وإن كان الآثم (الذي يرتكب الخطيئة) يستحق العقاب، فإنه لا يحق للفاسق (الذي يرتكبها ويباهي بارتكابها) أن يعاقبه. إن تحديد موقف من إعدام الرئيس العراقي السابق معقد، ولا يمكن صياغته بتبسيط من على قاعدة الأبيض والأسود من المواقف، كما لا يمكن تحديده من بوابة الانحياز العاطفي السريع (مع أو ضد عملية الإعدام)؛ بل هو عملية سياسية معقدة ومركبة، وتستدعي التبصر أكثر مما قد يُظَن، وهذا ما يفسر ما ساد من ارتباك في رسم المواقف العربية عقب تنفيذ عملية الإعدام. والسؤال: هل يجيز التعقيد عدم اتخاذ موقف واضح، أو أن يكون الحياد سيد الموقف؟ أي، ألا يوجد معيار مفصلي لتحديد الموقف؟ في هذا السياق، وبدون إنكار لهذا التعقيد، وما يولده من تشوش، حري الإشارة إلى الملاحظات التالية: أولا: هل كان صدام (كنظام وليس كشخص) ديموقراطيا؟! بالتأكيد لا، وهذا ما لا يمكن تغطيته إلا إذا كان بالمقدور تغطية الشمس بالغربال، ولا يلغي هذه الحقيقة عدم تفرده في لا ديموقراطيته عن غيره من الأنظمة العربية. وألم يقع صدام في العديد من الحسابات الإستراتيجية الخاطئة التي مكنت الإدارة الأمريكية من استثمارها أبشع استثمار للتقدم خطوات نوعية في عملية إحكام هيمنتها على مقدرات العراق والمنطقة؟!! بلى، لقد وقع بدءا من الوقوع في مصيدة نظرية "الاحتواء المزدوج" كإستراتيجية أمريكية لضرب كل من العراق وإيران من خلال ما كان بينهما من حرب عبثية مباشرة بعد الإطاحة بالشاه كأكبر حليف للسياسة الأمريكية في المنطقة، وهذا ما أفقد أمة العرب وشعوبها من جني ما كان يمكن أن يمثله خلق حالة من الاستقرار بين القوتين العراقية والإيرانية بعد تولي الثورة الإيرانية لمقاليد الحكم؛ مرورا بمغامرة اقتحام الكويت بعد خذلان من شجعه من النظام العربي على الحرب مع إيران، ذاك التشجيع الذي لم يك بريئا ولا بعيدا عن دوائر تأثير وإيحاء السياسة الأمريكية ومخططاتها، تلك المغامرة (اقتحام الكويت) التي سهَّلت التغطية على ائتلاف غالبية النظام العربي ضد النظام العراقي، لا بل وإرسال الجيوش العربية لمحاربته تحت الإمرة الأمريكية في حفر الباطن بديلا لطرح والتمسك بالخيار العربي كحل لما نشأ من تعقيدات عربية داخلية بعد دخول القوات العراقية للكويت. وألم يك أمام صدام من سيناريوهات أفضل من تلك التي اتبعها في مجابهة المشروع الأمريكي الرامي لتعميق تبعية نظم المنطقة للسياسة الأمريكية فضلا عن تكريس وتقوية تفوق إسرائيل على ما عداها من دول وقوى؟!! بلى، لقد كان هناك ما هو أفضل من السيناريوهات، وذلك على الرغم من إقرارنا بحقيقة حتمية المجابهة العراقية مع المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة؟!! وألم يك من المغامرة بمكان اختيار لحظة انحلال وانهيار مرحلة ثنائية القطبية في السياسة الدولية، وبداية تسيد القطب الأمريكي الواحد لحظة لإنجاز وثبة قومية عراقية في مواجهة السياسة الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة؟!! بلى، لقد وضع التوقيت فضلا عن السيناريو (اقتحام الكويت) صدام في خانة المغامر سهل الاصطياد. ثانيا: إذا كان ما تقدم صحيح (وفق ما نعتقد على الأقل)، ويضع صدام في خانة الآثم، أي المُرتكب لخطيئة اللاديموقراطية في الحكم فضلا عن مغامراته وأخطاء حساباته الإستراتيجية كصاحب مشروع قومي، فهل هذا يعني إجازة أو تفهم أو تأييد، بل وعدم التنديد بأن يكون عقابه على يد فاسق، أي على يد من يرتكب خطيئة الركوب على ظهر