عاد اسم عبد الرحمن اليوسفي إلى الواجهة بقوة خلال الذكرى العشرين لجلوس الملك محمد السادس على العرش، بعدما جرى استقباله في قصر مرشان بطنجة، وإطلاق اسمه على الفوج الجديد من الضباط الذين أدوا القسم بساحة المشور بتطوان. وليست هذه هي المرة الأولى التي يكرم فيها الملك اليوسفي، ففي 2016 دشن شارعا باسمه في طنجة، ثم زاره في المستشفى وقبل رأسه عندما اشتدت وعكته الصحية، لكن السياق هذه المرة مختلف ويتسم بفتور شديد بين القصر الملكي ورئيس حكومة سابق آخر هو عبد الإله بن كيران. وجاء تكريم اليوسفي، الرجل الذي اصطدم مع القصر بسبب تفضيل الملك تعيين وزير أول تكنوقراطي، متزامنا مع إعلان الملك انتهاء زمن الحكومات القائم على الحسابات السياسية لصالح عهد وزراء "الكفاءات والاستحقاق"، الأمر الذي التقطه بسرعة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، المعني ب"التعديل الحكومي" كغيره من أحزاب الائتلاف. تكريم ورسالة كان عبد الرحمن اليوسفي أكثر رؤساء الحكومة السابقين الذين دردش معهم الملك خلال استقبالهم بمناسبة عيد العرش، فرغم أن الرجل التسعيني صعد على المنصة مسنودا من طرف أحد موظفي القصر نظرا لوضعه الصحي، إلا أن الملك ظل يحدثه مبتسما لمدة غير قصيرة. وفي اليوم الموالي قدم الملك لليوسفي هدية رمزية أخرى، حين أطلق اسمه على الفوج الجديد من الضباط، وخلال حفل خاطب القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية الخريجين قائلا "قررنا أن نطلق على فوجكم، اسم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الذي يتقاسم مع والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، ومع جلالتنا، نفس المبادئ الثابتة، في حب الوطن، والتشبث بمقدسات الأمة، وبالوحدة الترابية للمملكة، والدفاع عن مصالحها العليا". وأضاف الملك "إننا نعتز بما يجمعنا به شخصيا، من روابط قوية ووطيدة، وعطف خاص متبادل، فكونوا، رعاكم الله، في مستوى ما يجسده هذا الإسم، من معاني الاستقامة والالتزام، والثبات على المبادئ، والغيرة الوطنية الصادقة". وفي هذا الصدد يقول محمد بودن، المحلل السياسي ورئيس مركز أطلس لتحليل المؤشرات السياسية المؤسساتية، إن شخصية اليوسفي "استقرت حولها صورة استثنائية في ذهن عدد كبير من المغاربة، وإطلاق الملك محمد السادس لاسمه على فوج الضباط المتخرجين في الذكرى العشرين لعيد العرش يؤكد هذه الصورة". ويرى بودن أن مثل هذه المبادرات "لا تتكرر دائما ولها أبعاد ثقافية وإنسانية وسياسية ومستقبلية، فعلى المستوى الثقافي، شخصية عبد الرحمان اليوسفي تمثل قدوة ونموذجا وجب استلهام أسلوبه من طرف النخب الوطنية"، ويضيف المتحدث "أما على المستوى الإنساني فيمكن القول أن الملك محمد السادس قد قام بتقبيل رأس اليوسفي مجددا على طريقته الخاصة وعبر عن تقديره الكبير لهذه الشخصية الوطنية". ليست المرة الأولى كان اليوسفي على موعد مع محطتين حاسمتين في علاقته بالملك محمد السادس منذ بداية عهده، الأولى عندما ساهم في الانتقال السلمي للسلطة عبر الاستجابة ل"الطلب الأخير" للملك الراحل الحسن الثاني سنة 1998 بتسهيل تشكيل حكومة التناوب التوافقي الأولى التي كان هو وزيرها الأول، والثانية حين انسحب من الحياة السياسية في 2002 بعد اختيار التكنوقراطي إدريس جطو وزيرا أولا، رغم حصول حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية. لكن اليوسفي لم يرض بالانسحاب مستسلما من معركته السياسية، لذلك رسم لنفسه بابا كبيرا للخروج منه في بروكسيل، حينما عبر صراحة في محاضرته الشهيرة، عن عدم رضاه على عدم المرور من "التناوب التوافقي" إلى التناوب الديمقراطي"، داعيا إلى دسترة ترؤس الحزب الحاصل على الرتبة الأولى للحكومة ونقل أكبر عدد من الصلاحيات التنفيذية إلى الوزير الأول والحكومة التي يرأسها، في خطوة أسماها "المنهجية الديموقراطية". ومنذ ذلك الحين اختفى اليوسفي عن الساحة السياسية، ولم يعد يظهر في الإعلام