فإن المواطن المغربي يتساءل عن الدوافع الكامنة وراء هذا الطلب. والتساؤل عن الأسباب وعن مغزى هذا التوقيت هو بدوره من صميم حقوق المواطن المغربي. لا يخفى على أحد أن قضية عودة الأمير عبد الكريم الخطابي إلى وطنه المغرب "ميتا"، بعدما كان مطلب عودته "حيا" يعد في ذلك الزمن الرصاصي الكئيب خطيئة سياسية لا تغتفر، هي قضية وطنية وإنسانية بالدرجة الأساس، أو على الأقل هكذا ينبغي لها أن تكون. غير أن التبرير الذي أتى به حزب الأصالة والمعاصرة مؤخرا لفتح ملف عودة رفات الأمير الخطابي هو تبرير، في تصوري، لا يستقيم مع منطق تاريخ المنطقة، لأن المصالحة مع الريف لا ينبغي لها ولا يمكن أن تمر فوق جسد عبد الكريم ولا فوق أجساد كل من سقط شهيدا على تراب الريف خاصة وتراب المغرب عامة دفاعا عن شرف وعزة وكرامة هذا الوطن. المصالحة موضوع آخر له مبتدأ هو فتح حوار جاد مع الريفيين، وله أيضا خبر هو عدم تكرار الدولة لأخطاء الماضي.
هناك شعور ممزوج بغصة في الحلق بأن "أمرا" ما يدبر بليل، خاصة بعد الأحداث الأخيرة التي عرفتها المنطقة. فقد التزم الحزب المذكور الصمت على الرغم من أن عددا من قياداته تنتمي لتلك المنطقة وكانت لها في السابق جولات كلامية مشهودة. والآن تأتي هذه الدعوة! أهذا من لؤم الصدفة؟ أم هي خطة مدروسة لامتصاص غضب الناس في المنطقة؟ التوقيت على كل حال في غاية السوء.
وفي المقابل، هل المطالبة بإعادة جثة الأمير الخطابي إلى أرضه مطالبة مشروعة؟ بكل تأكيد. إلا أن ظروف عودته ينبغي ألا تخضع لحسابات سياسية آنية أو لاعتبارات شعاراتية زائفة وزائلة. فالرجل لم يقم بما قام به باسم حزب معين ولا لتحقيق غاية في نفسه. فلمذا يحاول البعض الآن إعادة سجنه وحصره في زاوية ضيقة؟ لقد رفع الأمير بتضحياته وتضحيات أبناء قومه هامة الوطن عاليا بين الأمم، وكان بيته في حدائق القبة بالقاهرة قبلة لزعماء عالميين قادوا شعوبهم للتحرر ولشخصيات تبوأت مكانتها في سجل تاريخها الوطني، كما كان في الوقت نفسه مكانا يلتقي فيه مواطنون عاديون. وباستثناء قلة قليلة من المتحزبين المتعصبين لزواياهم السياسية، كان الأمير حقا محل إجماع. هذا الإجماع أو جزء منه هو أقل ما يمكن إظهاره تجاه هذه الشخصية التي تستحق أكثر من سؤال عابر في البرلمان.
لا يختلف اثنان على أن مكان الرجل الطبيعي هو أن يدفن في مقبرة الشهداء بأجدير الحسيمة حيث دفن أجداده وأولاده وأبناء عمومته. أما ما يروج من نقل رفاته ودفنها في الرباط أو في مكان آخر غير الريف فذلك بالتأكيد بمثابة نفي ثالث له. لقد آن الأوان حقا أن يجمع المغاربة كلهم؛ بجميع مكوناتهم وأطيافهم وتحزباتهم وانتماءاتهم على هذا الهدف: إكرام الرجل وتكريمه في وطنه ومعه يُكرم عشرات الآلاف من شهداء الوطن الذين سقطوا أمام أكبر حملة عسكرية في تاريخ المغرب ما بعد العهد القرطاجي. ألا يستحق منا نحن أبناؤه وحفدته هذه الالتفاتة التي ربما قد تكون الإجماع المغربي الطبيعي الأول والأخير؟
عبد الكريم الخطابي كان رجل دولة، وحينما سلم سلاحه عام 1926 للفرنسيين تعامل معه هؤلاء كرجل دولة، وكذلك فعلوا طيلة سنوات نفيه التي تجاوزت العشرين سنة في جزيرة لاريونيون. وفي القاهرة كان زواره وضيوفه يقصدونه باعتباره رجل دولة. وعندما كان يراسل زعماء العالم وقادته حول قضايا التحرر في العالم كان يفعل ذلك بصفته تلك. الجنازة المشهورة التي أقامتها له الحكومة المصرية في رمضان 1963 في القاهرة حيث توفي كانت جنازة رجل دولة. فعلى المغاربة جميعا إذن أن يتعاملوا مع رفاته باعتبارها رفات رجل دولة وأن تُهيأ ظروف عودته إلى وطنه ثم إعادة دفنه في أجدير على أنها لشخصية غير عادية، وتأخذ في الاعتبار هذا المعطى: الأمير عبد الكريم الخطابي هو رجل دولة وما عدا ذلك خيانة لتاريخه ولتاريخ الريف والمغرب وللذاكرة الأنسانية.