نحنُ أيضًا، مِثلَ غَيرِنا، نتَأرجَحُ بين الكفَاءَةِ والوَلاءِ في انتِقاءَاتِنا التّوظيفيّة، بالقِطاعيْنِ العامّ والخاصّ.. ونَقَعُ أحيانًا في مُنزلقاتٍ مَشاعِريّة، وأُخرَى في سُوءِ اختِيارِ الكفَاءَات.. وعندَما يَتَحَيّزُ مَسؤولٌ لِابْنِ قَبِيلتِه أو مَدِينتِه أو عائلتِه، قد يَنسَى أن الانحيّازَ لا يَسمَحُ لهُ بتَفضيلِ بناتِ وأبناءِ مُقرّبِيه، على شبابِ باقي جِهات البلد، في حالةِ انتِقاءاتٍ تَوظِيفيّة.. وهذا نمُوذجٌ لا يَعنِي أن الانحيازَ غيرُ مَوجُودٍ في أيّ مَكانٍ آخَر، وأنّه يتوجّبُ تسويةُ الخَلَل، رأسًا على عَقِب.. * لا يجُوزُ أن يُنتِجَ الوَلاءُ انحيّازًا.. الوطَنُ لا يقُولُ بالانحيّاز.. الوطَنُ يقولُ بتَساوِي الفُرَص، والحُقوقِ والواجِبات.. وكلُّ الناسِ مُتَساوُونَ أمامَ القانُون.. ولا تحيُّزَ في الوَلاء التّوظيفِي لقَبِيلةِ فردٍ، على حسابِ قبَائلِ كلِّ البَلد.. واختيارُ الوَظِيفةِ لا يقُومُ على القَرَابة، بل علَى الكَفاءةِ والضّميرِ المِهني.. وعندَما يُمارِسُ مَسؤولٌ تَميِيزًا بين هذا وذاك، فهُو يَضُرّ بالبلد، ويَنشُرُ المَحسُوبيةَ والخلَلَ الوظِيفي، مُقارنةً مع باقي الجهات... * وأنتَ يا سيادةَ المَسؤول! ما دَخلُ المَشاعِر في اختياراتِك؟ إذا كان أحدُ المُرشّحِين قريبًا منك، عزيزًا عليك، فَأحسَنُ توجِيهٍ منكَ، هو أن يَمتَلِكَ قَريبُك - وبِجِدّية - مَهارةً تَجعَلهُ مُؤهّلاً للوَظيفة.. وستَكُون قد أسدَيتَ لهُ أكبرَ خِدمة، وهي اضطِلاعُهُ بِمَقايِيسَ تَجعَلُهُ مُختارًا للتّوظيف: الكفاءة، الأخلاق، الضمير المهني، الجِدّية، النّزاهة... وهذه أساسيّاتٌ ستَخدُمُ بها سُمعَتَك، وأُسرَتَك، وكلَّ البَلد... هي أساسَاتٌ للمَسؤوليةِ المُثلَى.. أما الانحِياز لابنِ قريتِك أو غيرِه، فهذا يُسِئُ لحقوقِ بقيةِ المُواطِنين.. وهو انحِيازٌ مُضِرّ بتوازُنات البلد، والاستِقرارِ التّنموِي، والعَدالة، والتّساوِي أمامَ التّبارِي.. وهذا سُلوكٌ يُحرّضُ أطرافًا أخرى على الانحياز ضِدّك، وضِدّ أبنائِك وأحفادِك، ويُشَكّلُ بالتّالي إضرارًا بحُقوقِ البلد، وبالعدالةِ المَعرِفية.. وإنكَ بهذا تُسِئُ للوَطَن والمُواطِن.. وفي هذهِ الأجواء، لا أحسنَ منَ التعامُلِ بدُون تمايُز.. الناسُ سَواسيةٌ في التّقارُب.. والصّفَقاتِ العُمومية.. سَواسيةٌ أمامَ القانون.. والحُقُوقِ والواجِبَات... * لا يجُوزُ أن يكُون الوَلاءُ أعمَى.. وأن يكُونَ المسؤولُ عن التّبارِي مُندَفِعًا، وبِلاَ عَقل.. الوَلاءُ العاقِلُ لا يعنِي إقصاءَ الآخَر.. يعنِي فقط عدالةَ الرّؤية.. وضَبطَ الكَفاءة.. وقُوّةَ الأمانة.. وهذه مَقايِيسُ في تَوَلّي مُختلفِ مَوَاقعِ المَسؤُوليّة.. ويَجِبُ أن تكُونَ الخِبرةُ قائِمةً على وَعيٍ ومَسؤولية، وإلاّ فهي فاقدةٌ للفائدة، ولا تقومُ على خدمةِ البَلد. فما الفائدةُ في أن يَعملَ معكَ مسؤولٌ وَلاؤُه لجِهةٍ ما، وليسَ وَلاءًا في خِدمةِ مَصالحِ البَلد؟ لا ولاءَ إلاّ للوَطن، بِرَمزياتِه ومَصالِحِه وأبعادِه.. الولاءُ للاستِقرارِ الإيجابي.. وللعَملِ المُشتَرَكِ من أجلِ تطوِيرِ البلد، إلى ما فيهِ خيرُ كلّ الوَطَن، قِمّةً وقاعِدة.. إنهُ الوَلاءُ للشّمُوخِ الوطَنِي الذي لا يَستَثنِي أحدًا في رُبُوعِ بِلادِنا.. كُلّنا سَواسيةٌ أمام الوَطن.. وأمام الوفاءِ للوَطن.. ولا تنازُلَ عن شِبرٍ من تُرابِ الوَطن.. وعن بَذرةِ كفاءةٍ منْ هذا الوطن.. * ولَكَم خَدَعتُمُونا بوَلاءاتٍ زائِفة.. حُكوماتٌ وأحزابٌ ونقاباتٌ أوقَعَتنا في إحباطات.. إحباطاتٌ مُستَرسِلةٌ مُتلاحِقةٌ ناتِجَةٌ عن دَوَرانِها في ولاءاتٍ فارِغة: نُخبَوية، قبَليّة، أُسَريّة، زَبُونية... ولاءاتٌ انتِهازيةٌ بعيدةٌ عن الوَلاءِ المِحوَرِي، وأحيانًا مُلتصِقةٌ بما قد لا يَخدُمُ مَصالحَ البلد... وبِلادُنا بحاجةٍ إلى بناءِ دولةِ الكفاءة، لا دولةِ التّشرذُمِ والتّشتّتِ والانكِماشِ حتى مع وَلاءاتٍ وَهميّة.. الحاجةُ إلى كفاءاتٍ لا تَخلُو منَ الوَطنيّة.. وبلادُنا تحتَضنُ دولةَ المُواطنين.. لا انتِهازيّين.. وتَشملُ جميعَ المُواطنين، بلا استِثناء.. تستَمِدّ جذُورَها من تاريخِنا المشترَك، وتمتَدُّ إلى استِشراف مُستقبلِ هذا البلدِ الذي نشتغلُ فيه - ومَعهُ - لكي يكونَ آمِنًا مَتقدّمًا بفَضلِ الأوفياءِ من بناتِه وأبنائِه.. * أين نحنُ من المُؤسّسات؟ إنّنا أحوَجُ ما نكُونُ إلى "دولةِ مُؤسّسات"، لكي نصرُخَ بأعلَى أصواتِنا، بالولاءِ التامّ لدولةِ المؤسّسات، لأنّ المؤسّساتِ هي ضامِنُ وحدتِنا وحقُوقِنا وواجباتِنا واستمراريةِ عَملِنا المُشترَك، وإنتاجِ ثمارٍ مُفيدةٍ للجميع.. وبِالمؤسّسات نقفُ على أقدامِنا، وبكُلّ الوَلاءِ لدولةِ القانون: دولة الحقُوقِ والواجبات.. دولةٌ ليست فيها نُخَبٌ تَخدَعُنا بخطاباتٍ شَعوَذيّةٍ وخُرافيّةٍ لا تُفرّقُ بين الدّينِ والدّنيا، والدّينِ والآخِرة، والدّين والعِلم، والعِلمِ والجَهل... ولا تَفصِلُ بين المَصلحة الشّخصية والمَصلحةِ العامّة، وبين الغَيبيّاتِ والحاضِر... خليطٌ في مُختلفِ الاتّجاهات، بين مُختلفِ المَفاهيم.. والغريبُ أنّ "الشّعوذَة السّياسية" هي تقُومُ بأوسَخِ الأدوار: دَفعُ الناس إلى مُستَنقعاتِ الجَهل.. وجَعلُهُم يسبَحُون، ومِن ثمّةَ يَغسِلون أدمغةَ بعضِهم في أحواضِ النّجاسة.. أيُّ ولاءٍ يأتينَا من فئةٍ لا تُفرّقُ بين أحواضٍ عَفِنَة، وأحواضٍ فيها الماءُ الزُّلال؟ * نعَمْ للوَلاءِ العاقِلِ النّقيّ! ولا لِوَلاَءاتٍ مُتَعفّنة! نَعَم لِوَلاَءاتٍ قائمةٍ على الكفاءة! وبدُون كفاءات، لا قيمةَ لِوَلاَءاتٍ مُفَبرَكة.. الولاءاتُ المُصطَنَعةُ لا تعتَمِدُها إلاّ جِهاتٌ هزِيلة، غيرُ جادّةٍ في عَملِها، وغيرُ أمِينة، وغيرُ وفيّة.. ولا تتَردّدُ في بيعِ مَن اشتَراها حتى بأبخَسِ الأسعار.. والولاءُ الحقيقي كالمَعدِن الثّمين.. إذا صدّقَكَ صادَقَك، ولا يترُكُكَ وحدَك، حتى في أصعبِ الأوقات، ولو برُوحِه.. أما الولاءُ المَغشُوش، فهو لا يعتَمِد إلاّ المَصلَحة.. ولاَ يَعرِفُ الأمانَة.. والصّدق.. والوَفاء.. يبِيعُ صَاحِبَهُ في أوّلِ فُرصة.. * دولةُ كفاءَات.. لا دَولةُ وَلاءَات! بعضُ الدّول تُصَابُ بخيبةٍ كُبرى.. تُوزّعُ طاقاتِها على "ولاءاتٍ" مُتفَرّقة أو مُتَصارِعة.. وبدلَ خدمةِ قضايا البلَد، تنشَغلُ الوَلاءاتُ بالنّميمةِ واستِخبارِ أنباءِ بعضِها، فتَنزَاحُ عن دَورِها الحقيقي الذي هو خدمةُ البلد.. وهذا ما حَوّلَ ولاءاتٍ مُتنوّعةً إلى مُخبِرِين يتتَبّعُون عَورَاتِ بعضِهم، ويُسرّبون هذه المعلوماتِ مَيمَنَةً ومَيسَرة.. ويُحوّلُون البلادَ إلى "دولةِ ولاءاتٍ" تُعشّشُ فيها مَصالحُ مُختلفة، ويَطغَى عليها استِطلاعُ ما تقُولُ في بَعضِها، واستِخراجُ ما لا تقُول.. وهذا التّنشِيطُ الاستِخباراتي يُحوّلُ البِلادَ إلى حركةٍ منَ القيلِ والقال، وكثرةِ الأسئلة، مع البحثِ المُستميتِ عن أجوبة.. والأجوبةُ تُولّدُ أسئلة.. وأسئلةُ تُنتِجُ أجوبة.. وتُصبحُ الدولةُ دولةَ نَمِيمَةٍ واستِخبَارات.. وهذا يَحدُثُ لبعضِ الدول.. * ثم تَدُورُ السّنوَات.. وتدخُل الدّولةُ في استِنزافِ نفسِها.. وتتَنبّهُ إلى أنها تُكرّر معلُوماتِها، وتدُورٌ في حلقةٍ مُفرَغة.. والولاءاتُ تَجِفُّ مَصادِرُها، وتعجزُ عن استِحضارِ معلوماتٍ جديدةٍ قد تستَطِيع بها "تَدوِيرَ حَركتِها".. أليسَ الأفضلُ أن تكُونَ الدّولةُ "دولةَ كفاءات"؟ أليست دولةُ الكفاءاتِ أحسنَ مِن "دولةِ الوَلاءات"؟ الكفاءاتُ تَنشَغِلُ في خدمةِ الصّالحِ العامّ... والولاءَاتُ تَعُودُ بنا إلى الأهلِ والأصحابِ والعَلاقاتِ الإدارية، وإلى وُصُوليّينَ ومُتَزلّفينَ ومُرتَشينَ وَوُسَطاء... * والنّتيجةُ الحَتمِيّة: في العابِثينَ مَن لا يُحسِنُ شيئًا، ويَتَولّى مَسؤوليةً وظيفيّةً حَسّاسة، لا عِلمَ لهُ بها، ولا يُتقِنُها.. وهذه مُهمّةٌ في شكلِها برّاقة، وفي واقعِها مُنزَلَقٌ كبِير.. وجَبَ الابتِعادُ عن الوَلاءاتِ الزّائِفة، وأَنْ تُسنَدَ المَسؤولياتُ إلى الكفاءاتِ الأجدَرِ بها.. ولا يُقبَلُ فيها إلاّ المُقتَدِرُ المُؤَهَّل... هُنا تكُونُ النتيجةُ إيجابية.. فعِندما تتَجمّعُ الكفاءاتُ بالولاءات، تكُونُ الفائدةُ أكبر.. * وعلامةُ استفهامٍ أخرى: أينَ تتَمَوقَعُ اختياراتُنا التّوظيفيةُ التّشغيلية؟ هل نعتمدُ على الولاءِ أم الكفاءة؟ أم هُما معًا؟ لكُلّ اختيارٍ إيجابياتُه وسلبياتُه.. الدولُ المُتقدّمةُ لا تُناقِشُ "وُجودَ الوَلاء"، لأنّ الولاءَ يتمّ تدريسُهُ في مادّة "التربية الوطنية"، ويَنشأ الطفلُ على الوَلاء للوَطن.. الولاءُ لا نِقاشَ فيه.. إنهَ موجُود.. ولا شكّ فيه.. الحاجَةُ إلى تجميعِ الولاءِ في الكفاءة.. وهذا يتمّ ضبطُه ومُراقبتُه أثناءَ العمل.. وتبقى في الواجهةِ الكفاءاتُ، وفي القُلوبِ الوَلاءات.. * والوَلاءَاتُ أنوَاع.. ويُقالُ إنّ أَردَأَ الوَلاءاتِ وَلاَءُ الجَهل.. الجَهلُ يَشُلُّ استِقلاليةَ القَرار.. الجَهلُ يعنِي التّبَعيةَ الناتِجةَ عَن مَصلحَة.. ويُقالُ: أشرَفُ الوَلاءاتِ الوَلاءُ للوَطَن.. إنهُ رمزٌ للوَفاءِ، والمَصلحةِ العامّة، والإنسانيّة، والتّعايُش، والاستِقرارِ البَنّاء، وخِدمةِ الهَدفِ الوطني المُشتَرَك.. [email protected]