توقف مؤقت لبضع ساعات لحركة السير بين بدالي سيدي معروف وعين الشق ليلة الخميس إلى الجمعة    تعيين عيسى اليحياوي وكيلا للملك لدى المحكمة الابتدائية بالحسيمة    صفعة جديدة لنظام العسكر.. الجزائر تفشل في إقناع الأفارقة بقبول انضمامها إلى مجلس السلم والأمن    إدارة حموشي تفتتح دائرة أمنية جديدة بخريبكة    "لارام" تلغي رحلاتها من وإلى بروكسل بسبب إضراب مرتقب    حين احتفل الإعلام الجزائري بدور جنود جيش الجزائر في القتال إلى جانب قوات بشار الأسد وقتل السوريين    المغرب يسجل عجزا في الميزانية ب3.9 مليار درهم في بداية العام    الشرطة المغربية تعتقل كويتيا متورط في جرائم مالية واقتصادية    حادثة سير تقود إلى حجز كمية مهمة من الكوكايين والأقراص المهلوسة    لغز اختفاء مروان المقدم في عرض البحر.. الوكيل العام للملك يدخل على الخط وينهي اعتصام شقيقه    رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي على رأس وفد وازن قريبا بالرباط و العيون    السيسي وملك الأردن يؤكدان وحدة الموقف بشأن غزة    وهبي للعدالة والتنمية: لو كنت في المعارضة لعرفت أين سأذهب بأخنوش الذي تتهمونه بتضارب المصالح    تداولات البورصة تنتهي ب"الأخضر"    إسبانيا تمنح المغرب قرضًا بقيمة 750 مليون يورو لاقتناء 40 قطارًا    الدريوش تستقبل وفدًا برلمانيًا لمناقشة قضايا الصيد البحري بإقليم الناظور…    مرور أول شاحنة بضائع عبر تاراخال    جماعة طنجة تخصص 530 ألف درهم لتعزيز الإشعاع الثقافي والفني    النقابات الصحية تستنكر تهريب الأنظمة الأساسية من النقاش والتوافق والتعيينات بدون مساطر    «سفينة من ورق» لمحمد حمودان تسبح في طنجة    حركة "حماس" ترفض لغة التهديدات    الربيعة: المعتمرون غير مطالبين بالتلقيح.. وعلاقات المغرب والسعودية استثنائية    "التسويف وتعليق الحوار القطاعي" يغضبان نقابات تعليمية بالمغرب    مليلية تسجل حالات إصابة بالحصبة    توقيف سائق شاحنة مغربي بالجزيرة الخضراء بسبب القيادة تحت تأثير الكحول    القاهرة تحتضن قرعة بطولتي الناشئين وسيدات الفوتسال المغرب 2025    أزمة القطيع بالمغرب تتصاعد والحكومة في سباق مع الزمن قبل عيد الأضحى    سعيدة فكري تطلق جديدها "عندي أمل"    حقيقة طلاق بوسي شلبي من محمود عبد العزيز دون علمها    منخفض جوي يقترب من المغرب وتوقعات بعودة الأمطار والثلوج    المعهد الفرنسي بتطوان ينظم "ليلة الأفكار"    مباحثات عسكرية مغربية أمريكية حول الأمن والتصدي للتهديدات الإقليمية    ليبيا.. وزير في حكومة الدبيبة ينجو من محاولة اغتيال    "الكونفدرالية": لا جدوى من تقارير مجلس الحسابات إن لم تتبعها محاسبة حقيقية    27 قتيلا حصيلة حوادث السير بالمدن    إبراهيم دياز يعود بقوة بعد الإصابة    بعد المغرب.. تفشي الحصبة "بوحمرون" في الولايات المتحدة الأمريكية    الدكتور عميريش مصطفى: التلقيح يعد الوسيلة الوحيدة والأكثر فعالية للوقاية من داء الحصبة    نصف المتوجين بجائزة الكتاب العربي من المغاربة    المفتش العام للقوات المسلحة الملكية ورئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية يشيدان بدينامية التعاون العسكري بين المغرب والولايات المتحدة    سبعة مغاربة وأردني ولبناني وسعودي ومصريان يفوزون بجوائز ابن بطوطة لأدب الرحلة 2024 – 2025    أشرف حكيمي.. ملك الأرقام القياسية في دوري أبطال أوروبا ب 56 مباراة!    