1. الرئيسية 2. الشرق الأوسط هل ينجو النظام العالمي من "تنمر" الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الثانية؟ د. آحمد قنديل الأربعاء 12 فبراير 2025 - 9:00 هل ينجو النظام العالمي من "تنمر" الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الثانية في ظل ميله إلى البراغماتية، القائمة على الصفقات المباشرة، والمفاوضات الثنائية بدلاً من المؤسسات متعددة الأطراف والالتزام بالقواعد والمعاهدات الدولية المتعارف عليها؟. يثور هذا التساؤل بشدة منذ عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2025، في ظل مخاوف وهواجس عميقة بشأن إمكانية أن تؤدي ولايته الثانية إلى تعميق الاتجاهات نحو نظام عالمي مجزأ، ومفتت، وبالتالي أقل استقراراً وأمناً نتيجة تراجع القدرة على العمل الجماعي الدولي في مواجهة تحديات عالمية متعددة ومتفاقمة. فخلال الأسبوع الأول فقط من رئاسته الثانية للولايات المتحدة، استهدف الرئيس الأمريكي عدداً من مؤسسات النظام العالمي، التي تهتم بتعزيز التعاون الدولي في مواجهة قضايا مهمة للغاية، بدءاً من مواجهة تغير المناخ العالمي، مروراً بتقليل مخاطر انتشار الأوبئة والأمراض، وانتهاءً بقواعد التجارة الدولية. فالرئيس ترامب انسحب من اتفاقية باريس لمواجهة تغير المناخ العالمي، كما كان متوقعاً، وعلى غرار ما قام به في الأيام الأولى من ولايته السابقة، التي استمرت من عام 2017 إلى 2021. كما أعلن أيضاً انسحاب واشنطن من منظمة الصحة العالمية، ومن المفاوضات الجارية حالياً بشأن التوصل إلى معاهدة دولية جديدة بشان الأوبئة، والتي تهدف إلى منع حدوث أزمة عالمية أخرى مشابهة لأزمة كوفيد-19. كما أصدر الرئيس الأمريكي أيضاً قراراً تنفيذياً يفتح الباب أمام فرض عقوبات على قضاة وكبار موظفي المحكمة الجنائية الدولية، ويتزامن هذا القرار من مساعي يبذلها الأعضاء الجمهوريون في الكونجرس الأمريكي لتمرير قانون جديد لتحقيق هذا الهدف. كما أعلن الرئيس ترامب أيضاً عن مجموعة من الإجراءات التجارية المحتملة التي من شأنها أن تبعد الولاياتالمتحدة أكثر عن القواعد القائمة لمنظمة التجارة العالمية، بما في ذلك فرض التعريفات الجمركية الشاملة وإنهاء اتفاقات التجارة الحرة بين الولاياتالمتحدة وعدد من الدول المهمة تجارياً في العالم مثل الصينوكندا والاتحاد الأوروبي والمكسيك. ولم تكن المؤسسات والمعاهدات الدولية المذكورة فقط هي من تعرضت ل"تنمر" الرئيس ترامب. بل إن قواعد النظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت أيضاً "مهددة" بشكل غير مسبوق. فقد أصدر الرئيس الأمريكي المنتخب سلسلة من الأوامر التنفيذية التي من شأنها أن تضع حداً فعلياً لمشاركة الولاياتالمتحدة في الجهود العالمية الرامية إلى مكافحة التمييز العنصري والتمييز بين الجنسين، وذلك من خلال إلغاء معظم البرامج الفيدرالية في هذا الخصوص، كما تم الإعلان عن إعادة النظر في تعيين كثير من الموظفين سواء في المؤسسات الأمريكية أو في المنظمات الدولية. كما أدى أيضاً قرار ترامب بتجميد كل المساعدات الخارجية الأمريكية، لحين مراجعتها بشكل كامل، إلى إثارة الشك في مصير برامج التنمية الدولية والمساعدات الإنسانية، سواء تلك التي تقدمها واشنطن بشكل مباشر، أو تلك التي تساهم في تمويلها من خلال الأممالمتحدة ووكالاتها المتخصصة، مثل وكالة غوث لمساعدة اللاجئين وغيرها. وبالإضافة إلى ذلك، تمثل تحركات الإدارة الجديدة لترامب فيما يتعلق بإعادة اللاجئين والمهاجرين وترحيلهم "صفعة شديدة" للممارسات والمعايير الدولية المستقرة في التعامل مع هؤلاء "المغلوبين على أمرهم" في العالم. كذلك، فإن مطالبة الرئيس ترامب بضم كندا وقناة بنما وجرينلاند، تمثل "انتهاكاً صارخاً" لمبدأ السيادة الوطنية، لدول مثل كنداوبنما والدانمارك، رغم كون هذا المبدأ يعتبر أحد المبادئ الأساسية الذي يقوم عليها نظام الدولة القومية الحديثة، منذ معاهدة وستفاليا