ترتبط حياة المغربي بشكل كبير بحياة العديد من أصناف الحيوانات الأليفة، كالخيول والحمير والبغال والخرفان والأكباش والبقر، إلى جانب الكلاب بكل أصنافها، وكذا أنواع القطط والطيور من دجاج وحمام... فمختلف هذه الحيوانات، سواء الأليفة أو تلك التي تتواجد في الغابات والمحميات الطبيعية، البرية منها والبحرية والجوية، تعتبر من مكونات المجال الوطني، كما تشكل مظهرا من مظاهر الحياة العامة، سواء بالقرى أو البوادي أو المدن. ففي المدن التي تضم غالبية الساكنة المغربية عادة ما ترى هذه الحيوانات وهي تتحرك يوميا في الطرقات والشوارع العمومية، وتقتات من قمامات ومزابل المدن، وتعيش من بقايا أطعمة منازل الأحياء الشعبية أو مما يقذف لها من تحت موائد وطاولات المطاعم، أو ما يجود به صيادو سفن الصيد في الموانئ والمراسي، أو ما يلقى إليها من عظام من طرف جزاري المسالخ، ومحلات الجزارة. لكن رغم هذا التواجد المحسوس والملموس لهذه الحيوانات في المجال الوطني، فإنها لا تتمتع بأي وجود، سواء كان فكريا أو حقوقيا أو قانونيا، لضعف ثقافة الرفق بالحيوان من جهة، ولانعدام ثقافة الدفاع عن حقوق الحيوان بالمغرب. ضعف ثقافة الرفق بالحيوان بالمغرب يحتل الحيوان في المخيال الثقافي للمغاربة مساحة كبرى، نظرا لأن المجال القرآني مليء بأسماء الحيوانات بمختلف أشكالها؛ فالعديد من سور القرآن تحمل أسماء للحيوانات أو الطيور، كسورة البقرة التي تعتبر من أطول السور القرآنية، إلى جانب سورة الفيل، وسورة الأنعام، وغيرها. كما يتضمن القصص القرآني العديد من الإشارات الدالة عن الحيوان؛ فبالإضافة إلى بقرة إسرائيل، وعجلهم، هناك ناقة النبي صالح، وكلب أصحاب الكهف، والحمار الذي يحمل أسفارا... كما أن الأحاديث التي يروى جلها عن الصحابي أبي هريرة مرتبط باسم التصغير المحبب لحيوان أليف هو القط. وبالتالي، فلم يكن من المستغرب أن تدعو العديد من الأحاديث النبوية إلى عدم إيذاء الحيوان أو التعسف عليه. فعلى سبيل المثال هناك حديث روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلا". كما منع استخدام أي حيوان في مسائل لم يخلق لها؛ حيث روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجتكم". كما حث النبي أصحابه على ضرورة مراعاة إحساس الحيوان حتى أثناء ذبحه، فعن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته". كما أن التركيبة السيوسيو اقتصادية، التي كانت دائما تعتمد على النشاط الفلاحي، خلقت دائما هذا التعايش الحميمي بين القروي وحيواناته؛ حيث شكل الحيوان أحد الأفراد الأساسيين في التركيبة القروية المغربية، بحكم الوظيفة التي كانت تسند لكل حيوان. فالكلب أو القانع للحراسة، والحمار للركوب والتنقل، والبقرة للحلب، إلى غير ذلك من الوظائف. وبالتالي، فقد حظي الحيوان داخل هذه التركيبة بمكانة خاصة قائمة على الرفق والاهتمام الكبير بضرورة إطعامه، والاعتناء به أثناء مرضه، والانشغال بمعيشه اليومي في علاقة قائمة على التعايش والتفاهم العاطفي. لكن على الرغم من هذه الأصول الدينية