كوريا الشمالية: "اقتراح ترامب السيطرة على غزة سخيف والعالم يغلي الآن مثل قدر العصيدة يسببه"    "دوزيم" الأكثر مشاهدة خلال 2024 وسهرة رأس السنة تسجل أعلى نسبة    لافتة "ساخرة" تحفز فينيسيوس في فوز ريال مدريد على سيتي    جامعة الدول العربية ترفض التهجير    بعد الانتصار المثير علي السيتي... أنشيلوتي يعتذر لنجم ريال مدريد البديل الذهبي … !    الاتحاد الدولي للملاكمة يتجه لمقاضاة اللجنة الأولمبية على خلفية مشاركة الجزائرية إيمان خليف في باريس 2024    الاتحاد الدولي لألعاب القوى يلزم العداءات ب "مسحة الخد" لإثبات أنَّهنَّ إناث    إصابة عامل في مزرعة ألبان بولاية نيفادا الأمريكية بسلالة جديدة لإنفلونزا الطيور    الصحة العالمية: سنضطر إلى اتباع سياسة "شدّ الحزام" بعد قرار ترامب    ‬"أونكتاد" تتفحص اقتصاد المغرب    زيارة رئيس الاتحاد العربي للتايكوندو السيد إدريس الهلالي لمقر نادي كلباء الرياضي الثقافي بالإمارات العربيةالمتحدة    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    الشيخ محمد فوزي الكركري يشارك في مؤتمر أكاديمي بجامعة إنديانا    والأرض صليب الفلسطيني وهو مسيحها..    جامعة شيكاغو تحتضن شيخ الزاوية الكركرية    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوطان خارج التاريخ.. جدران الكراهية
نشر في الجسور يوم 11 - 04 - 2019

حسن العاصي / كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك
تعكس الأحداث التي تجري في المنطقة العربية وضعاً كارثياً، خاصة حالة الصراع الديني والمذهبي والعرقي، كما تعبّر عن تحولات خطيرة تحدث في مختلف القطاعات في البلدان العربية، خاصة في الجانب السياسي والاجتماعي. فعلى الرغم من أن الصراعات المذهبية والفكر التكفيري يعود إلى عصور قديمة، إلا أن تزايد أعمال العنف وتصاعد خطاب الكراهية، وسياسات التحريض والإقصاء في الأعوام الأخيرة، ينذر بقدوم ما هو أقبح، ويفرض توقفاً أمام هذه الظاهرة لتحليلها وفهمها ومقاربتها.
هذا يدلل في جانب منه، على أن التعايش العرقي والديني والاجتماعي في العالم العربي بين أبناء البلد الواحد كان هشاَ وضعيفاً، وأن العلاقة التي حكمت الغالبية مع الأقليات العرقية والدينية كانت نسقاً مضغوطاً بأنظمة مستبدة تفتقد العدالة، اتبعت سياسات الإخضاع مما أحدث فجوات اجتماعية بين المواطنين. وفي تفاعلات تاريخية محددة، ظهر أثر هذه السياسات بصورة دموية مريعة من القتل والتطهير العرقي، وانتهاك المحرمات، أدت إلى حدوث حروباً أهلية. كل ذلك تم بدفع وشحن سياسي وإعلامي، ودعم مادي ولوجستي وتوفير الغطاء من قبل أنظمة عربية ديكتاتورية، وأحزاب وجماعات عنصرية متشددة. وهو ما يفسر كل هذه الحملات من الكراهية والتحريض الديني والقومي والمذهبي عبر وسائل الإعلام، وعبر خطابات القادة السياسيين والنخب الفكرية والثقافية، ومن قبل رجال الدين.
