"أحسن طريقة للدفاع هي الهجوم"، هي القاعدة التي تعودنا سماعها من طرف نقاد ومدربي ومحللي كرة القدم العالمية، في اشارة الى توجه الكرة الحديثة نحو اعتماد فلسفة اللعب الهجومي كأحسن وسيلة لتحقيق الفوز، وهي نفس القاعدة التي تحولت إلى طريقة تفكير ونهج سلوكي للكثير من الناس في مختلف المجالات منذ منتصف القرن الماضي، لكن التجارب والوقائع بالأرقام بدأت تشير الى تحول في المفاهيم والخطط التكتيكية في اتجاه الاستناد على المنظومة الكروية الدفاعية القوية التي تغلق اللعب وتضيق المساحات على المنافس وتمنع تلقي الأهداف، قبل التفكير في اللعب الهجومي الذي يفتح الثغرات ويعرض الفرق والمنتخبات لهجمات معاكسة تكلف الخسارة أمام نجوم الفرق والمنتخبات الكبرى القوية. صحيح أن نادي أتالانتا الإيطالي بفلسفته الهجومية مثلا يحتل المركز الثالث في ترتيب الكالشيو بفضل هجومه الساحق الذي سجل لحد الأن 93 هدفا، لكن اليوفي هو الرائد بأحسن خط دفاع لم يتلق سوى 32 هدفا في 32 مباراة، كما أن المان سيتي يحتل المركز الثاني في البريميرليغ، رغم أنه صاحب أفضل هجوم ب91 هدفا، وثاني أفضل خط دفاع بعد البطل ليفربول الذي سجل 76 هدفا ، لكن دفاعيا الريدز كان أفضل بتلقيه 27 هدفا فقط في 35 مباراة، وهو نفس الأمر الذي ينطبق على الدوري الاسباني الذي يحتل فيه الريال صاحب أفضل خط دفاع ب21 هدفا المركز الأول على حساب البارسا الذي يبقى أفضل خط هجوم بثمانين هدفا قبل 4 جولات من نهاية الموسم. هذه الأرقام وأخرى كثيرة تثبت بأن صاحب المنظومة الدفاعية القوية في الوقت الراهن هو الأقرب الى الصلابة ومن ثمة الفوز بالمباريات والتتويج باللقب، خاصة اذا حضر التوازن الدفاعي والهجومي في الفريق بلاعبين متميزين بدنيا وفنيا، فرديا وجماعيا في كل المناصب والخطوط. للعلم فإن مقولة "الهجوم أفضل وسيلة للدفاع" أطلقها القائد الفرنسي نابليون بونابرت أثناء حروبه، عندما كان ينظر إلى المبادرة في الهجوم على الخصم أحسن طريقة لكسب المعركة، وقام بتوظيفها المدربون بعده لأن كرة القدم ينطبق عليها نفس مبدأ الحروب من حيث التنافس على الفوز والدفاع والهجوم على الخصوم، حيث نجح الأسلوب منذ السبعينات مع برازيل 1970 في مونديال مكسيكو الذي كان يتمتع بهجوم كاسح سجل أربعة أهداف في النهائي على منتخب ايطالي استند على منظومة دفاعية قوية، وهولندا سنة 1974 التي بلغت نهائي كأس العالم بفضل خطة الكرة الشاملة التي اعتمدها رفقاء كرويف، ومن بعدهم منتخبات وأندية حصدت البطولات والألقاب باعتماد نفس الفلسفة الكروية الهجومية. مع مرور الوقت، تغيرت المفاهيم وتطور الأسلوب الهجومي باعتماد الدفاع القوي والاستحواذ وسرعة قطع الكرات من خلال الضغط العالي على المنافس الذي مارسه الألمان والإسبان والريال وبرشلونة ثم السيتي وليفربول اليوم، حيث يبدأ الفريق بالدفاع والضغط في منطقة الخصم لتجنب الخطر المحتمل، وهو الأمر الذي يتطلب لياقة بدنية عالية وانتشار جيد للاعبين فوق أرضية الميدان وغلق المساحات على المنافس، لكن هذا الأسلوب يشترط متطلبات قد لا تتوفر لدى كل اللاعبين والأندية والمنتخبات، ما أدى الى توجه أغلب الفرق والمنتخبات نحو تطبيق معادلة جديدة عنوانها "الدفاع أفضل وسيلة للهجوم" مثلما فعل المنتخب اليوناني في يورو 2004، وإيطاليا في مونديال 2006، ثم فرنسا في المونديال الروسي سنة 2018 عندما توجوا بفضل منظوماتهم الدفاعية القوية. لقد تبين بأن النظرية "الدفاعية" الجديدة لا تقل نجاعة عن نظرية نابليون "الهجومية"، سمحت للمدربين بمقارعة الكبار من خلال منظومة دفاعية متكتلة قوية تعتمد على هجمات معاكسة سريعة تتطلب خطوطا متوازنة وعناصر قوية في مختلف المناصب على غرار ليفربول الذي يتشكل عموده الفقري من الحارس البرازيلي البارع أليسون، وقلب الدفاع الهولندي فان دايك ثم فابينيو و فيرمينو مع قوات ضاربة في الرواقين بقيادة أرنولد وصلاح من جهة وروبرتسون وساديو ماني من جهة أخرى، في وقت ضيع السيتي لقبه بسبب ثغرات في دفاعه، رغم أن هجومه كان ولا يزال الأقوى في الدوريات الأوروبية الخمسة الكبرى حاليا ب91 هدفاً. الكثير من مدربي المستوى العالي توجهوا اليوم نحو البحث عن توازنات جديدة في الكرة تجاوزت نظرية نابليون، وراحت تستند على النظريات الحديثة لكلوب وزيدان وغوارديولا في خوض المعارك الكروية التي تستعمل نفس أساليب الهجوم والدفاع والتكتل والانتشار والتراجع والتقدم وكل المصطلحات التي تستعمل في الحروب والمعارك. *عن القدس العربي