في لقاء حواري مع مؤسسة أديان بالتعاون مع الشراكة الدانيماركية وتحت عنوان "الخطاب القيمي الإسلامي : من هوّية الجماعة إلى خير المجتمع"، كان السؤال الأبرز الذي شغل المشاركين واستحوذ على مجريات النقاش هو: هل العنف ظاهرة إسلامية وعربية أم أنه عنف كوني عابر للحدود والبلدان والأديان واللغات والقوميات؟ وهو جزء من ظاهرة لها أسبابها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية والدينية والتربوية والنفسية. العنف وليد التعصّب الذي ينجب التطرّف، والتطرف إذا ما تحوّل إلى سلوك ودخل مرحلة التنفيذ يصير عنفاً، والعنف إذا ضرب عشوائياً يتحول إلى إرهاب، ولعلّ بعض من يمارس العنف للانتصار على الآخر أو لتحطيم معنوياته أو لإجباره على الخضوع ،إنما يمارسه ضد نفسه أيضاً حين يسعى لتدمير الآخر فيكون قد لوّث ما تبقى من إنسانيته أيضاً. وإذا كان التاريخ يخبرنا أن القاعدة فيه هي للعنف والاستثناء هي للّاعنف، لذلك فإن ثقافة اللّاعنف ما تزال محدودة، بل مشكوك فيها أحياناً، باعتبارها خياراً غير مقبول، أو غير واقعي أو مهادنة أو مساومة مريبة، وفي أحسن الأحوال خياراً متعالياً على الواقع حيث يسود العنف ويطغى على العقول والسلوك. والسؤال المحوري المطروح :هل تجدي مواجهة العنف بالعنف والحقد بالحقد والكراهية بالكراهية؟ وإلى أي حدود ستتوقّف مثل هذه المواجهة المفتوحة، بالفعل ورد الفعل ؟ وهكذا ستستمر اللعبة إلى ما لا نهاية وحسب غوتاما بوذا: إذا رددنا على الحقد بالحقد فمتى سينتهي الحقد؟ واللّاعنف هو مقاومة بوسائل ناعمة، ويمكنني القول: رذيلتان لا تنجبان فضيلة، وحربان لا يولدان سلاماً، وجريمتان لا تصنعان عدالة ، مع معرفتي إن الدعوة للّاعنف تحمل استثناءات تقرّها القوانين الوضعية والسماوية والمقصود بها "الدفاع عن النفس" وهو عمل مشروع بكل المعايير . لقد أدلج ميكافيلي قبل خمسة قرون من الزمان " فلسفة العنف" معتبراً " الغاية تبرّر الوسيلة"، وكان العنف لدى بعض التوجهات الآيديولوجية الشمولية نظرية عمل ومنهج حياة. وإذا كنّا لا نستطيع التحكم بالغايات، لكننا يمكن أن نتحكّم بالوسائل، فالوسيلة هي مرآة الغاية التي تعكس صورتها الحقيقية وجوهرها ومحتواها، لأن الأخيرة مجردة ، في حين أن الوسيلة ملموسة، والغاية تخص المستقبل، أما الوسيلة فتعني الحاضر، ويمكنني القول إن الوسيلة تمثل شرف الغاية . وعلى العموم فالغايات متشابهة أحياناً، لكن طريق الوصول إليها والوسائل التي نعتمدها مختلفة، وأن مقياس اختبار شرف الغاية يتم عبر شرف الوسيلة، وهذه الأخيرة هي التي تعبّر عن الغايات والأفكار والمبادئ، الأمر الذي ينبغي أن يكون هناك تلازماً عضوياً بين الوسائل والغايات ، أي أن الوسيلة تتوحّد بالغاية ولا يوجد انفصال بينهما. إن الانتصار الحقيقي ليس بممارسة العنف للإطاحة بالخصم أو العدو، بل في تحقيق الغايات النبيلة والشريفة بوسائل نبيلة وشريفة أيضاً، وهكذا يصبح بديل العنف هو اللّاعنف، لأن العنف هادم وإقصائي، أما اللّاعنف فهو بناء ومقاومة بوسائل سلمية، وحسب مارتن لوثر كينغ: اللّاعنف هو قوة المحبة، ووفقاً لغاندي فهو القدرة على المقاومة وقوة الحق والتسامح، ويرى نيلسون مانديلا إن اللّاعنف يعتمد على الحرية والعدالة والمصالحة ، وكان تولستوي، وهو من روّاد اللّاعنف، يعتبره مساواة وتسامح. وكثيراً ما قيل أن فكرة اللّاعنف هي منتج غربي ومستورد، غير أنها ليست حكراً على أحد، بل هي منتج حضاري وعصري ومنجز إنساني يحتاجه البشر بغض النظر عن انتماءاتهم، وروّادها هم من المضطهدين بشكل عام، الذين يسعون لكسر جدران العزلة والانطلاق إلى فضاء التنوّع ومساحة الالتقاء، حيث تتلاقح أفكارهم في الدفاع عن الحق بقيم إنسانية مثل السلام والتسامح. والعنف بقدر ما هو قضية فردية فهو قضية جماعية أيضاً ودولية في الوقت نفسه. إن اللّاعنف هو تعبير عن وعي وخيار حر وإرادة مستقلة لنبذ استخدام القوة وتحريم اللجوء إلى العنف لتسوية الخلافات وحلّ المنازعات الفردية والجماعية، بل اعتماد جميع الوسائل السلمية والمدنية لنيل الحقوق وحل الخلافات . وتزداد حاجة مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلى عقد اجتماعي جديد يتعهد فيه الجميع بعدم اللجوء إلى العنف، خصوصاً وقد استفحلت هذه الظاهرة في العقود الأربعة الماضية لأسباب دينية أو طائفية أو إثنية ، داخليا أو خارجياً، وذلك بمحاولة الاستقواء على الآخر وفرض الاستتباع ، كما تعاني بلداننا من تفاقم ثقافة الكراهية وعدم الاعتراف بالآخر أو حقه في التعبير ومن حروب أهلية وصراعات دينية وطائفية، فضلاً عن تخلّف وفقر وأمية، دون أن ننسى دور العامل الخارجي والتدخلات الإقليمية والدولية، وما زالت النخب الفكرية والسياسية تعيش على تراث الحرب الباردة القائم على الإقصاء والإلغاء والتهميش، لذلك نحن الأشد حاجة إلى اللّاعنف . هل هذه الدعوة مثالية أم متعالية ؟ أم أن ثمة مثل فرنسي هو الأكثر انطباقاً على دعاة اللّاعنف الذين يطلبون المستحيل لأنهم يريدون الممكن مع الحق حسبما يردد المفكر اليساري سلافوي جيجيك . *باحث ومفكر عربي