كثير ومرعب
تغيب الإحصائيات المتعلقة بمستوى الكراهية في العالم العربي، كما تغيب البيانات حول كل شيء، إلا ما يتعلق منها بالأجهزة الأمنية التي تحرص على معرفة كمية الأوكسجين التي يستهلكها كل مواطن يومياً. لا يوجد إحصاءات في منطقة لا تتعامل-للآن- بجدية ومسؤولية مع قضايا مثل الكراهية ولا مع إحصاء الظواهر الاجتماعية عموماً.
لكن لا يخفى على أحد هذا الكم المرعب من التطرف والتشدد والتعصب الأيديولوجي الديني والمذهبي والعرقي المنتشر في المنطقة العربية، الذي أنتجته السياسات البليدة للأنظمة العربية المستبدة التي همشت المواطنين وأقصتهم عن المشاركة، وأكرهتهم على الخضوع لإملاءاتها. ووظفت أدواتها من الأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام في نشر خطاب الكراهية، ورفض الأخرين بناء على معايير عرقية ودينية ومذهبية، بهدف إحداث شقاق وفتنة وتناحر تتحكم به الأنظمة وتستعمله في تحقيق مأربها. أباحت بعض الأنظمة العربية الاعتداء على معتقدات بعض الشرائح الاجتماعية أو الجماعات الدينية أو الطائفية أو الأقليات العرقية، وهذا يعني أن هناك شعوباً كاملة تشربت أفكار التكفير والإقصاء للآخرين، وتعتبر الإساءة والظلم والتنكيل وإطلاق الشتائم بحق كل المخالفين، بل وقتلهم، هو أمر طبيعي لا يجب أن يثير الاستهجان.
ظاهرة تاريخية
استفحال ظاهرة الكراهية في العالم العربي تدعو إلى الانغماس في فلسفتها وتفكيك مكوناتها، وتحليل هذه الإشكالية بتأنٍ من دون استخفاف ولا استسهال، وهي مهمة النخبة من المفكرين والمثقفين.
ظاهرة الكراهية لها جذورها التاريخية في عمق تربة التاريخ البشري. فلم تبدأ حملات الكراهية في العالم العربي، بين أبناء الأمة الواحدة أو القطر الواحد مع تطور التكنولوجيا وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، كما يظن البعض، بل كل ما فعلته هذه الوسائل أنها أسقطت اقنعة الطهارة والقدسية والمثالية عن كافة الوجوه التي استعرض بها أصحابها الشرف والمروءة والمحبة. وكشفت وسائل التواصل عن أقبح مكنونات الشخصية العربية، وأبانت العديد من الظواهر السلبية المقيتة التي استوطنت الجسد العربي كالخلايا السرطانية. أخطر هذه الظواهر هو خطاب الكراهية الذي يتمدد في المنطقة العربية وينتشر مما سيتسبب بكارثة لم يعهد العرب لها مثيلاً، إن لم يتم وقف شامل وكامل لهذا الخطاب بكافة مستوياته، وكذلك معالجة مسبباته.
ما يحدث من اقتتال طائفي واصطفاف مذهبي وفرز مناطقي في الكثير من الدول العربية، ما هو إلا نتيجة طبيعية للشحن العنصري المتواصل ولحملات الكراهية والتحريض على العنف ضد الآخر، يقوم بها أفراد وجماعات ودول ترى أنها وحدها تمتلك الحقائق، وعلى الآخرين الانصياع لها والانقياد لرؤيتها دون نقاش.
سيكولوجيا الكراهية
إن مصدر كافة الشرور غير المرئي هو العقلية المعقدة المركبة لبعض الأفراد الذين يبدون في غاية الوداعة، وهو أيضاً كامن في السياسات المتبعة من بعض الأنظمة والجهات القهرية القميئة، التي تظن نفسها تحارب الإرهاب، بينما هي في حقيقة الأمر تغذيه وتسمنه. هذه العقول تمتلك وسائل وأدوات تنشأ عنها انفعالات ذهنية مفرطة تفوق مقدرة أصحابها على التصريف، فتتحول رويداً رويداً من مشاعر ناعمة وأفكار ضبابية، إلى أفكار صلبة وأيديولوجية حجرية، ثم سلوكاً عدوانياً متطرفاً.