الدبابات الأمريكية والتباهي بارتكاب هذه الخطيئة؟!! كلا بالتأكيد. فصدام حكم بلا ديموقراطية، غير أنه لم يحكم العراق باسم مذهب ضد مذهب، وكان قد ارتكب حماقة قمع وإعدام والتنكيل بالخصوم السياسيين، ولكنه لم يفتح باب جحيم الحرب الطائفية والمذهبية التي لا تبقي ولا تذر. وصدام جابه السياسة الأمريكية ومشروعها في العراق والمنطقة بمغامرات وحسابات إستراتيجية خاطئة، ولكنه لم يسقط في فسق التواطؤ مع السياسة الأمريكية والتباهي بذلك علنا وعلى رؤوس الإشهاد. لقد ضرب خصومه السياسيين على اختلاف مشاربهم بقسوة نادرة، ولكنه لم يطرح مشروعا فيدراليا يقود عمليا إلى تقسيم العراق. لقد أخطأ في حسابات تعامله مع جاره الإيراني، ولكنه لم يسقط في فسق أن يغدو العراق حديقة خلفية لهذا الجار ويخلع بالتالي هويته القومية العربية، ولا أن يتحول العراق إلى ورقة في حسابات هذا الجار لتقوية نفوذه حتى لو كان على حساب النفوذ الأمريكي، ولا يلغي هذا حقيقة أن الخطر الحقيقي والأول على أمة العرب وشعوبها هو خطر أمريكي إسرائيلي وليس خطرا فارسيا إيرانيا، كما لا يلغي ذلك حقيقة أن تقدم النفوذ الإيراني على حساب النفوذ العربي يعود في أحد أسبابه إلى غياب مشروع عربي جاد وجدي، وذلك انطلاقا من حقيقة أن الطبيعة تكره الفراغ، ذاك الفراغ الذي كان صدام يحلم بملئه، ولكن للأسف بطريقة غير ديموقراطية داخليا، وبصورة مغامرة شابها الكثير من الخطأ في الحسابات الإستراتيجية على مستوى مجابهة مشروع ومخططات تكريس وتعزيز وتقوية وتائر الهيمنة الأمريكية والتفوق الإسرائيلي. بناء على ما تقدم، وبالنظر إلى عدم جواز الخلط بين ما هو تكتيكي وإستراتيجي من القضايا، فإن إثم نظام صدام في قمع خصومه السياسيين من كل مشرب، والتنكيل بهم، وهو الأمر الذي وضعه في خانة النظام غير الديموقراطي بحق وحقيقة، لا يمكن مداواته بفسق أدعياء الديموقراطية الجدد في العراق، وهم الطائفيون المذهبيون حد فتح الباب على وقائع ذبح العراقيين يوميا وبمئات الآلاف على هوية المذهب والطائفة، لا بل، وبالاستناد إلى التهاون مع مخططات قوة الاحتلال الأمريكي، وبدون المساهمة في قتاله، وقبل طرده من أرض العراق كمهمة مركزية لكل العراقيين بصرف النظر عن طائفتهم ومذهبهم. فالإثم لا يعالج بالفسق. إن إعدام صدام، وفضلا عما تعكسه طريقته وتوقيته من همجية بادية، فإنه يكشف عن التقاء غير مشرف لمصالح سياسية لا يمكن تبريرها أو تفهمها، بل ولا يمكن إلا التنديد بها، بين السياسة الأمريكية الإسرائيلية من جهة وبين ما يعتري السياسة الإيرانية من روح كيدية ومصالح وطموحات قومية في تعاملها مع الملف العراقي، وهذا ما غطست به جهات طائفية ومذهبية عراقية تسيدت على دفة الحكم في العراق تحت حراب الاحتلال الأمريكي وحمايته والتواطؤ معه على حساب مصالح الشعب والوطن العراقي ووحدته واستقلاله وعروبته. وهذا ما يلزم كل حريص على هذه الأبعاد الوطنية والقومية الإستراتيجية في ملف العراق وشعبه على القول: إن صدام الآثم هو قديس إذا ما قورن بمن أعدمه من المذهبيين، فأدعياء الديموقراطية هؤلاء لا يدرون أي مستوى من الفسق قد بلغوا، ولا أي خطر على عروبة ووحدة واستقلال وسيادة العراق قد فتحوا. نعم لا يحق للفاسق الذي يباهي بارتكاب الخطيئة، وبالتواطؤ مع منبعها الأمريكي أن يعاقب الآثم الذي يرتكبها في مواجهة أصل كل الخطايا، أي السياسة الأمريكية الإسرائيلية. عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين