يذهب عبد الله لعماري، القيادي السابق في الشبيبة الإسلامية وعضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة، إلى أن الشيخ عبد الكريم مطيع (الصورة)، مؤسس أول فصيل إسلامي سياسي بالمغرب، لعب دورا في "حماية المغرب من التكفير والتشيع المذهبي" أمام انبهار الشباب المغربي بالأحداث التي جرت ما بين 1978 و1979، حيث ظهرت "جماعة التكفير والهجرة" مع مصطفى شكري في مصر، والذي دعا إلى تكفير الحكام وكل من يواليهم، ثم الثورة الإسلامية بقيادة الخميني في إيران عام 1979، والتي ألهبت الشباب المتحمس بالمغرب لا سيما مع انبهار جريدة "المحرر" التابعة لحزب الاتحاد الاشتراكي التي كانت تواكب الأحداث في إيران بأسلوب يدعو إلى الإعجاب مما حدث في إيران. وبالرغم من كون الشيخ عبد الكريم مطيع كان يعيش في المنفى بالعربية السعودية، فقد أرسل الشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين، إلى مدينة الدارالبيضاء، وهي القلب النابض لتنظيم الشبيبة الإسلامية، حيث قام الشيخ سرور باجتماعات ماراطونية مع خلايا الصف الأول القيادي للشبيبة الإسلامية، والصف الثاني القيادي فيما عرف بصف "النقباء" عبر لقاءات مطولة ومستفيضة ومعمقة، بذل فيها جهودا، لكفكفة غلواء التعلق بالثورة الإيرانية. عبد الله لعماري، المحامي بهيئة الدارالبيضاء، قدم من خلال المقال الذي توصلت به هسبريس مرافعة يدافع من خلالها عن الدور الذي لعبه الشيخ عبد الكريم مطيع في حماية الوحدة المذهبية واللحمة الدينية للمغرب بالرغم من كونه معارضا شرسا لنظام الحسن الثاني. إليكم المقال كما توصلت به هسبريس من المحامي عبد الله لعماري. منتصف القرن الماضي، فجر الاستقلال، تنعم المغاربة بمغرب موحد الهوية، حيك نسيجه الوطني من كفاحية وفدائية الحركة الجهادية التحريرية، والحركة الوطنية، التي اندلعت في ربوع البلاد ضد الاستعمار الأجنبي الفرنسي والإسباني، مؤسسة لمدرسة ثقافية وعقائدية جامعة. لكن بيضة الوطن في مغرب اليوم، باتت مهددة بشروخ قد تقصم ظهر الوحدة المذهبية للبلاد، وتحطم استقراره الروحي، وتماسكه العقائدي، فالتكفير والتشيع، باتا في غفلة من الزمن، يدبان دبيب مستصغر الشرر في الهشيم، ويتسللان إلى الضمير الجمعي العقائدي، فيتخطفان من الشباب، ما إن المغرب معه قد يسقط في وهدة كوارث ودواهي وأمراض من قبيل ما أضحى به الشرق العربي يتآكل ويحترب ويتفتت. لقد بذلت الحركة الإسلامية المؤسسة "الشبيبة الإسلامية" كل ما في وسعها لتحصين الوحدة العقائدية والمذهبية للمغاربة، لكن إخراجها من ساحة الفعل، فتح الباب على مصراعيه في وجه الغزو والتسلل . ففي سنة 1978، وقعت أحداث في المشرق العربي والإسلامي، ألهبت عواطف الشباب الإسلامي في العالم، في ظهور ما سمي ب"جماعة المسلمين" في مصر بزعامة المهندس مصطفى شكري، فيما اشتهر إعلاميا بجماعة " التكفير والهجرة " ، وهي الجماعة المنشقة عن "الإخوان المسلمين " عند الإفراج عنهم من السجون المصرية سنة 1974 ، لما أعلنت هذه الجماعة تكفير الدولة والمجتمع، وممن لا يوالي جماعتهم وأفكارهم. وفي إيران، اشتعلت الثورة الشعبية ضد نظام الشاه بقيادة رجال الدين الشيعة بزعامة آية الله الخميني . ففي بحر سنة 1978، وعندما كانت الثورة تقترب من نهاية الانتصار، وكان بريقها المذهبي والسياسي يتعاظم في عمق وأطراف العالم الإسلامي، جاذبا الأنظار والعواطف والعقول، وكانت جرأة شعاراتها الإسلامية، وصمود الشعب الثائر الأعزل في وجه الدبابات والطائرات والرصاص، وإلهاب قائدها الخميني للحماس الديني الثوري بمواقفه الصارمة وخطاباته النارية المهربة من باريس، حيث كان لاجئا سياسيا ، وكانت أشرطة خطاباته تسرب من منفاه ، ساعة بساعة ، فتنهمر على كل إيران مثل شآبيب الأمطار الدافقة. كل ذلك كان أخاذا وسالبا لعواطف الجماهير، وكذا النخب المثقفة والسياسية، في أرجاء العالم الإسلامي، وبالأخص جماهير ونخب التيارات