أَنْ تواجه فكر الجماعات والتيارات الراديكالية المتطرفة ، فأنت بالضرورة أمام مخاطر جمَّة ، وبحاجة ماسة إلى ثمة إحداثيات تمهد لك الطريق لتعرف مرجعيات هذا الفكر الذي تكون في ظل ظروف خاصة اجتمعت جميعها لتشكل عقلية جامدة وثابتة الرأي وربما ذهنية لا تحترف النقاش والمجادلة وإقامة الحوار ، لذا فمنتوجها الفطري هو الإرهاب وممارسة العنف وإطلاق التحريم والتكفير بحق كل مخالف أو جالس على شاطئ آخر غير شاطئ تلك المعتقدات والأفكار . وتكفي ضغطة زر على محركات البحث الإلكترونية لتتعرف على عدد وحجم وانتشار الفرق والجماعات والتيارات التي اتخذت الأفكار الدينية ركيزة أساسية لتحقيق المطامح السياسية والمكاسب الشخصية ، وستكتشف أن حجم الانتشار يتسع ليشمل الحدود الماليزية شرقا حتى تخوم الجمهورية الإسلامية الموريتانية غربا، وجميعها فشل في مواجهة العدو الصهيوني رغم مئات بل آلاف الكتب التي أصدرتها هذه الجماعات وملايين الإسطوانات الصوتية التي نددت بالعدو الصهيوني وما يرتكبه بشأن الشعب الفلسطيني ، إلا أنها راحت تواري خيباتها التاريخية والفشل في المواجهة إلى تصويب نيران داخلية صوب الشعوب العربية المسلمة أيضا ، مستخدمة في ذلك بعض الحيل السيكولوجية الفرويدية مثل حيلتي التعويض والتبرير ، رافعة شعار العدو القريب خير وأولى من العدو البعيد قاصدة بشعارها ضرورة محاربة الحكومات العربية الإسلامية لأنها من وجهة نظر قيادات هذه الفرق والجماعات حكومات غير رشيدة وبعيدة عن الحكم الإسلامي. وإحدى إشكاليات مواجهة الإرهاب معرفة كيف يفكر هؤلاء الموتورون وكيف تدفعهم رغباتهم في إقصاء الآخر بل وتهميشه إلى حد الإلغاء ، وهذا الذي يدفعنا نحن إلى تشريح المرجعية الفكرية التي تؤطر فكر المتطرفين وأمراء الفتنة وقيادات الإرهاب الذين يعيثون في الأرض فسادا وإفسادا تحت غرور يودي بهم إلى حتف قريب. والمستقرئ لتاريخ الحركات الدينية السياسية في الوطن العربي الضاربة في الانتشار بعمق في بلدان الوطن العربي يستطيع أن يدرك كنه المعتقد الرئيس لفكر الجماعات الإسلامية بمسمياتها المتعددة ، وهو فكرة احتكار الدين وبمعنى أكثر دقة وتوصيفا وكالة الدين ، وهذا الملمح الرئيس يشير إلى أن فئة بعينها هي التي تملك حق احتكار المعرفة الدينية وإصدار القرار الديني الذي يوجه إحداثيات السياسة والمجتمع ويحرك عجلة الاقتصاد . ووفق هذا التوجه فإن الجماعات الراديكالية التي ظهرت على ضوء بعض مشاهد الخلل السياسي والاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي اتخذت المنابر الدينية سلاحا حصريا لتجنيد آلاف الشباب ومئات النساء من أجل اعتناق أفكارها ومبادئها والترويج لفكرة أن المجتمعات القائمة كافرة وهي أولى وأجدر بالقضاء عليها . وفي ظل الغياب الرقابي آنذاك من بعض الحكومات العربية بدأت تلك الجماعات في الانتشار الموجه والمخطط للمناطق الأكثر حشدا من ناحية كالجامعات والمدارس ، وإلى القرى والمناطق الأكثر فقرا واحتياجا اجتماعيا من ناحية أخرى ، وبدأت معركة خفية من جهة واحدة