والقروية، فثقافة الرفق بالحيوان، خاصة في المدن، تكاد تكون منعدمة؛ حيث يتحول فيها الحيوان إلى أداة للاستغلال، سواء في نقل ما يفوق طاقته الجسدية؛ إذ كثيرا ما ترى حيوانات من حمير وبغال أو حتى خيول وهي تنوء تحت ثقل حمولات بشرية أو سلعية. كما أصبح من المعتاد أن ترى قططا أو كلابا وهي تتلقى ضربات أو ركلات طائشة من أقدام أطفال أو كهول بدون أن يثير ذلك أدنى شعور بالشفقة أو الازدراء من طرف العموم، مما يجعل هذه الحيوانات في ترقب دائم والحذر من كل حركة أو تحرك، ويجعلها تبحث دائما عن التواري تحت السيارات أو الاختباء وراء أي سور قد يحميها من الإيذاء، الشيء الذي حوّل سلوكها إلى شعور بالاضطهاد والإحساس بعقدة الخوف الدائم. فهذه الحيوانات، خاصة تلك التي لا أصحاب لها، تبقى فريسة سهلة لكل أنواع الضرب، أو المعاملة السيئة لكل من أراد التنفيس عن مخزونه الداخلي من العنف أو السادية دون أن يطاله أدنى زجر قانوني أو أن يتعرض لعقاب جزائي. وإلى جانب الضرب، أو البتر، أو الطحن تحت عجلات السيارات، أو الدهس بواسطة الدراجات النارية أو الهوائية، تتحول بعض الحيوانات الأليفة إلى لعب حية يتم مسخها من خلال إلباسها أثوابا أو خرقا خاصة أو حلق فروها بشكل مثير يفقدها شكلها الطبيعي لإرضاء سلوكات مرضية لبعض الفئات الاجتماعية الحضرية في حب الظهور والمباهاة الاجتماعية، إلى جانب إطلاق تسميات أجنبية كريكس وسام... ومخاطبتها باللغة الفرنسية أو بلغة أجنبية كأن هذه الحيوانات لا تدرك أو لا تفهم إلا بهذه اللغات. وهكذا تنتزع هذه الحيوانات الأليفة، التي غالبا ما تكون كلابا أو قططا أليفة، من نظامها الفطري والطبيعي لتدمج قسرا في نظام تراتبية اجتماعية بمختلف مظاهرها المادية، وتمايزاتها الشكلية، واستيلابها الفكري والثقافي. كما تتعرض هذه الحيوانات الأليفة لكل مظاهر الاستغلال الاقتصادي والجنسي من خلال المتاجرة بصغارها، أو المقامرة بها في مبارزات دامية عادة ما تنتهي بوفاتها أو بإصابتها بعجز أو عاهات مستديمة يتم من خلالها التخلص منها بطردها إلى الشارع لتصبح لقمة سائغة لمكبوتات المتشردين، أو لرصاص أو تسميم الأجهزة الإدارية المحلية في حملاتها لتنظيف المدن وملاحقة ما يسمى بالكلاب والقطط الضالة. ولا تقتصر هذه المعاملة الحاطة بكرامة هذه الحيوانات الأليفة، بل يشمل الأمر أيضا الملايين من الأكباش والخراف القروية التي تصدر بمناسبة عيد الأضحى إلى المدن؛ حيث تتعرض في الأسواق لمختلف الجس والتقليب، والكشف عن الأسنان، وإنزالها وإصعادها من الشاحنات، والوقوف تحت لفح الشمس في الأيام الحارة، وتحت هطول المطر والبرد في الأيام الشتوية. أضف إلى ذلك تعرضها للتسمين الاصطناعي من طرف شناقة الأسواق الذين يستعملون كل الوسائل للربح على حساب صحة هذه الحيوانات التي تتحول إلى آلية للتسليع والتبضيع في غياب أية حماية قانونية أو إدارية. ولا يقف الأمر عند ذلك، بل تتحول هذه الأكباش والخراف إلى أضاحي تتدرب فيها كل الأيادي الهاوية لأرباب الأسر، والأقارب، والجيران والجزارين