في عام 1648. مؤشرات غامضة صحيح أنه، حتى كتابة هذه السطور، لم تنكشف بعد النوايا الحقيقية للرئيس ترامب، وإدارته الجديدة، تجاه عدد من المؤسسات الدولية، التي مثلت الركائز الأساسية للنظام العالمي بعد عام 1945، وفي مقدمتها حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ومعاهدة منع الانتشار النووي، والأممالمتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. ولكن يظل السؤال قائماً بشأن ما إذا كان الرئيس ترامب، ومن حوله في الإدارة الجديدة، سوف يوجهون "سهامهم القاتلة" تجاه هذه المؤسسات في المدى المنظور. ومن جهة أخرى، ربما يوجد عدد من المؤشرات الإيجابية بشأن إمكانية "نجاة" النظام العالمي من "تنمر" الرئيس الأمريكي في الفترة المقبلة. فعلى سبيل المثال، دعا ترامب، في أول مؤتمر صحفي له بعد إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، إلى رغبته في عقد محادثات ثلاثية بين الولاياتالمتحدة وروسيا والصين، بهدف تقليص "الترسانات النووية" للدول الثلاث. وجاء هذا الإعلان رغم دعوته لوزارة الدفاع الأمريكية (بنتاغون) في المؤتمر الصحفي نفسه إلى استئناف التجارب النووية الأمريكية لضمان التفوق النووي الأمريكي في العالم. ومن جهة ثانية، أكد وزير الخارجية الأمريكي الجديد ماركو روبيو مؤخراً على أن واشنطن لن تنسحب من شراكاتها الدفاعية والأمنية مع دول حلف الناتو، خاصة إذا ما استجاب الحلفاء والشركاء لطلب الرئيس الأمريكي تخصيص ما لا يقل عن 5٪ من ميزانياتهم الوطنية للأغراض الدفاعية والعسكرية. كذلك، كرر روبيو التأكيد على التزام واشنطن بالمعاهدات الأمنية مع الحلفاء في آسيا، لمواجهة "الصعود الصيني". مخاطر عديدة الخطير في الأمر هو أن توجهات الرئيس ترامب في التعامل مع مثل هذه المؤسسات والقيم العالمية تُنبئ بحدوث "تحول دائم" في النظام العالمي، وليس مجرد "وضع استثنائي"، قد ينتهي بعد أربع سنوات من تواجد الرئيس الأمريكي المنتخب في البيت الأبيض. ومما يدعم من صحة هذا التقدير هو أن موقف واشنطن تجاه الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023، ومطالب الرئيس ترامب بتهجير أهالي غزة إلى دول الجوار (ارتباطاً بإعادة أعمار غزة قبل أن يستطرد ويكشف عن أن ذلك قد يكون لفترات ممتدة لأن مساحة إسرائيل صغيرة)، ضمن أمثلة أخرى كثيرة، يزيد من الشكوك والهواجس السائدة لدى كثير من خبراء العلاقات الدولية بأن الولاياتالمتحدة لن تلتزم، على الأرجح، في المستقبل المنظور، بأي قواعد ثابتة ومتوافق عليها بين غالبية دول وشعوب العالم لإدارة النظام العالمي. بل ستتبع واشنطن، في الغالب، مصالحها الوطنية، المنضوية تحت شعار "أمريكا أولاً" وجعل "الولاياتالمتحدة عظيمة مرة أخرى". وفي هذا السياق، يشار إلى تصريح مهم لوزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو قال فيه إن "النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد مجرد نظام عفا عليه الزمن، بل أصبح الآن سلاحاً يُستخدم ضد الولاياتالمتحدة". صحيح أن بعض المراقبين يزعم أن مواقف الرئيس ترامب، وإدارته الجديدة، تجاه المنظمات الدولية المهمة، وقضايا مثل المناخ والتجارة والصحة، لم تصل بعد إلى مرحلة "تهديد" النظام العالمي "بشكل جذري" أو "إنهاء هيمنة الولاياتالمتحدة على النظام العالمي" والتي أدت، من وجهة نظرهم، إلى تحقيق الأمن والاستقرار الدوليين منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فيما عرف بعصر "السلام الأمريكي"، إلا أنه من الواضح تماماً لكثير من المراقبين أن هذه المواقف، سوف تؤثر سلبياً، وبشكل مؤثر للغاية، على الأمن القومي في العديد من دول العالم. كذلك، قد تؤدي سياسات ترامب التجارية، والتي تفرض تعريفات جمركية مرتفعة، إلى مزيد من التقلبات الاقتصادية وتعطيل سلاسل التوريد العالمية. كما قد تؤدي الحرب التجارية المتوقعة بين الولاياتالمتحدةوالصين إلى إضعاف العولمة، وإجبار الدول على الاختيار