لتؤكد ضرورة التزام هذه الفئات الموجودة بتلك التجمعات بالتعاليم الإسلامية ، لكن التعاليم التي تتوافق وهوى تلك الجماعات والتيارات التي لم تفرق بين الدعوة إلى الفضائل ومكارم الأخلاق التي حض عليها الدين الإسلامي وتبيان مقاصد الشريعة الإسلامية السمحة الفطرية وبين التحريض على المواجهة بالعنف والقوة واستخدام السلاح في وجه كل من يتصدى لفكر الجماعات الدينية التي باتت مشتتة بين الواقع والخرافة. وبدأ تصاعد الاستقطاب لمعظم فئات المجتمعات العربية وشيوع التأويلات الفاسدة للنصوص الدينية والتركيز على أفكار دينية تنتمي لما يعرف فقهيا ب " فقه الحالة " ، والاهتمام الاستثنائي بالمظهر دون الجوهر لاسيما في العادات المرتبطة بالملبس والمأكل والمشرب وطرق الحياة الاجتماعية ، ولا يمكن إغفال الحقيقة التاريخية بأن بعض الأنظمة العربية سمحت بمساحات من الحرية لوجود وبقاء التيارات الراديكالية القمعية واستخدامها كفزاعة استراتيجية ضد الغرب لاسيما الولاياتالمتحدة الأميركية . وفي كل مرة تثبت التجربة على محدودية وقدرة هذه الطوائف والجماعات مثل الإخوان المسلمين والتكفير والهجرة والتبليغ والدعوة والسرورية والسلفية الجهادية والعائدين من أفغانستان وغيرها وعدم نضجها السياسي في القيادة بدليل استخدامها للعنف وأعمال القتل وكذلك حجم الانشقاقات بين صفوف قياداتهاوربما سعي بعض الأنظمة العربية قبيل اشتعال ثورات الربيع العربي لإيجاد بديل واحد دونها وهو الفوضى كان دافعاً قوياً لوصول جماعات موصوفة بالإرهاب التاريخي ، والأخيرة استطاعت أن تصل لسدة الحكم في اليمن ومصر وتونس في ظل ظروف استثنائية ربما من الصعب تكرار تحقق هذه الظروف مجددا أو وصولهم مرة أخرى إلى الحكم وخصوصا في مصر في ظل وعي تام وكامل بتاريخ تلك الجماعات السري وبممارساتهم السياسية التي يمكن توصيفها بالبلادة والاستلاب وأخيراً الإقصاء ، هذه الفوضى التي كانت أهم وأجدى الإحداثيات السياسية لجماعات الإسلام السياسي ، لذلك فالمحللون السياسيون لم يجدوا غرابة في المشهد السياسي طوال فترة حكم المعزول محمد مرسي وحتى عقب عزله شعبياً وسقوط تنظيمه الذي صار علانياً لآخر مرة في تاريخه ، والذي كانت الفوضى عنواناً صريحاً لفترته سواء في إصدار أحكام العفو الرئاسية عن القتلة والمجرمين وتجار الأسلحة ، أو من خلال الإهمال القصدي عن سيناء والتي غفل عنها طوعاً الرئيس السابق مبارك وكأن أرض الفيروز على موعد دائم مع التهميش والإقصاء والعزل التنموي عنها ، أو من خلال وجود مؤسستين حاكمتين ؛ مؤسسة الرئاسة الرسمية والتي لا يمكن الاعتراف بوجودها بدليل سقوطها السريع في يونيو 2013 ، ومكتب الإرشاد والذي بدا يدير اللعبة السياسية من الخلف حتى صار معلناً للجميع وقت اعتصام رابعة العدوية أنه كان المصدر الرئيس للتشريع السياسي في مصر . ورغم أن إعادة اجترار أحداث المشهد السياسي وقت حكم جماعة الإخوان والتي تمثلت في مصر باتت من الأمور غير المستحبة لأنها بالفعل مكرورة وتتسم بالرتابة وكثير من المصريين أسقطوا هذه الحقبة من تاريخهم الشخصي إلا أن للجماعة بوصفها الحاكم الفعلي لعصر المعزول محمد مرسي كرست لنبوءة الرئيس السابق مبارك في أن بديله هو الفوضى التي لم تكن خلاقة أبداً من خلال أعمال العنف والتخريب والتدمير وترويع الآمنين من المدنيين وأيضاً العسكريين ، حتى لحظتنا الفارقة اليوم نجد التنظيم الذي أحدثه حسن البنا في تاريخ مصر يشهد اضطراباً وفوضى تماثل فوضى المشهد الفكري لدى قيادات الجماعة . وربما حرص الجماعة على شيوع الفوضى في شتى أرجاء الوطن يجعلنا نسترجع مقولة الفيلسوف توماس هوبز عن الفوضى السياسية حينما قال : جرت العادة عندما يموت الملك في فارس في العصور القديمة أن يترك الناس خمسة أيام بغير ملك ، وبغير قانون بحيث تعم الفوضى والاضطرابات جميع أنحاء البلاد وكان الهدف من وراء ذلك هو أنه بنهاية الأيام الخمسة وبعد أن يصل النهب والسلب والاغتصاب إلى أقصى مدى فإن من يبقى منهم على قيد الحياة بعد هذه الفوضى الطاحنة سوف يكون لديهم ولاء حقيقي وصادق للملك الجديد . وتكون قد علمتهم التجربة مدى رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع إذا غابت السلطة السياسية. وحرصت التيارات والجماعات الإسلامية لاسيما في مصر خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي إلى استلاب فهم ونشر النصوص التراثية وتأويلها بما يخدم مصالحها أو يعزز من مواقفها السياسية والاجتماعية بسبب خوضها غمار التعايش السلمي بين فصائل المجتمع المصري لأول مرة بلا استبعاد أو تمييز أو حظر سياسي أو منع ثقافي ، ولكن سرعان ما يتحول هذا الاستقطاب إلى عملية استلاب فكري تستهدف أحيانا تعطيل عمل العقل أو فقد الثقة في الحاضر مما يجعل المواطن يركن دائماً إلى الماضي وفي الوقت الذي تغيب فيه المؤسسة الدينية دوراً وريادة وأخشى أن أبتعد بعيداً وأقول ومكانة حيث إن الشارع المصري بدأ يتساءل عن موقف المؤسسة الدينية الرسمية إزاء الأحداث السياسية خلال فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات. ورغم الثورة الفكرية التي واكبت إحداثيات الانتفاضة السياسية الشعبية في يناير 2011 والتي قادتها مجموعة من الشباب المتحمس غير المؤهل سياسيا أو المتمكن من القيادة المجتمعية أيضا إلا أن ذاتها التيارات الدينية بدأت تعيد إنتاجها من جديد عن طريق طرح منهج التفكير القائم على الثقة لا على الدليل ، وعلى حجر فهم النصوص الدينية على بشر محدودين . وربما انتهزت التيارات الدينية فرصة اللغط السياسي الذي كان يحيط ببعض الحكومات العربية وقت الانتفاضات الشعبية في مصر وسورية وليبيا واليمن وتونس بأداء تلك الحكومات فسعت إلى إظهار نفسها في دور حامي الشريعة والمناهض الرسمي لكل المحاولات التي تنتزع الصفة الإسلامية من الأوطان الإسلامية ، رغم أن المؤسسات الدينية الرسمية منوطة بهذا الدور ، لكن معظم المؤسسات الدينية الرسمية تخلت عن مسئوليتها التنويرية مما سمح لبعض التيارات الدينية التي كانت تعاني الاستبعاد الاجتماعي والإعلامي في وجود رسمي وشعبي لها . وبإزاء جدلية