الإسلامية. كلا الظاهرتين، ظاهرة "جماعة المسلمين" التكفيرية والجذرية، وظاهرة الثورة الإيرانية الشعبية، وما حفلت به من مواقف راديكالية، ومجابهات تجاه استبداد الحكام وخياناتهم وبذخهم ونهبهم للثروات العامة، السادات بمصر ، والشاه بإيران، وما رافقتها من استئساد بطولي للثوار والقيادات في وجه القتل والتعذيب والتشريد، والذي اشتهرت به مباحث أمن الدولة المصرية ومخابرات السافاك الإيرانية، كل ذلك كان له تأثير نفاذ على عقول ومواجيد ونفسيات شباب الحركات الإسلامية على المستوى العالمي. وحركة الشبيبة الإسلامية، كانت في تلك الفترة من تكوينها، في أوج عنفوانها الثوري المتمرد، إذ كانت في معظم بنيتها، تنظيما سريا مغلقا وفولاذيا، تتناسل خلاياه ساعة بساعة في أوساط اليافعين والشباب ما بين أعمار الخامسة عشرة والخمسة والعشرين. وكان هذا التنظيم السري، يرتضع ألبان الثورية والرفض للواقع السياسي والاجتماعي للنظام العربي الرسمي، من أثداء متنوعة: ثدي الحركة الإسلامية في آخر صيحة من أفكارها وتصوراتها لدى أبرز أقطابها: سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، وثدي الحركة الاتحادية باعتبارها الجناح الثوري للحركة الوطنية، إذ كانت زمرة من المؤسسين الرواد للشبيبة الإسلامية منحدرين من الحركة الوطنية والاتحادية، وبنقلتهم الإسلامية نقلوا معهم الرصيد الثوري الاتحادي ومنهجه التحليلي، وثدي الحركة اليسارية الماركسية، من خلال المثاقفة والتفاعل الذي كان ينتج عن الصدام والخصام والاحتكاك العنيف بين الطرفين في ساحة التدافع . كان زعيم حركة الشبيبة الإسلامية عبد الكريم مطيع يرقب هذه التطورات الدولية بدقة من منفاه بجوار الحرم المكي، ويتحسس مخاطر آثارها وتداعياتها على عقول شباب متحمس ومتوثب، يحضنهم تنظيم سري مغلق، بعيد عن الإشراف المباشر لقيادته الروحية، حيث كان هو مبعدا في المنفى ونائبه إبراهيم كمال ثاويا في السجن. كان يعلم وهو رجل التعليم المتخصص في التربية والبيداغوجيا وعلم النفس، أن التنظيمات السرية الفتية والمغلقة، ما أسرع ما تسقط في مهاوي الاستلاب والانغلاق الفكري، وإذا ما قدر أن تمكن الإعجاب بالنموذج الثوري الإيراني، والنموذج التكفيري ل"مصطفى شكري " من تلابيب التنظيم، فإن عواقبه قد تكون وخيمة في تفكيك الوحدة المذهبية والتناسق العقائدي للمجتمع المغربي إذ قد يتحول هذا التنظيم إذا ما تشبع بالمذهبية الشيعية للثورة الإيرانية إلى خميرة فكرية وعقائدية تنساب حمولتها في شرايين البلاد، فتمزق أوصال اللحمة المذهبية السنية الواحدة. لقد أسس عبد الكريم مطيع ومن معه " الشبيبة الإسلامية " من أجل إحياء ديني متجدد، وتربية إسلامية سليمة، وابتعاث للقيم المغربية الأصيلة، لكن والثورة الإسلامية في إيران تدك حصون نظام الشاه، وتقترب من ساعة النصر، وقلوب الشباب الإسلامي في العالم بأسره متيمة بها، وتنظيم الشبيبة الإسلامية، قد استغرقه الانشغال بدقائق وتفاصيل الثورة، يتراءى لهم من خلالها انتصار المشروع الإسلامي، وقد أدمنوا يوميا على قراءة جريدة " المحرر" التي كان يصدرها حزب الإتحاد الاشتراكي : الخصم الإيديولوجي للشبيبة ، ليطالعوا بها الصفحة التي كان يخصصها الحزب يوميا في التتبع والدعاية والإشادة بالثورة الإيرانية ويعنونها بالمانشيت العريض "الثورة الإسلامية في إيران: من أجل فهم ما جرى وما يجري". والحالة كذلك ، فقد قرر مطيع حينئذ التحرك سريعا ، لتطويق هذا الانبهار وترشيده على الأقل، حتى لا يسقط المنبهرون في التأثر بمذهب الثورة المنتصرة المتغلبة، وهو المذهب الشيعي الاثناعشري، فيتحول التنظيم الشبيبي إلى أداة شرخ مذهبية للمجتمع المغربي الموحد، إذ أن الشبيبة الإسلامية كانت آنذاك الدينامو الوحيد المهيمن على ساحة الدعوة ونشر الثقافة الإسلامية. وبالرغم من كون عبد الكريم مطيع كان دائما يتحاشى أن يفتح التنظيم في وجه أي إرشاد خارج إرشاد