حتى الوازع الأخلاقي والديني والمجتمعي عند هؤلاء يبدو أنه في حالة من السبات غير النشط. ويعتبر علماء النفس أن الوازع عند الأفراد ما لم يكن نشطاً اثناء مرحلة التحضير والاستعداد، فإنه يفشل في التأثير على قرار الفعل وتنفيذه. فربما تصادف إنساناً قد تلقى تربية أخلاقية من عائلته ومجتمعه، ويمتلك تفهماً ووعياً للقيم الأخلاقية وللمعايير التي تحكم ثقافة المجتمع، وتجد أنه يظهر الحنان والمودة لمن حوله، ومع ذلك قد يمارس هذا الإنسان التعذيب الشنيع والقهر على إنسان آخر، وقد يكون قاتلاً للأطفال دون التخلي عن صفاته الأخلاقية.
إن التنشيط المتكرر ذهنياً والمتواصل لفكرة إقصاء الآخرين أو العدائية نحوهم، من قبل بعض الناس تجاه البعض الآخر في محيطهم الاجتماعي، قد يؤدي إلى سلوك متهور مفرط في شدته. ربما هذا ما يفسر استعداد بعض الأفراد الذين تعرضوا إلى الإقصاء لسنوات طويلة للقتل أكثر من سواهم من الناس الطبيعيين. وهو بالطبع ما يفسر أيضاً لجوء الناس الذين اعتادوا على ثقافة العنف إلى القتل لأسباب تبدو سطحية.
إن وقوف المجتمع وهيئاته لمراقبة العنف بكافة مستوياته وتنوعه دون تدخل، بل في قبول العنف والموافقة عليه في بعض الأحيان، هو الذي يخلق الظروف الملائمة للقتلة.
إن الشبكات الذهنية والسلوكية والأخلاقية التي تربط المخلوقات البشرية فيما بينهم، هي في الواقع شبكات اجتماعية تستلهم ضوابطها من التزامنا بالمعايير التي تنص على أن ما يجعل كوننا بشراً هو ما نقول وما نفعل، فأدوارنا هي ما يحدد هويتنا.
منابت الكراهية
إن استعباد الإنسان للإنسان والحروب التي قامت، والانتهاكات التي ترتكب بصفة يومية بحق الشعوب والفقراء والمظلومين، هي نبت مسخ شرير بذرته الكراهية.
من أهم مصادر ثقافة الكراهية هو الاختلاف العرقي والمذهبي والفكري والقبلي والعقائدي والأيديولوجي. وأحياناً يشكل تضارب المصالح والسعي نحو الحصول على المنافع من مال وجاه، مصدراً وسبباً للكراهية. الغيرة والحسد سببان كافيان للكراهية، وكذلك هو غياب تكافؤ الفرص بين الناس. سيادة الاحتكار للمصالح والمكاسب والخيرات والامتيازات لفئة معينة من الناس يؤجج الكراهية. وفرض فكر واحد وموقف واحد ورؤية واحدة للأمور يجلب الكراهية. وكذلك حال قيام فئة باستغلال فئة اجتماعية أو عرقية أو دينية أخرى. الشعور بالاستعلاء والتجبر والظلم من قبل فئة تجاه فئة أخرى تشعر بالدونية والانحطاط وعدم المنفعة يفجر الكراهية. الصراع الطبقي والتباين الكبير في مستويات المعيشة بين الفقراء والأثرياء يكون سبباً للكراهية. كذلك انعدام العدالة الاجتماعية، والتي تظهر آثارها الكارثية في غياب البنية التحتية في الأماكن المهمشة. الاستبداد والطغيان إن كان من قبل الأنظمة أو إن صدر من أفراداً عاديين يعمق الإحساس بالكراهية والبغض. وفي العموم فإن كافة الأسباب التي تقف خلف الحروب والثورات يكون الكره أحد أهم الدوافع والأسباب.