المحترفين والموسميين في مذبحة لا تراعي أحاسيس ولا شعور هذه الحيوانات؛ حيث يتم ذبح وسلخ بعضها أمام أعين وسمع البعض الآخر في سطوح وأماكن غير صالحة لا للذبح ولا للسلخ، وأمام أعين الأطفال الذين يترسخ في ذهنهم منذ صغرهم أن هذه الحيوانات قد خلقت فقط لإرضاء شهوة وسطوة الآدمي خليفة الله في الأرض، وأن هذه الحيوانات هي مخلوقات بدون عقل ولا روح ولا إحساس، خلقت لتركب، أو تحلب، أو تؤكل... بحيث يمكن أن تضرب، أو تغتصب، أو تبتر أعضاؤها، أو يتسلى بها في انعدام كلي لأي ثقافة لحقوق الحيوان، على عكس دول وحضارات أخرى قطعت أشواطا كبرى في تكريس حقوق الحيوانات بها. انعدام ثقافة حقوق الحيوان بالمغرب إلى جانب ضعف ثقافة الرفق بالحيوان التي تنعكس من خلال العدد الضئيل لجمعيات الرفق بالحيوان التي يتناثر بعضها في بعض المدن المغربية كعاصمة البوغاز، أو بنواحي العاصمة الاقتصادية، أو في بعض دروب العاصمة الإدارية، والتي غالبا ما تشكل فروعا لجمعيات أجنبية تعنى بالرفق بالحيوان، هناك شبه غياب لأية ثقافة لحقوق الحيوان بالمغرب؛ إذ إن مجرد ذكر هذا المفهوم قد يثير السخرية الممزوجة بالازدراء بدعوى أن المغرب ما زال لم يرسخ منظومته الحقوقية بالنسبة للإنسان، فما بالك بالحيوان. ويمكن أن نرجع انعدام هذه الثقافة بالمغرب إلى عوامل عدة تكمن بالأساس في غياب مسألة حقوق الحيوان في النقاش الفكري، والحقوقي، وكذا السياسي. غياب النقاش الفكري يبدو أن نقاش وضعية الحيوان ما زالت لم تشكل إلى حد الآن إشكالا أو قضية تثير تساؤل المفكرين والفلاسفة، والسينمائيين بالمغرب؛ إذ إن تشكل أية منظومة حقوقية، سواء تلك الخاصة بالإنسان أو الحيوان وحتى النبات وباقي الكائنات الحية الأخرى، لا بد أن تسبقها أرضية فكرية يتم من خلالها الجدل وتبادل الآراء حول أي صنف من أصناف هذه الحقوق. ففي منظومة الحقوق الحيوانية الغربية، شكل الحيوان موضوعا للتفكير عند العديد من الفلاسفة، سواء القدامى أو الجدد؛ فقد دافع الفيلسوف والرياضي فيثاغورس (500 - 580 قبل الميلاد) عن حقوق الحيوان؛ حيث اعتبر أن الأرواح البشرية وغير البشرية بعثت من الإنسان إلى الحيوان والعكس صحيح، في حين جادل أرسطو (384-3222 قبل الميلاد) في هذا المعطى الفلسفي معتبرا أن الحيوانات غير البشرية ليس لديها مصالح خاصة بها لتحتل مرتبة أقل من البشر في سلسلة الوجود الكبرى؛ لأنها تفتقر إلى الشعور والمنطق والفكر والمعتقد. وعلى النقيض من الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي اعتبر الحيوانات آلات حية بلا وعي أو إحساس بالألم وأنها حيوانات بكماء لأنها لا تمتلك اللغة، اعتبر الفيلسوف البريطاني جون لوك (1632-1704) في كتابه "بعض الأفكار المتعلقة بالتربية" أن للحيوانات مشاعر، وأن التعامل معها بقسوة غير ضرورية يعتبر فسادا أخلاقيا، كما أن التعرض للأذى من قبل الحيوانات المتوحشة لا يعطي الحق في القسوة عليها، سواء من مالكي الحيوانات أو أي إنسان يتضرر بسببها. وفي مناقشته لأهمية منع الأطفال من تعذيب الحيوانات، ذكر