■ لسنَا وَحدَنا في هذه الأرض.. نعِيشُ مع تَنوّعاتٍ إتْنِيّة، مِن مُختَلفِ الأجناسِ والقارّات.. نحنُ مُجتَمعٌ مُتنوّع.. وفي بِيئَتِنا كائِناتٌ نحنُ أَلِفنَاها، وهي قد ألِفَتْنا.. ومعًا نتَشارَكُ حَياتَنا اليوميّة.. ومَعَنا نحنُ البَشَرُ حَيواناتٌ ألِيفَةٌ مِنها القِططُ والكِلابُ والمَعِزُ والحمِيرُ والخُيُولُ وغَيرُها... وليس في هذا ما يُعاب.. العَيبُ يَكمُنُ في سُلوكاتٍ تَستَهجِنُ الحياةَ المُشتَرَكة التي يَستَفِيدُ منها كُلُّ الجِنسِ البَشَرِي.. ▪︎وغيرُ مَقبُولٍ أن يقُودَ مَسيرةَ حياتِنا التّهجينُ اللّفظِي، في اتّجاهٍ فِعلِيّ هو تَقْبِيحٌ وتَعْيِيبٌ أو تحقيرٌ، أو تَعمُّدُ تَشْبيهٍ سَلبِيّ للحَيوانِ أو الإنسان.. هذا التّشبيهُ بهذه السّلبيّةِ مَرفُوض.. وعِندَما يكُونُ تَشبِيهٌ بالحِمار، على سبِيلِ المِثال، فإنّ هذا يُشكّلُ إساءةً مُتَعَمَّدة، ومعها يكُونُ التّهجينُ إضرارًا.. وهذا انحِرافٌ سَلبِيّ عن طبيعةِ العلاقةِ الانسِجاميّةِ بينَ الإنسانِ والحَيوانِ الأليف، سَواءٌ في نِقاشاتٍ ثقافيةٍ أو سياسيّةٍ أو أيِّ مَجال.. ▪︎ولا نَغفَلُ إيجابياتِ التّاريخ.. لقد كان المَغاربةُ يُدافِعُون عن حقُوقِهم، في أزمنةٍ قديمَة، ويُدافعُون عن حَيواناتِهم الأليفَة، ويَحْمُونَها، ويَتَقاسَمُون مَعها الحُلوَ والمُرّ.. وعِندَما كانَ الناسُ يَرحَلون من مكانٍ إلى آخر، لم يكُونُوا وَحدَهُم.. كانت تُرافِقُهم حَيواناتُهُم، وتُواصِلُ مَعهُم مَسيرةَ الأُلفَةِ والتّآلُف.. وكلُّ هذا طبيعيٌّ في مُجتَمعاتٍ طبيعيّة.. ▪︎وما ليس طبيعيّا هو استِهجانُ بعضِ البَشَرِ لحقُوقِ الحيواناتِ الأليفة... وهذه التّشبِيهاتُ التّحقيريّة، تُعتَبَرُ إساءةً ومَساسًا بكرَامةِ أيّ إنسان، وتحقيرًا لخَدَماتِ الحَيوانِ الألِيف، وللانسِجامِ الطبيعي بين الإنسانِ والحَيوان.. ■ ومِن هذا الخَلَل، ظَهَرَ مُصطَلَحُ "التّدجِين"! مُصْطَلَحٌ يُقالُ فِيهِ إنّهُ نتِيجةُ تَفاعُلِ الحَيوَاناتِ مع البَشر.. تَفاعُلٌ يُؤدِّي إلى اكتِسابِ خَصائصِ بعضِ الأنوَاعِ الحَيّة.. ويُرادُ "بالتّدجِين" أنْ يَنسَجِمَ الإنسانُ مع الحيوان، ويتَعَوَّدَ على سُلُوكِ الحَيواناتِ الألِيفة.. الانسِجامُ والتّعوُّد.. هذا هو الهَدَف.. ▪︎ومَن المُستفيدُ الأكبَر؟ إنهُ الإنسان.. وقد استَغلّ البَشَرُ الحَيواناتِ الأليفَة، باستِعمالِ الجِلد، أو الصّوْف، أو القُطْن، أو الحَرِير، أو لأجْلِ النّقل، والدّفاعِ عن النّفس، أو البحثِ العِلمي، أو غَيرِ هذهِ الأهدَاف... ومَعَ الزّمَن، ظَهرَت أنواعٌ منَ "التّدجِينات".. ■ ثُمّ قَفَزَ إلى الواجِهَةِ مُصطَلَحُ "التّدجِين السّياسي".. والمَسلَكُ السياسي لهُ خانةٌ في هذه الاستِعارةِ التّدجِينيّةِ التي يُقالُ إنها مُستَوْحَاةٌ مِن سلُوكِ فَصيلةٍ من الطّيورِ الأليفَة.. سُلُوكٌ مُتَداوَلٌ في تَفاعُلاتِ الطّبقةِ السيّاسيّة.. وكانت هذهِ مِحْوَرَ نِقاشاتِ حُكوماتٍ استِبدَاديّةٍ قدِيمة، وحتى بِدُوّلٍ ديمُقراطيةٍ في وَقتٍ لاحِق.. وتُمارَسُ هذه السّياسةُ التّدجِينيّة، في سياقِ البَقاءِ البَشَرِيّ للأصلَح، في أذهانِ مَراكزِ القَرَار.. وأقلاَمٌ بمُختلفِ أرجاءِ العالَم، كَتَبَت عن هذه الظّاهِرةِ الانسِجاميّة بين الإنسَانِ وحَيَواناتِه الأليفَة.. ▪︎وما زالت حالاتٌ منَ "التّدجِينِ السياسيّ"، في بُلدانٍ مِنَ العالَم، عَرقَلةً في طَرِيقِ العَصرَنة، وعَقَبَةً في نِقاشاتِ البِيئَةِ الطبيعيّة.. وقد اختَزلَ المُفكّرُ الأمريكي "نَعُوم تشُومْسكِي" هذه السياساتِ التّدجِينيّةَ في "10 استرَاتِيجيّات للتّحكُّم في الشّعُوب": نُصُوصٌ اتّهاميّةٌ مُوجّهَةٌ أساسًا إلى الإعلامِ الغَربي الذي يَستَخدِمُها، حسبَ المُفكّر الأمريكي، في إلهاءِ الشّعوب.. ▪︎وهذا الأسلُوبُ مُتَداوَلٌ مِن أزمِنَةِ الدّولِ الاستِعماريّة، والحُكوماتِ الإقطاعيّة، بمُختلفِ أرجاءِ العالم.. ولم تَفلَح الأنظِمةُ الدّيمُقراطية، حتى بدُولٍ كُبرى، في "سياسةِ تدجِين" عامّةِ الناس، وفي تَعامُلِها مع جالياتٍ مُهاجِرة.. وهُنا يتَحوّلُ "التّدجينُ السياسي" إلى سَلبيّةٍ سُلوكيةٍ مَضِرّة للإنسانِ والحَيوانِ الألِيف.. ▪︎وفي هذه الحالة، يتَحوّلُ التّدجِينُ إلى توظيفٍ سياسي من قِبَلِ أحزابٍ تستغلُّ مُناضِلينَ وعامّةَ الناس، للتّسلًُّقِ الانتِخابي إلى الحُكم.. ويُصبِحُ التّدجِينُ مُسيَّسًا، بوُعُودٍ كاذبة.. ▪︎والحَيوانُ الأليفُ لهُ تَوَجُّهٌ مُسَيَّس: هذا حِمارُ فُلان، ذاكَ بَغلُ فُلان، وذلك كَلبُ عِلاّن.. وهكذا يتمُّ رَبطُ الحيوانِ بصَاحِبِه البَشري... وقد يُتصَوَّرُ أنّ الحِزبَ نفسَه قد