فلسفة الكراهية
بلا شك أن أفكار البشر ومعتقداتهم وقناعاتهم وثقافتهم مسؤولين مسؤولية رئيسية مباشرة -وليست وحيدة-عن الطريقة التي تتكون فيها مشاعرهم وتنمو وتتبلور، حتى تشكل الأفعال التي يرتكبها الأفراد. وهكذا فإن الأفكار والأيديولوجيات التي تنطلق من مصالح معينة تجاه تحقيق غايات محددة، فإن أنجح الوسائل وأكثرها نجاعة هي التي تستخدم الكتلة الجمعية “الجماهير”. إذ أن الدول والأحزاب والجماعات تلجأ إلى سلاح التضليل الإعلامي والتهييج الجماهيري والتحشيد الشعبي، وتتحكم بهذه الكتل وتسيطر عليها وتدفعها باتجاهات تختارها بدقة، ثم يصبح التطابق الثقافي والفكري سيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الخاضع والمستبد، بين الديكتاتور والقطيع. هذا تماماً ما حصل مع جميع الطغاة الذين أوصلوا شعوبهم لمرحلة إلغاء التمايز، بحيث يتم توزيع نسخة واحدة من الوعي للجميع، وهي بطبيعة الحال نسخة عقل الحاكم، وبهذا حين يصعد الحاكم إلى المنبر، فإنه ينطق بما يجول بعقل الجماهير. تماماً هذا ما فعله الزعيم النازي “أدولف هتلر” حين خاطب الألمان قائلاً إن من حميد بركات الله كره الأعداء، ولم يجد هذا القول أي غرابة لدى الجماهير الألمانية المحتشدة وهي تصفق له. وهذا ما أقدم عليه جميع الطغاة الاستبداديين وهم يجرون شعوبهم نحو المهالك.
الوجه الآخر لفلسفة الكراهية نجدها في المنافع والمصالح وفي دهاليز السياسة. عدائية استحكمت علاقة العربي بالعربي وعلاقته مع الآخر، وهي علاقة اتخذت دوماً سياق النبذ والصراع والتناحر والتعارض والتناقض والرفض والاقتتال. حروب وصراعات تحت راية الجهاد ضد الغربي الاستعماري الصليبي الكافر مرة، وباسم المذهب والخروج عن الملة واحتكار التفسير والاجتهاد ونقاء العقيدة مرة أخرى.
الطائفة ليست هوية دينية، لأن لكل دين أتباع، والطوائف ظهرت بسبب الصراعات على السلطة، لذلك فإن الحروب الطائفية الحالية هي حروب سياسية سببها التنازع على السلطة، وليس الصراع على الدين.
كل التناحر والصراعات والحروب التي أصابت المنطقة العربية وجوارها، دينية كانت أم مذهبية أم استعمارية أو عرقية، خرج منها كلا الطرفين المنتصر والمهزوم وهما محملان بالكثير من الكراهية في كل مرة. لم يذعن الخاسر لإملاءات الفائز، ولم يسامح ولم يعفو ولم يغفر ولم يستكين، بل تزايدت كراهيته وغضبه وتشددت أفكاره وتطرفت أفعاله. ومن كان النصر حليفه لم يتمكن من وضع حداً لكراهيته، بل تأصل الجشع في نفسه، وسعى نحو مزيد من الاستحواذ الذي استوجب جيوشاً متناحرة مرة أخرى.
ضمن هذه الزاوية الحادة يمكن قراءة الحروب الصليبية على المنطقة وما خلّفته من كراهية في المنطقة، وضمنها أيضاً يمكن أن نفهم الموقف من الصراع مع الكيان الصهيوني الذي أحدث واقعاً جديداً في المنطقة العربية، كانت نتائجه كارثية على الشعب الفلسطيني. هنا يمكن إسقاط كل الماضي أو نفيه أمام أحكام الحاضر والراهن العربي، حتى لا تصاب الأمة بالجمود والشلل والتقوقع في التاريخ، لكن لا يمكن بحال إسقاط ما فعلته الصهيونية من حرب إبادة ضد الفلسطينيين. يمكن التحرر من عقدة الاستعمار والانطلاق نحو المستقبل، لكن لا يمكن قراءة الحالة الفلسطينية إلا عبر الذاكرة وبواسطة استفتاء رأي التاريخ في النكبات والمآسي والمذابح التي عانى منها الفلسطينيين، وذاقوا الويلات وحنظل التشرد واللجوء، بسبب قيام الصهيونية طردهم من بلادهم.