لوك "أن عادة تعذيب البهائم وقتلها يزيد من درجات القسوة لديها تجاه البشر أيضاً". كما عارض الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (1724-1804) فكرة أن للبشر مسؤوليات مباشرة تجاه الحيوانات. فبالنسبة له، القسوة على الحيوانات كانت خطأ فقط لأنها تعتبر شيئاً سيئاً للجنس البشري، وقد احتج بكلامه حيث قال: "القسوة على الحيوانات تخالف الفطرة السليمة للإنسان لأنها تميت فيه الإحساس بالشفقة تجاهها، وبالتالي فإن الاتجاه الطبيعي، وهو الذي يعتبر مفيدا جداً في بناء العلاقة الأخلاقية للكائنات البشرية الأخرى، سيكون ضعيفاً". بينما طالب جان جاك روسو(1712-1778) في كتابه "خطاب عدم المساواة" بإدراج الحيوانات في قانون الطبيعة على أرض الواقع. ولعل هذا الجدل الفكري والفلسفي حول وضع الحيوان، والذي تطور وفق خصوصيات زمنية واجتماعية للحضارة الغربية، أفرز مع الوقت منظومة حقوقية للحيوانات في العديد من الدول الأوربية. وهكذا شهد القرن التاسع عشر ظهور الاهتمام بحماية الحيوان، وخاصة في انجلترا. فقد نجح الكولونيل ريتشارد مارتن (1754م-1834م)، أحد أعضاء البرلمان في مدينة جالواي في ايرلندا، الذي لقبه جورج الرابع ب "ديك الإنسانية" في عام 1822م، في الحصول على موافقة البرلمان البريطاني على "قانون سوء معاملة الخيول والماشية" أو "قانون مارتن" - كما أصبح معروفاً فيما بعد - الذي يعتبر من أول القوانين التي صدرت لغرض حماية الحيوان في العالم. وقد حصل القانون على الموافقة الملكية في 22 يونيو 1822م لمنع سوء معاملة أي حصان، أو فرس، أو بغل، أو حمار، أو ثور، أو بقرة، أو غنم أو غيرها من المواشي، وأصبحت القسوة اتجاهها مخالفة يُعاقب عليها إما بغرامات تصل إلى 5 جنيهات أو السجن لمدة شهرين. وقد تبعت دول أوروبية وأمريكية هذا النهج حول تمرير التشريعات وخلق القرارات التي تخدم وتحمي الحيوانات؛ حيث حكمت محاكم نيويورك في عام 1822 بأن الوحشية والقسوة ضد الحيوانات تعتبر جريمة في القانون العام. وفي فرنسا عام 1850 نجح جاك فيليب دلما دي غرامون في تمرير قانون غرامون Loi Grammontt الذي يحظر ويحرم القسوة ضد الحيوانات الأليفة ويعتبرها خروجا عن القانون، ثم تبعت ذلك القرار كل من ولاية واشنطن عام 1859، ونيويورك في 1866، وكاليفورنيا في 1888 ثم فلوريدا عام 1889. في حين طالت سلسلة من التحسينات قانون مارتن بانجلترا، حيث أصبح يسمى قانون القسوة على الحيوانات في 1835، ويتضمن حظر سباقات صراع الديكة والكلاب أو استخدام الحيوانات كطعم، وأُتبع القانون بتحسينات أخرى عام 1849 ثم أخرى عام 1876. وبالتالي، فإنه من المستغرب حقا أن يصطدم المرء بصمت فكري مطبق لدى مختلف المفكرين والفلاسفة بالمغرب؛ فالعديد منهم ناقش مختلف المفاهيم المرتبطة بالحرية، والدولة، والأدلوجة، أو منظومة العقل العربي، سواء السياسي أو الأخلاقي، ومكونات التراث السياسي العربي-الإسلامي... دون أدنى إشارة إلى وضع الحيوان في منظومتنا المغربية المحلية أو المنظومة العربية الإسلامية الشمولية. الشيء الذي يجعل التساؤل مشروعا: هل هذا يرجع إلى نوع من التعالي الفكري لدى نخبنا الفكرية والفلسفية أو نوع من النظرة الدونية إلى الحيوانات، على اعتبار أنها كائنات لا تستحق التفلسف حولها أو تبادل الآراء بشأنها، مما يكرس جمود النظرة الدونية للحيوان السائدة في المغرب؟ ولعل هذه النظرة لا تقتصر فقط على المفكرين بالمغرب، بل تشمل أيضا مختلف المبدعين، سواء في فن التشكيل أو السينما أو المسرح... إذ لم يسبق لهؤلاء أن طرحوا قضية وضع الحيوان ومعاناته النفسية والجسدية، سواء في مسرحية من المسرحيات أو شريط من الأشرطة السينمائية أو في لوحة من اللوحات التشكيلية، اللهم في بعض اللوحات التي تركز على قوام الخيول وتبوريدة الفرسان. غياب النقاش الحقوقي رغم تطور المسار الحقوقي بالمغرب، الذي شمل المطالبة بضمان الحقوق والحريات الفردية كرد فعل عن سنوات من القمع السياسي، وانتهاك السلطة للحريات الفردية الأساسية، والتي توجت بإصدار ترسانة دستورية وقانونية تؤطر حقوق الصنف البشري بالمغرب، فقد بقي الوضع الحقوقي للحيوان المغربي مقصيا من كل نقاش حقوقي أو عمومي. فلم يسبق لأي منظمة حقوقية تنتمي للمجتمع المدني، سواء منظمات تختص بالدفاع عن حقوق المرأة أو أخرى تدافع عن حقوق الطفل أو تلك التي تهتم بالدفاع عن حقوق المعتقلين أو جمعيات الدفاع عن إلغاء عقوبة الإعدام...، أن قامت بوضع مطالب تهم تحسين الأوضاع الحقوقية لشرائح واسعة من الحيوانات البكماء. فباستثناء بعض جمعيات الرفق بالحيوان، التي تعد على رؤوس الأصابع بعد أن أقفل جلها أبوابه بسبب قلة المساعدات الأجنبية، لم تطفح على السطح، سواء السياسي أو الحقوقي أو الإعلامي، أي شخصية عمومية أو حقوقية أو أي تنظيم بمختلف مرجعياته اليسارية أو الليبرالية، أو حتى الأصولية، يناضل أو يدعو إلى حماية هذه الشريحة الحيوانية العريضة. ولعل سبب هذا الصمت الحقوقي والسياسي المطبق يرجع إلى عوامل فكرية واجتماعية وسياسية عدة، تتمثل بالأساس في النظرة الدونية السائدة التي عادة ما ينظر بها إلى الحيوان الأليف. فالحيوان الذي يعتبر كائنا حيا إلى جانب الكائن الإنساني، ينظر إليه ككائن أدنى لا ينبغي أن يتمتع بأية حقوق أو أية حماية قانونية، فقد جرت العادة أن يعتبر دائما في درجة أدنى من الكائن البشري أو الإنساني، الشيء الذي يبرر أي سلوك عدواني ضده. ولعل هذا يظهر بالخصوص من خلال السباب الذي يتبادله المغاربة فيما بينهم بنعت خصمهم بالكلب أو الحمار، كنوع من التحقير والحط من قيمته. ولعل إقالة أحد المسؤولين عندما شبه أحد وزراء حكومة بنكيران بنوع من الكلاب ليعكس بجلاء هذا التصور الدوني لهذه الحيوانات. كما أن هذه النظرة هي التي أطرت وما زالت تؤطر رؤية الحاكم للمحكوم بالمغرب؛ فالتاريخ السياسي بالمغرب يعج بالكثير من المشاهد التي تعكس كيفية معاملة السلطة أو المخزن لمعارضيه أو المتمردين على سلطته. وهكذا وصف بعض المؤرخين كيف كان يتم التعامل مع معارضي السلطة؛ حيث يتم وضعهم في أقفاص حديدية والطواف بهم في العاصمة على ظهور حمير أو