القيادة الروحية المؤسسة ، فإن الضرورة القصوى لاستنقاذ ما ينبغي استنقاذه قبل فوات الأوان ، وقبل أن يحل بالبلاد بلاء الفرقة المذهبية الماحقة ، فقد أباح لنفسه إنزال من قد ينجده من خارج الحركة في إرشاد التنظيم وتصويب دفته الفكرية، ممن يأنس فيهم الفعالية الفكرية والرمزية الدعوية السامية. ففي شهر أكتوبر 1978 ، حل بالمغرب ، بالدارالبيضاء ، مبعوثا من طرف عبد الكريم مطيع ، واحد من أبرز القيادات الإسلامية في العالم الإسلامي ، والذي هو الشيخ "محمد سرور بن نايف زين العابدين"، أحد مؤسسي الحركة الإسلامية بسوريا، ومن أشرس المعارضين الإسلاميين السوريين لنظام حافظ الأسد الذين طاردهم هذا الأخير بأحكام الإعدام. و قد كان الشيخ سرور، ولفعاليته الفكرية والحركية، أول من أحدث انقلابا فكريا في المؤسسة العلمية السلفية التقليدية بالحجاز بالمملكة السعودية عندما كان لاجئا بها، فأنجبت التيار السلفي العريض بكل تلاوينه بعد تلقيحه بالمنهج الحركي الإسلامي المعاصر ، ومن جهة أخرى كان أول من أحدث تحولا فكريا في مدرسة الإخوان المسلمين ، بما أنتج التوجه الإخواني السلفي ، وتتلمذ على نظرياته نخبة من أشهر رجالات الفكر والدعوة ، بمن فيهم "سلمان العودة" و "عوض القرني" ، و"سفر الحوالي" ، و "محمد بن سعيد القحطاني" ، و"الدكتور عبد الله عزام" و "وبشر البشر " و " سليمان بن ناصر العلوان " وغيرهم . وكان من أشد المحذرين من مخاطر العمق الشيعي للثورة الإيرانية، فقد سبق وأن ألف كتابا متشددا في نقد الخلفية الشيعية للثورة الإيرانية قبل انطلاقها بسنوات، فيما عرف بكتاب: "وجاء دور المجوس" ، والذي أصدره باسمه المستعار "عبد الله الغريب". وقد مكث الشيخ سرور ما يقارب شهرا بتكليف من عبد الكريم مطيع، متنقلا بين أحياء الدارالبيضاء وأحياء أهم المدن المغربية، حيث يتواجد التنظيم، في اجتماعات ماراطونية مع خلايا الصف الأول القيادي للشبيبة الإسلامية، والصف الثاني القيادي فيما عرف بصف " النقباء "، في حوارات مطولة ومستفيضة ومعمقة، بذل فيها كل جهوده العلمية والنظرية والتجريبية، لكفكفة غلواء التعلق بالثورة الإيرانية، وتفنيد حجج تعليق الآمال والأحلام عليها، إذ دافع بشراسة لإبراز الجوهر الشيعي للثورة، المعادي للعالم الإسلامي السني، وكذا الخلفية الفارسية لها، الحاقدة على القومية العربية والتاريخ الحضاري الإسلامي للعرب، ولأنه أيضا كان متضلعا في محاربة الإتجاه التكفيري، فقد كان جزء هام من حواره مع صف قياديي التنظيم منصبا على كشف انحرافات واختلالات الفكر التكفيري، واضعا تجربة "جماعة مصطفى شكري" في الميزان ، إذ كان مصطفى شكري في نظر الكثيرين ، داعية صلبا وعنيدا في وجه جلاوزة التعذيب في سجون عبد الناصر، وشهيدا بطلا ، بعد إعدامه من طرف السادات ، سنة 1978 ، وتركه لقصائد شعرية، ونصوص أدبية، تعتد بالمواجهة والجهاد والصدام. وإذن فقد تمكن الشيخ سرور من اختراق عقلية التنظيم الشبيبي وحلحلة تصورات الانشداه تجاه الثورة في إيران والإنشداد لزعامتها الكاريزمية في آية الله الخميني، وأفلح في زعزعة الإنطباعات الطافحة بالإعجاب تجاه رمزية واستشهادية قادة " جماعة المسلمين " التكفيرية ، واضعا الثورة الإيرانية في خانة الطائفة الشيعية ، والإتجاه التكفيري في خانة الخوارج. كان آنذاك ما قدمه الشيخ سرور للشباب التواق بحرقه إلى ساعة انتصار "الثورة الإسلامية" في إيران، دواء مرا علقما، تجرعه هؤلاء الشباب على مضض، ولقاحا حارقا، ولكنه لقاح عقم الأفكار تعقيما مبكرا قبل انتصار الثورة في إيران في شهر فبراير 1979 ، فكانت خطة ناجعة من طرف الشيخ مطيع لتحصين عقيدة الشباب المذهبية دون الوقوع في وهدة التشيع تأثرا بالنفوذ البطولي للثورة في إيران، ومن خلالها كانت منهجية فعالة وضاربة من أجل تمنيع وحدة البلاد المذهبية، والحيلولة دون تسلل المذهب الشيعي عبر بوابة التعاطف مع الثورة الإيرانية المنتصرة.