شقاء الأمة
لعل أهم وأبسط الأسئلة في هذا السياق هي البحث عن الأسباب التي تكمن خلف شعورنا بالكراهية تجاه الآخرين. لماذا نكره؟ هل الكراهية موقف عقلي وفكري؟ كيف يتم توريث تعاليم الكراهية؟
إن من أسباب شقاء هذه الأمة أنها لم تتوقف يوماً كي تجري مراجعة لمنظومتها الفكرية، ومقاربة ونقد مذاهبها الفلسفية وخطابها الديني، بصورة علمية وحقيقية وشاملة، عبر حوار مع الذات ومع الآخر، وبين النخب الفكرية والثقافية، بكل هدوء ومسؤولية وموضوعية، بعيداً عن التشنج الفكري والتشدد الأيديولوجي والمواقف المسبقة. هذا لم يحصل، بل استهلك العرب وقتهم في البحث عما يفرقهم لا عما يوحدهم، حتى بتنا نسمع صحيات التكفير المتبادل بين المذاهب، ورُفعت شعارات البغض والغل بين الأعراق التي تعايشت بسلام عبر قرون مضت. وصلت سموم الكراهية إلى أبناء البلد الواحد وأفراد الدين والعرق والمذهب الواحد، فتحولت عموم المنطقة إلى ساحة اقتتال واسعة.
أين تكمن الينابيع التي روت بذرة الكراهية وقامت برعايتها كي تتحول إلى شجرة باسقة، التي أثمرت كل هذا الخراب والبؤس والشقاء الذي تحصده الشعوب العربية؟ الإجابة ببساطة تكمن في التاريخ والراهن العربي المثقل بالاستبداد والبؤس.
لا يمكن لفكر يؤمن بالكراهية أن يصلح للتعايش بين الناس، ولا يمكن لإنسان مشبع بالعدائية تجاه الآخرين أن يكون نزيهاً وعادلاً في مقاربته للأشياء.
الكراهية لا تُخلق مع الإنسان، بل يتم اكتسابها من البيئة الاجتماعية، وبفعل الظروف والثقافة السائدة، هي مثل أي بذرة يتم زرعها في تربة مناسبة بأي مكان، وتحمل قابلية النمو والتصلب بحسب الظروف المناخية واهتمام المزارع. ولا بد للكراهية من أسباب، لكن هذه الأسباب لم تكن يوماً أسباباً أخلاقية أو إنسانية، لكن الناس تُقدم على الكراهية بفعل هيمنة الأوهام والقناعات والأفكار والموروث على عقولهم، وهذه الأوهام تتسم بالعدائية والجنوح نحو فرض السيطرة على الآخرين والرغبة في امتلاكهم، وإخضاعهم وتدميرهم أو تحييدهم بصورة تامة.
اللافت أن علاقة العرب فيما بينهم تتسم بكثير من الكراهية في معظم الأحيان، والحقيقة لا يمكن ملاحظة هذه الظاهرة عند شعوب وأمم أخرى بهذا التشنج، حتى العرب المقيمين في الغرب غير مستثنيين من هذا التصنيف. وكراهية الشعوب العربية نحو الآخر تتجه دوماً نحو الغرب، الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، ولا يشعرون بالكراهية مع بلدان أخرى تختلف معهم في العقيدة والدين مثل اليابان أو كوريا أو الصين والهند. وهذا له ما يبرره لأن الممارسات التي قام بها الاستعمار بدء بالفرس والرومان مروراً بالصليبيين إلى الاستعمار الغربي، تركت خلفها الكثير من الذكريات المقيتة، حيث حاولوا عبر القرون إبادة الحضارة العربية وطمس اللغة والهوية. ثم ما تفعله الولايات المتحدة من تقديم دعمها الكامل غير المشروط لإسرائيل العدو الرئيسي للشعوب العربية، وسرقة خيرات الأمة وثبيت الديكتاتوريات العربية.