جمال دلالة على التحقير والإذلال، قبل أن تتم تصفيتهم. ولعل أحسن مثال على ذلك معاملة السلطان مولاي حفيظ للجيلالي الزرهوني، الملقب ببوحمارة، والتنكيل به؛ حيث تم وضعه في قفص كالحيوان وطيف به فوق حمار بعد تعذيبه بمختلف أشكال التعذيب قبل أن يتم الإجهاز عليه. هذا التصور هو الذي بقي سائدا بعد استقلال البلاد؛ حيث دفع السلطة في أحلك فترات القمع السياسي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إلى التعامل مع معارضيها كحيوانات يتم جلدها وتعليقها وكيها في غياهب المعتقلات السرية كدار المقري، ومخافر الشرطة كدرب مولاي الشريف، بالإضافة إلى نعتها بأقذع النعوت الحيوانية بوصفها بالكلاب أو الحمير. فهذه النظرة التحقيرية للحيوان في المغرب هي التي سمحت للسلطة بأن تعامل مواطنيها معاملة تخرق كل حقوق الإنسان، وتحرمهم من حرية الحركة، وحرية التعبير. والغريب أن بعض السجناء والمعتقلين السياسيين الذين تولى بعضهم تأسيس ورئاسة بعض المنظمات الحقوقية لم يهتموا بالدفاع عن حقوق الحيوان، في الوقت الذي كرسوا فيه نضالاتهم للدفاع على حقوق الإنسان؛ حيث نجد أن تقارير جل هذه المنظمات تخلو من أية إشارة إلى التعسفات التي تتعرض لها الحيوانات بالمغرب، سواء من خلال حملات السلطة في مطاردة هذه الحيوانات التي تنعت بالضالة من كلاب وقطط...، أو حملات التقتيل الممنهج بالتسميم أو بالرصاص أو حتى بالحرق، التي تقوم بها السلطات المحلية لمواجهة أي تكاثر لهذه الحيوانات، أو خوفا من انتقال داء السعار من هذه الحيوانات إلى الساكنة. ولعل هذا ما يعكس ضعف وعي هذه المنظمات الحقوقية بأن منظومة الحقوق هي كل متكامل يشمل مختلف المكونات، سواء كانت إنسانية أو حيوانية، أو حتى نباتية. فقد سبق أن أكد الفلاسفة والمفكرون أن الإنسان هو قبل كل شيء حيوان (إما عاقل، أو اجتماعي، أو ضاحك...) وبالتالي، فعندما يتم الاهتمام بحقوق الحيوان والدفاع عنها، فهذا الدفاع هو في الوقت نفسه دفاع عن الإنسان في مختلف مكوناته، بما فيها مكوناته الحيوانية، وأن المجتمع السليم الذي يضمن حقوق الحيوان سيكون بالضرورة مجتمعا مكرسا لحقوق الإنسان بمختلف فئاته وأصنافه؛ فالثقافة الحقوقية السليمة والمتطورة لا تقبل بالتراتبية في الحقوق أو التمييز في الأولويات الحقوقية. غياب النقاش السياسي يبدو أن السلطة رغم انتقائها لصورة الأسد أو السبع كرمزية سياسية للمملكة، رغم انقراض هذا الحيوان من منطقة الأطلس المتوسط منذ عشرينيات القرن الماضي بسبب الصيد الجائر والتقاعس الرسمي عن حمايته، وانتقاء الأحزاب لرموز حيوانية مختلفة من إبل، وفيلة، ووعول، وغزلان...