أصبحَ مُدَجَنًا، لا بشِعارِ المِطرقةِ ولا بغَيرِها، بل بإحدَى الحَيواناتِ الأليفة.. ويُستَغَلُّ الحيوانُ في أغراضٍ سياسيّة.. وهُنا تكمُنُ مَهزلةُ سَماسِرةِ السياسة! ■ وتَشتَغلُ الصّحافةُ المَكتُوبة.. ثُمّ الإعلامُ السّمعِيّ البصَري.. ويَظهَرُ على الخطّ الخيالُ الأدَبي، في مُحاولةٍ لإصلاحِ ما قد فَسَد.. ▪︎ويَظهَرُ كِتَابُ "كَلِيلَة ودِمنَة".. وتَبرُزُ الحَيواناتُ الأليفةُ بَطَلاتٍ وأبطالاً للقَصَصِ المُنسَجِمةِ بين الإنسانِ والحيوانِ الأليف.. ▪︎ويَنطَلقُ "أحمد بُوكمَاخ" بكِتابةِ الأدبِ المَسرحِي في طنجة.. ثم يُبدِعُ سِلسِلَةَ التّربيةِ التّعليميّة "اِقْرَأ".. ويَربطُ بين الجِدّ والهَزلِ في تربيةِ التّلاميذ، بنُصوصٍ مَكتُوبةٍ ومُصوَّرةٍ مِن قَبِيل: "مِيمِي تَلعبُ مع السُّلَحفاة"، و"زُوزُو يَصطَادُ السّمَك"... نَماذِجُ إبداعيّةٌ تَربَوِيّةٌ تجمعُ بين الإنسانِ والحَيوانِ الألِيف.. ■ ويَتقاطَعُ تَدجِينٌ بِتَدجِين.. ويَصِلُ التّدجِينُ إلى بعضِ أحزابِنا ونِقاباتِنا، وبعضِ النُّخَب، ووُجَهاءِ قبائل.. وهذه وغَيْرُها لم تتَخلّصْ بعدُ من هذا "الوباءِ" التّدجِينِيّ، في استِغلالِه للتّجهِيلِ والتّفقِير، وسُوءِ تَوجِيهِ الخِطَابِ الدّيني.. ويتَحوّلُ الضّلالُ في "التّدجِينِ السّياسِي" إلى تَضلِيلٍ في تَضلِيل.. وما زالَت نُخَبٌ سياسيةٌ في حالةِ استِعذابٍ لكُل ما يَجذِبُ "التّدجِين"، لأَجلِ استِقطابِ الجَهلِ والتّفقِيرِ والتّطرُّف، بِهَدفِ التّسلُّقِ إلى الكراسِي.. وما زالت "النُّخبةُ السياسية" - في مُجمَلِها - تَستَعذِبُ مُختَلِفَ مَظاهرِ التّدجِينِ البشَري، وكأنّ التّدجِينَ حالةٌ طبيعية، وهيّ ليست كذلك: التّدجِينُ على العُموم، وبهذه السّلبيّة، سُلوكٌ لاإنساني.. وفي حالاتٍ تعامُليّةٍ هو مَحظورٌ بقُوّةِ القانُون.. ▪︎التّدجِينُ السّلبيّ سُلوكٌ مَرفُوض.. وليس له أيُّ مُبرّر.. ولا يُمكِنُ تَبريرُهُ بِتَجهيلٍ وتَضلِيلٍ وتَفقِير.. ومَن يُمارِسُ التّدجِينَ وهو بهذه الوقاحَة، يَقتَرِفُ جريمةً في حقّ الوطَنِ والمُواطِن.. إنهُ يُبعِدُ فِئةً عَريضةً منَ الناس، مِنْ حقّ المُشارَكة الفِعليّة في النقاشِ الوَطنِيّ الإيجابيّ البنّاء، ومِن تحقيقِ استِقرارِنا التّنمَوِيّ.. ■ ولا قَبُولَ لأيّ حزبٍ إقطاعِيّ تَدجِينِيّ.. المَغربُ لِجَميعِ المغاربة، ولِكُلّ الأديان، وكُلِّ الاتّفاقاتِ والاختِلافات، وكُلِّ المُهاجرين واللاجئينَ والعابِرِين.. وما يَنطبِقُ عَليْنا، يَنطبقُ على غيرِنا في رُبُوعِ بِلادِنا.. ولا مَجالَ في بلادِنا للتّفريقِ بين الناس.. ▪︎وفي "الإعلان العالمِي لحُقوقِ الإنسَان - 1948م"، ورَدَ أنْ لا تَميِيزَ بين الناس، "مِن أيِّ نَوع، ولا سِيّما التّميِيزُ بسبِب العُنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرّأي، سياسيًّا وغيرَ سياسي، أو الأصلِ الوَطنِي أو الاجتِماعي، أو الثّروة، أو المَولِد، أو أيِّ وَضع آخَر".. ▪︎وما زال عِندَنا يُطرَحُ نفسُ التساؤل: ما هي الجِهاتُ المَسؤولةُ مَيدانيًّا، عن تأطيرِ وتَوعيةِ المُواطِنِين، دُونَ تَفريقٍ بين هذا وذاك؟ الجواب: هي الأحزاب.. الأحزابُ على صِلَةٍ مُباشِرةٍ معَ المُناضلينَ وعُمومِ المُواطِنين.. فلِماذا ما زالت الأحزابُ أداةً للتّفرِقَة بين الناس؟ "هذا مِنّا.. وهذا ليس مِنّا"! ▪︎إنها تُقِيمُ شَرْخًا اجتِماعيّا سوفَ يَرتَدُّ عليها.. ومُجتَمعُنا قد تَغيّر.. وإذا كانت الأحزابُ تَعْلَم، فهذه مُشكلتُها.. وإذا كانَت جاهِلة، فأكيدًا سوف تُؤدّي الثمَن.. والمُؤكَّدُ أنّ بِلادَنا، مِنَ القاعِدةِ إلى القِمّة، لن تُفرّطَ في حُقُوقِها.. ولَن تُجْدِيَّ نُخبتَنا السياسيةَ أساليبُ التّخوِيفِ والاستِضعَافِ والتّروِيض.. ولا القَساوةُ في تربيةِ الناشئةِ على انهِزاميّة، سواءٌ في الأُسْرَة أو المَدرَسةِ أو غَيرِهِما... ▪︎كما لا يُجدِي ما تَنهَجُه دُولٌ قَويّةٌ مِن تَدجِينٍ سياسيّ واقتِصاديّ وتَخوِيفِيّ في حقّ الدُّول الضّعِيفة.. ولا مجالَ لقَبُولِ تَحوِيلِ الدّولِ الفقِيرةِ إلى بَقَراتٍ حَلُوب، مُقابِلَ مُكتَسَباتٍ فَرديةٍ أو مَكاسِبَ سياسية.. ولا مكانَ لسياسةِ التّخدِيرِ التي تُمارِسُها تدجِينيّاتٌ تَبُثُّ وُعُودًا كاذِبة، وإلهاءَاتٍ لتَحوِيلِ الانتِباهِ إلى ما يُعَطِّلُ الوَعيَ الوَطنيّ.. ■ ونَحنُ المَغارِبةُ لا نُرِيدُ بِلادَنا إلاّ مُعافاةً آمِنَةً مُطْمَئِنّة.. بِلادُنا تَستَأهِلُ الحياةَ الكرِيمَة، والاستِقرَارَ البَنّاء.. وأنْ تُبْحِرَ بِنَا، على أمواجِ التّحدّي، إلى شاطِئِ الأمَان... * وهي مَرفُوعَةُ الرّأس! [email protected]