الشكل والعمق في تجديد الخطاب الديني وكيفية مواجهة فرق الفتن الطائفية والتيارات الرجعية التي تستخدم وتستغل الدين ستارا لمطامح سياسية وسعيا لمآرب شخصية ، يقف القائمون على أمر التجديد أمام غموض المسألة نفسها ، والتفكير بما هو نسبي يرتبط بواقع راهن وبمستقبل على وشك الاستشراف ، لذلك نجد كثيرين من القائمين على أمر التجديد من يهتم بشكل الخطاب وطرائق توجيهه وصياغته واللغة التداولية التي ينبغي أن يقدم بها ، بينما على الشاطئ الآخر نكتشف أناسا مهمومين بقضية العمق وهو بالقطع فخاخ موقوتة لأنها تتصل بقضايا فقهية قد تحدث لغطا وجدلا طويلا. وبرغم أن مسألة شكل الخطاب تعد أساسية أيضا في ظل انتشار فوضى استخدام المنابر على أيدي تيارات الإسلام السياسي فإن العمق هو أساس الخطاب وكنهه الأساسي ، وهذا يجعلنا نؤكد بضرورة توصيف الخطاب الديني على أساس أنه سلطة غير مطلقة وهذا يترتب عليه سعي الخطاب لتغيير وظيفته من النقل النصي إلى تحرير العقل وتنويره ومن ثم تثوير أفكاره ومضامينه ، وفتح أبواب الاجتهاد التي ظلت موصدة لفترات طويلة من أجل مطامع سياسية ، وتغير الوظيفة تجئ لخدمة مقاصد الإسلام . وبما أن الخطاب الديني الراهن دخل طواعية أو من منطق الكراهة معركة الانحسار أو الانتصار فالقائم على أمر تجديده أمام رهان جديد وقاسٍ وهو إقصاء المنتفعين من هذا الخطاب لخدمة مطامح شخصية ومآرب ضيقة . وهذا يجعلنا نجتر ذكريات ليست بالبعيدة ، حينما لعب لفترة طويلة دورا مهما وخطيرا في تأسيس الحياة السياسية ، وفي أحايين كثيرة كان محركا للحياة السياسية نفسها ، وحينما كان يسعى الخطاب الديني الذي تسيدته تيارات الإسلام السياسي لتكريس ثقافة سياسية ومجتمعية تحمل صبغة دينية لجأ إلى نصوص تراثية تحمل في طياتها دلالات المخالفة والشقاق الذي أحدث اللغط القائم اليوم ، ليس هذا فحسب ، بل ونحن نمر سريعا على تاريخ الخطاب الديني لفصائل الإسلام السياسي نجده يحمل ملامح ثابتة يمكن رصدها في أنه خطاب ماضوي يأبى المعاصرة ويقيم حواجز مانعة منيعة ضد أية محاولات للاجتهاد أو إعمال العقل ، وهذا خطاب بالضرورة أن يستحيل قمعيا وانغلاقيا يرفض الاختلاف أو الفطنة لأهمية حق الآخر ، وحينما يتسم خطاب بهذه المؤشرات فهو بالتأكيد نص ذكوري وجود المرأة فيه إحداثياته إما بالتحريم أو التشكيك أو التسفيه أو الإقصاء النهائي. وتأسيسا على ما سبق وتأكيدا على تأخر عملية القلب المفتوح التي ينبغي أن تجرى للخطاب الديني فإنه الآن يعيش برئة عاجزة تماما عن التنفس ، ومن أجل إحيائه وتجديده بإخلاص ديني ووطني ينبغي أولا الاقتصار على مصدري الإسلام الصحيح والسليم القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة والعاطرة ، دون الاكتراث بالنصوص التي ابتدعها أمراء الجدل والجدال الذين أحدثوا ارتباكا واضطرابا بإطلاقهم دعوات التكفير والتحريم بغير ضابط أو قرينة. *أُسْتَاذُ المَنَاهِجِ وطَرَائِق تَدْرِيْسِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ - كلية التربية جامعة المنيا