صناعة الكراهية
تقوم بعض الأطراف والجماعات بإشعال نار الفتنة وتأجيج الكراهية بين الدول أو بين الجماعات العرقية أو المذهبية أو الطائفية والقبلية، أو بين القوى والأحزاب السياسية، بشكل مدروس ومخطط له بعناية فائقة. ويؤشر هذا التحشيد للبغضاء المقيتة على أزمات فكرية سياسية واقتصادية واجتماعية مؤجلة الاستحقاقات.
إن الإرهاب كأيديولوجية وسلوك عدائي متطرف، يعود في الأصل إلى منظومة البيئة الاجتماعية والثقافية والفكرية التي نما فيها وترعرع المتطرفون. إن الأشخاص الإرهابيون والقتلة والكارهون والساخطون والعنصريون والمتشددون، هم أفراد أسوياء -معظمهم- ومواطنين عاديين، غير مصابين بأمراض عقلية أو نفسية، وربما لا يعانون مشاكل اجتماعية ولا أزمات اقتصادية، لكنهم متخمين بالكراهية تماماً، معبئين بالحقد والعدائية، يمتلكون شعوراً عميقاً بالقهر والظلم والتهميش، ويظهرون قدراً كبيراً من الاشمئزاز والاستعلاء نحو الآخرين.
هؤلاء الأشخاص الإرهابيون أو الممتلئون بالحقد والغضب المتشدد، يعتقدون أنهم أفضل وأهم من بقية الأفراد، لكن الآخرون ينظرون لهم على أنهم غير أسوياء، لذلك قد يكون غالباً الإرهاب هو انعكاس لحالة الفشل والغضب. أيضاً فإن جميع المواقف والسياسات والرؤى إن صدرت من أفراد أو من جماعات أو من دول، إن ذهبت إلى المبالغة القصوى في تقدير الخطأ والصواب، فإنها تقع في المحظور الفكري وتؤسس لثقافة الكراهية والإرهاب. وقد تصل هذه السلوكيات إلى مرحلة تلتبس فيها الرغبات الكامنة بالاستعلاء والتميز والمكبوتة، بذرائع مكافحة التطرف والقضاء على التشدد ونشر السلم الاجتماعي، فتصبح عملية مواجهة الإرهاب هي إرهاباً بذاتها.
صناعة الكراهية تعتمد القولية والتزوير والافتراء والاختلاق والخلط، وما أن يدخل رأس الكراهية من باب أي مجتمع حتى يمزقه ويحوله من كيان متماسك، إلى فرق وطوائف وقبائل تتناحر باسم الدين والقومية والوطنية والأيديولوجية.
يقوم المصنعون للكراهية بتلفيق الاتهامات للآخرين المستهدفين وتزييف تاريخهم. وفي العديد من الدول يُنظر إلى الأقليات على أنهم مواطنون غير موثوقين، ثم يجري تهميشهم وهو ما يخلق أجواء العدائية. ولا يضيّع هؤلاء المصنعون فرصة لكي يستغلون الشائعات ويعملون على تأويل الأقوال وإخراجها عن سياقها الأصلي، وتحميلها معان وتحريفها بما يغذي الكراهية ويحرض على العنف. ويصيغون الشعارات والخطابات التي تدعو للحذر من الآخر وتشويه صورته، وإحداث حالة انفعالية ضده تعتمد على الخلط والإرباك والتهييج. نجد دوماً من يستفيد من خطاب الكراهية، يغذي هؤلاء البغض والتحريض، ويستغلون التوترات الدينية والمذهبية والفكرية والسياسية لتحقيق أهدافهم التي تعتمد على إقصاء الآخرين.
التصدي للمحرقة
مواجهة صناعة الكراهية يتم عبر معالجة قضية أوقات الفراغ لدى الشباب، وإشغالهم بأنشطة إيجابية تعود بالمنفعة عليهم وعلى المجتمع، وتحصينهم ثقافياً وتدريبهم على ممارسة النقد الفكري، وتشجيعهم على العمل التطوعي، وتلقينهم قيم التسامح والعفو وقبول الاختلاف مع الآخرين، وتعزيز الانتماء للوطن في نفوسهم، وتقوية الشعور بالمسؤولية فيهم. كما يجب توفير فرص العمل المناسبة للشباب، وتخفيض نسب التسرب من المدارس، ومعالجة قضايا البطالة والفقر، وتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة كسبيل
لا غنى عنه لمواجهة الإرهاب والعنف والأيديولوجية المتطرفة.
بلا شك، إن الحد من سيل الكراهية الجارف في المنطقة العربية وجوارها، يتطلب خططاً طارئة لمواجهة الموروث القبلي البغيض. وتعزيز قيم التضامن والاحترام والتوافق المجتمعي، ونبذ العقلية الأنانية والانتهازية والمنافقة. والقيام بإصلاحات سياسية اقتصادية واجتماعية شاملة، يشارك فيها الأفراد والهيئات والاتحادات والنقابات والمؤسسات والدولة، لتحقيق تعايش سلمي مجتمعي متكافئ ومساواة وعدالة، تُخرج الناس من بدائيتهم، وتُظهر أجمل وأنبل ما في نفوسهم.
الحل يتطلب مواجهة الاستبداد السياسي لبعض الأنظمة العربية، وبناء دولة القانون والمواطنة التي تضمن العدالة والحرية والمسائلة لجميع مكونات المجتمع، وتأسيس ثقافة ووعي مختلفين يرتكزان على استعمال العقل والعلم، والإيمان بالحوار والتعايش السلمي بين الجميع، وتجاوز الماضي التعيس، قبل قدوم المحرقة العظيمة.
وحدهم العرب مسؤولين
حتى الاستعمار الغربي ذاته سقط في الحروب والتناحر فيما بين دوله في فترات تاريخية ماضية، وخاضت دول أوروبية حروباً دينية وعالمية فيما بينها، ذهب ضحيتها ملايين البشر، وخلّفت الخراب والهلاك، واستطاعت أوروبا تجاوز كل هذه المآسي، فيما عجزنا نحن عن فعل ذلك.
في الفترات التي نقل الغرب عنا أمهات كتب العلوم والفلسفة والفلك والطب والكيمياء، وتطور وازدهر بعلومه واختراعاته، وأضاف إلى الحضارة الإنسانية منجزات متعددة، اكتفى العرب بالتوقف والنظر والرثاء والهجاء والنواح واللطم. نعم الاستعمار غير نزيه ولا بريء، لكن السؤال الكبير هنا هو لماذا نجح الغرب اصلاً في استعمارنا؟ ولماذا كانت الفاتورة باهظة جداً؟ ولماذا وكيف تمكنت أمم أخرى عانت كما عانينا من شر وسوء وفساد الاستعمار، من القفز فوق الماضي الهالك وجعله خلفها، ومضت في درب النهوض والتطور، فيما العرب لا زالوا عالقين وتائهين في دهاليز التاريخ، مكبلين بأغلال الحسب والنسب، مقيدين بأفكار ومفاهيم لم تعد تصلح حتى لتسمين العجول.
مازال البعض منا يكرر ويصرخ أننا ما زلنا ضحايا للمؤامرة الغربية والغزو الثقافي، لكن وجود الكيان الصهيوني جاثماً فوق أرض فلسطين منذ عقود طويلة يؤكد بصورة قطعية حالة العجز والهوان الرسمي العربي. لهذا فالعرب هم وحدهم المسؤولين عن سقوط ثقافتهم وانحسار دورهم.
لقد عجز العرب عن النهوض، وانهزموا من الداخل بجهلهم لا بعلم وتقدم الأخرين فقط. إن أسباب ازدهار الثقافة الغربية ليس العرق ولا الدين، لا الطائفة ولا القبيلة، إنما التفوق العلمي والإنجازات التقنية والرقي الحضاري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.