، فإن ذلك لم يدفع لا السلطة ولا الأحزاب إلى طرح وضعية الحيوان ضمن النقاش السياسي، سواء على الصعيد الإعلامي أو البرلماني أو الانتخابي، في حين إنه من المعروف تاريخيا أن الدول التي تتجذر فيها منظومة حقوق الإنسان، كإنجلترا أو فرنسا وحتى ألمانيا، كانت السباقة إلى الاعتراف القانوني بحقوق الحيوانات. وهكذا قامت حكومة أوليفر كرومويل، بعد الحرب الأهلية الإنجليزية، التي امتد حكمها من عام 1653م حتى عام 1659م، بسن قانون رعاية الحيوانات كجزء من قوانين المحميات؛ حيث كان كرومويل معارضا للرياضات العنيفة التي تستخدم فيها الحيوانات: كرياضة مصارعة الديوك، ومصارعة الكلاب، ومصارعة الثيران... كما أنه في عام 1821، قدم ريتشارد مارتن، أحد أعضاء البرلمان في مدينة جالواي في ايرلندا، مشروع قانون معاملة الخيول الذي قوبل باستهزاء من قبل مجلس العموم البريطاني الذي رد عليه ساخراً بأنه سيطالب بحقوق للحمير والكلاب والقطط بعد ذلك. لكن رغم هذه السخرية، فقد دافع هذا النائب عن مشروعه، ونجح في انتزاع مصادقة مجلس العموم على "قانون سوء معاملة الخيول والماشية" أو "قانون مارتن" -كما أصبح معروفاً فيما بعد -الذي يعتبر من أول القوانين التي صدرت لغرض حماية الحيوان في العالم. كما حصل هذا القانون على الموافقة الملكية في 22 يونيو 1822 لمنع سوء معاملة أي حصان، أو فرس، أو بغل، أو حمار، أو ثور، أو بقرة، أو غنم أو غيرها من المواشي، وأصبحت القسوة تجاهها مخالفة يُعاقب عليها إما بغرامات تصل إلى 5 جنيهات أو السجن لمدة شهرين. كما أنه على الرغم من الإيديولوجية العنصرية للحزب النازي بزعامة هتلر، فقد سنّ النازيون، بعد نجاحهم في الانتخابات التشريعية ل1933، قانونا ينظم ذبح الحيوانات وفق تعاليم الشريعة اليهودية. كما قام نواب الحزب النازي في نوفمبر من العام نفسه بالمصادقة على "قانون حماية الحيوان" "Tierschutzgesetz". ومع إعلان أدولف هتلر نهاية القسوة على الحيوان ("في ألمانياالجديدة لن يسمح بالمزيد من القسوة على الحيوان")، تم في شهر يوليوز من عام 1934 حظر الصيد بحسب "قانون الرايخ للصيد" ( Reichsjagdgesetz). وفي يوليو من عام 1935 تم سن التشريعات البيئية (Naturschutzgesetz)، ليتم إصدار قانون لتنظيم نقل الحيوانات في السيارات في نوفمبر من عام 1937، وإصدار قانون مماثل حول التعامل مع الحيوانات في القطارات في سبتمبر من عام 1938. من هنا، نرى أن النخب السياسية في مختلف هذه الدول، ورغم الاختلاف الجوهري في أيديولوجياتها وأفكارها السياسية، كانت مبادرة لطرح قضايا وضعية حيواناتها للنقاش العام داخل المجالس النيابية والتشريعية لدولها، والعمل على إصدار قوانين تضمن حقوقها. بينما مكونات الطبقة السياسية المغربية، بمختلف مشاربها الفكرية والإيديولوجية، لم تجسر إلى حد الآن على تقديم مشروع أو مقترح قانون لحماية حقوق الحيوان بالمغرب رغم أن التركيبة الاقتصادية والاجتماعية هي في عمقها تركيبة فلاحية اقتصاديا، ومتدينة اجتماعيا. ويظهر هذا بالخصوص من خلال غياب أي ترسانة قانونية تنظم عملية تسويق ونحر أكباش وخرفان عيد الأضحى على سبيل المثال، أو عملية نقل الحيوانات من القرى إلى المدن بشكل يحفظ كرامة هذه الحيوانات الجسدية والنفسية. كما لم يسبق لأي فريق برلماني، بما فيها الفرق المنتمية إلى الأحزاب ذات المرجعية الدينية كحزب العدالة والتنمية على سبيل المثال، أن عرض أمام البرلمان أي مقترح قانون لحماية حقوق الحيوانات