بين الكتل الاقتصادية الأمريكيةوالصينية، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تدهور الأوضاع المعيشية لمليارات الناس في العالم. اقتراحات للتعامل مع "التنمر" الترامبي من أجل مواجهة "تنمر" الرئيس ترامب على مؤسسات وقواعد النظام العالمي في المدى القريب، وتداعياته السلبية على الحوكمة العالمية، وعلى زيادة عدم الاستقرار الجيوسياسي في كثير من المناطق الملتهبة في العالم، قد يكون من المفيد دراسة القيام بعدة إجراءات، منها على سبيل المثال: 1- زيادة دور الدول الغنية القادرة على توفير المساعدة من أجل تعويض التراجع الأمريكي المتوقع في التعامل مع الأزمات الدولية المتفاقمة، هذا فضلاً عن ضرورة تعظيم الدور الإيجابي العالمي من جانب الشركات الخاصة والمؤسسات الخيرية لتوفير الدعم الانساني والإغاثي. 2- تفعيل التعاون بين الدول النامية والدول ذات الاقتصاديات الناشئة، والمستعدة لإعادة صياغة مؤسسات وقيم الحوكمة العالمية. 3- تعزيز التعاون مع الصين مع الانتباه إلى المحددات التي يمكن أن تمثل قيداً على دور بكين العالمي في الفترة المقبلة. فمن ناحية، من المرجح أن تصبح بكين من أكثر الأطراف المستفيدة من "تنمر" الرئيس ترامب، وميله إلى ممارسة "القوة من أجل السلام"، وتحقيق المصالح الأمريكية بغض النظر عن مصالح حلفاءه وشركائه في العالم. فكلما سارت واشنطن في هذه المسارات كلما مثل ذلك فرصة لحصول الصين على مكاسب استراتيجية وسياسية على حساب الولاياتالمتحدة، باعتبارها "المنقذ" و"الملاذ". ورداً على ذلك، من ناحية أخرى، يرى بعض المراقبين أن دور بكين في إنقاذ النظام العالمي في المستقبل سوف يظل محدوداً وقاصراً إلى حد كبير، خاصة مع تجنب الصين المساهمة بما يتناسب مع مكانتها العالمية باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وإصرار صانعي القرار الصيني على أن بلادهم ما تزال "دولة نامية" من حقها أن تعامل على "قدم المساواة" مع أفقر دول العالم. وبالإضافة إلى ذلك، وحتى بافتراض تعديل رغبة قادة الصين في اتجاه ممارسة دور عالمي بديل للولايات المتحدة، وهو افتراض نظري حتى كتابة هذه السطور، فإن الدور الصيني في إنقاذ النظام العالمي سوف يتطلب، في الغالب، موارد مالية ضخمة، بينما يعاني الاقتصاد الصيني أصلاً من تذبذب ملحوظ في العديد من المؤشرات المالية والاقتصادية المهمة، فضلاً عن أنه قد يواجه في الافق "حرب تجارية" جديدة مع واشنطن. 4- المحافظة على الهدوء والثبات في مواجهة الرئيس ترامب، مع التركيز على الحقائق والمنطق والأدلة القوية بشأن التداعيات السلبية لهذه التوجهات، على مصالح الولاياتالمتحدة والعالم، بدلاً من الانجرار إلى "حرب كلمات" لا طائل من ورائها. 5- التركيز على الأهداف الإستراتيجية طويلة المدى، مع التزام "الصبر الاستراتيجي"، والاستعانة بفريق من المستشارين والخبراء القادرين على توفير رؤى واستراتيجيات فعالة للتعامل مع شخصية الرئيس ترامب المعقدة. على أية حال، يمكن القول إن "تنمر" الرئيس ترامب على قواعد ومؤسسات النظام العالمي أمر يجب أن يؤخذ بمنتهى الجدية، من جانب جميع الدول والشعوب، لأنه سوف يهدد الأمن والاستقرار الدوليين. كما أنه، على الأرجح، سوف يضع العالم كله أمام "هاوية سحيقة" في ظل تنامي التحديات والأزمات العالمية، والتي لا يمكن مواجهتها بدون تعزيز التعاون الدولي. ومما قد يزيد الأمور تعقيداً قناعة مفادها أن فشل دول العالم في مواجهة التوجهات التي أعلنها الرئيس ترامب، في بداية ولايته الثانية، سوف يعني أننا سوف نشهد حقبة "أكثر قتامة من سياسات القوة المنفلت"، وستكون هذه الحقبة "أقل ازدهاراً وأكثر خطورة على الجميع". فالرئيس ترامب ينظر إلى العالم مسترشداً بما قاله مؤرخ الحرب البيلوبونيسية الإغريقي ثوسوديدس: إن "الأقوياء يفعلون ما يشاؤون، والضعفاء يقاسون بقدر ما يفرض عليهم من معاناة". - رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية