران، بسياستها الداعمة لسورية ولقوى المقاومة في لبنان وفلسطين، باعتبارها ركيزة للحلف المناهض للمشروع الأميركي الصهيوني في المنطقة، تبدو بسياستها في العراق كمحرك لمشروع طائفي يلتقي في أهدافه وغاياته النهائية، من المنظور العربي، مع أهداف وغايات المشروع الأميركي الصهيوني في المنطقة. ومن الواضح أن الملابسات التي أحاطت بعملية تنفيذ حكم الإعدام في الرئيس صدام حسين ساهمت في إظهار سلوك بعض الأوساط الإيرانية والشيعية العربية وكأنه محكوم بغريزة الانتقام أكثر مما هو محكوم بدواعي الحرص على مشاعر الشعوب العربية ووحدة قوى المقاومة في المنطقة.وفي تقديري أن أخطر ما يمكن أن يحدث في المنطقة خلال العامين المقبلين هو نجاح الولاياتالمتحدة وإسرائيل في غرس الإحساس لدى شعوب وحكومات الدول العربية ذات الأغلبية السنية، بأن لإيران مشروعا توسعيا إقليميا يستهدف إقامة هلال شيعي في المنطقة وأن هذا المشروع بات يشكل الخطر الأكبر على مصالح هذه الشعوب والحكومات ويحفزها على التحالف في مواجهته. ومن المعروف أن الولاياتالمتحدة تروج منذ فترة للفكرة القائلة إن إيران تقود «تحالف متطرفين» في المنطقة، تشارك فيه سورية و «حزب الله» و «حماس» و «الجهاد»، وهو ما يستدعي إقامة «تحالف معتدلين» في مواجهته. وإذا قدر لتلك المساعي الأميركية أن تكلل بالنجاح فسيجد العالم العربي نفسه محشورا في عملية استقطاب وموزعا بين محورين، وبالتالي سيكون العالم العربي هو الخاسر الأكبر في المواجهة أياً كان الطرف المنتصر فيها. وتشير تقارير صحافية عديدة صدرت أخيراً إلى أن إسرائيل تمضي قدما في خططها الرامية لتوجيه ضربة عسكرية تستهدف إجهاض مشروع إيران النووي إذا تقاعست الإدارة الأميركية عن توجيهها بنفسها.وأيا كان الأمر فلا شك أن التفاعلات المتوقعة خلال العامين المقبلين تدفع بالنظام الدولي نحو مفترق طرق جديد. ولأن أخطر المراحل دائما هي المراحل الانتقالية، فمن المرجح أن تشهد منطقة الشرق الأوسط خلالها عواصف هوجاء قبل أن تتضح معالم النظام الدولي لمرحلة ما بعد الهيمنة الأميركية الأحادية!• كاتب مصري.