الأليفة، من كلاب وقطط وحمير أو طيور بمختلف أشكالها وأصنافها، يتضمن مقتضيات زجرية لعقاب أي شخص يستبيح جسد هذه الحيوانات وينتهك حرمتها. كما لم يسبق لأي نائب أن طرح سؤالا شفويا أو كتابيا على وزير الفلاحة أو وزير الداخلية حول عدد الحيوانات الأليفة التي تتعرض سنويا للقتل أو الإيذاء، في الوقت الذي جرت فيه العادة أن تقدم الأجهزة التابعة لوزارة الفلاحة جردا بعدد رؤوس الماشية المعدة للذبح بمناسبة عيد الأضحى في كل سنة. وبالتالي، فقد آن الأوان لطرح وضعية الحيوان المغربي للنقاش العمومي على مختلف الأصعدة، سواء كانت فكرية أو حقوقية أو سياسية؛ إذ ما المانع من أن يؤلف مفكرونا، وأدباؤنا، وشعراؤنا مؤلفات حول الحيوانات المغربية التي تتقاسم معنا المجال الوطني ويطرحون إشكالية تواجدها ككينونة حية ومستقلة، تتحرك وتأكل، وتحس، وتلعب بكل حرية وبكل أمان؟ فقد سبق لتوفيق الحكيم أن دبج مسرحيات وروايات حول معاناة الحمير في أرياف مصر، كما حفلت أشرطة بعض المخرجين المصريين بصور وقصص عن حيوانات بلاد الكنانة.... ولعل هذا ما هيأ المناخ لكي يتضمن دستور مصر بعد الثورة مادة تنص على التزام "الدولة بحماية بحارها وشواطئها وبحيراتها وممراتها المائية ومحمياتها الطبيعية. ويحظر التعدي عليها، أو تلويثها، أو استخدامها فيما يتنافى مع طبيعتها، وحق كل مواطن في التمتع بها مكفول، كما تكفل الدولة حماية وتنمية المساحة الخضراء في الحضر، والحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية والسمكية، وحماية المعرض منها للانقراض أو الخطر، والرفق بالحيوان، وذلك كله على النحو الذي ينظمه القانون". كما أن هذا دفع بالقضاء المصري إلى إصدار عقوبات بسجن متورطين في قتل أحد الكلاب المصرية بعد الضجة الإعلامية التي صاحبت هذه القضية التي حظيت بتعاطف الرأي العام المصري، بعدما تناولتها العديد من المواقع الإلكترونية. كما تعتبر الإمارات العربية المتحدة من بين الدول العربية السباقة إلى إصدار قانون رقم (16) لسنة 2007 بشأن الرفق بالحيوان؛ حيث فرض عدة محظورات في التعامل مع الحيوانات، من خلال منع التعدي على الحيوان، وتضمن "عقوبات مشددة في حق المخالفين تتراوح ما بين الحبس لمدة لا تقل عن شهر ولا تزيد على سنة مع الغرامة التي تصل إلى عشرين ألف درهم". لكن بالموازاة مع الإسراع بإصدار قوانين تحمي وتضمن حقوق الحيوان، بما فيها الحيوانات التي لا مالك لها، من الضروري إعادة النظر في المقررات المدرسية، على غرار ما تم أخيرا من إلغاء بعض النصوص الدينية التي تشجع على التطرف؛ وذلك بإدخال نصوص تشجع على المعاملة الطيبة للحيوان ضمن مادتي التربية الوطنية أو الدينية. بالإضافة إلى تنظيم زيارات مدرسية إلى المحميات الطبيعية، ومآوي الحيوانات الأليفة، وتخصيص برامج إذاعية وتلفزية للتعريف بالحيوانات كمخلوقات حساسة وأليفة واجتماعية، إلى جانب تخصيص بعض خطب الجمعة وبعض برامج إذاعة محمد السادس للحث على المعاملة الحسنة للحيوان واحترام كرامته الجسدية والنفسية كمخلوق من مخلوقات الله.