إلا في بعض الفلتات النادرة، إلى غاية سنة 2016، حين سيلم به المرض بعدما تقدم به العمر، لينهي الملك سنوات البياض الطويلة في علاقته باليوسفي، داعيا إياه إلى مسقط رأسه في طنجة حيث سيدشن شارعا باسمه، ثم سيزوره في المستشفى وسيطبع قبلة على جبينه. ويرى بودن أنه على المستوى السياسي "يتبين أن الملك يحن للمرحلة السياسية التي شهدت تأسيس العهد الجديد الذي ساهم فيها عبد الرحمان اليوسفي، وشهد لحظة انتقال الحكم من الملك الراحل الحسن الثاني إلى الملك محمد السادس" ويضيف المحلل السياسي أن الرسالة الكبرى "للتكريم الاستثنائي" الذي حظي به الرجل، تتجلى في أن "اليوسفي مثل موضع فخر للأمة المغربية وتقاسم الكثير من اللحظات القوية مع الملكين الحسن الثاني ومحمد السادس"، موردا "أعتقد أن مثل هذه التكريمات لا تتعلق بما حققه الرجل من إنجازات، فقد يحصل أن لا تحقق مثل هذه الشخصيات الوطنية إنجازات كبرى لعدة أسباب، أو قد تكون قامت بجهود لم يكتب لها النجاح، لكن المؤكد أن صدقها وصبرها وبصمتها هي العوامل الحاسمة في نيلها لهذه المكانة الاستثنائية". تكريم هنا وبرود هناك لا يمكن فصل تكريم الملك لليوسفي في عيد العرش، الذي سيظهر مرة أخرى بعده بأيام في متحف محمد السادس للفن المعاصر، عن سياقه السياسي الحالي، المتسم بوجود شخص يوصف بأنه "من دون كاريزما" على رأس الحكومة، وهو سعد الدين العثماني، الذي يتلقى الضربات تلو الأخرى من سلفه "الخطيب المفوه" عبد الإله بنكيران. وكان الملك قد استقبل يوم عيد العرش بنكيران أيضا، لكن دون أن يظهر حماسا للدردشة معه كما فعل مع اليوسفي، رغم أنها المرة الأولى التي سيعود فيها الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية إلى القصر الملكي، منذ أن جرى إعفاؤه في مارس 2017، إثر ما عرف ب"البلوكاج الحكومي". وفي هذا السياق يقول المحلل السياسي محمد بودن إن المعاني السياسية لعودة اليوسفي تتجلى في "حاجة المغرب لأمثال هذا النموذج الذي يمثل رجل دولة حقيقي، والواقع أن المغرب يحتاج لرجال دولة كثر وليس لسياسيين كثر، لأن الفرق كبير بين رجل الدولة والسياسي، فرجل الدولة يحرص على مصلحة الوطن وله قدرة على اتخاذ القرار الصعب من أجل صالح عام مقرر وهذا ما فعله اليوسفي في لحظات من حياته سواء في عهد الملك الحسن الثاني، وكذلك في عهد الملك محمد السادس، أما السياسي فهو الذي يسعى إلى السلطة ومنافعها وقد يبحث عن مبررات كثيرة من أجل البقاء لفترة طويلة". وعن إمكانية ارتباط الخطوة الملكية بخرجات بنكيران السياسية الأخيرة، يسترسل المتحدث قائلا "الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي بذرة يجب أن تنبت مجددا في التربة السياسية للمغرب، من أجل توطيد الثقة في الحياة السياسية، فالأمة الحية القوية هي التي تنجب رجال دولة من الطراز الرفيع الذين يقبلون بقاعدة التعاقب على المهام والمسؤوليات الوطنية، ويقبلون بوصف "المسؤول السابق" التي تفرضها القواعد الديمقراطية ودوران الأجيال والنخب، ويتنافسون على الأخلاق السياسية والخطاب السياسي المسؤول بدل البحث عن تسجيل النقاط وتمييع المشهد السياسي وإغراقه في السطحية والثقافة السياسوية". لشكر "يتذكر" الزعيم يشترك عبد الرحمن اليوسفي وإدريس لشكر في حملهما لحقيبة المحاماة وفي قيادتهما لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لكنهما يختلفان في أمور كثيرة، فالأول فضل الابتعاد عن الحياة السياسية والحقائب الحكومية رغم تصدر حزبه لنتائج الانتخابات، بسبب ما اعتبره "عدم احترام للمنهجية الديمقراطية" رغم أن الأمر وضعه في مواجهة مع القصر، فيما الثاني أصر على أن يكون لحزبه نصيب من "الكعكة الحكومية" ولو تحت جناح "حزب إداري" هو التجمع الوطني للأحرار، بعد أن وصل بالكاد للمقعد العشرين في انتخابات 2016 التشريعية. وبعد طول "نسيان" تذكر لشكر والمكتب السياسي لحزبه الزعيم الاتحادي التاريخي، مباشرة بعد أن كرمه الملك وأيضا مباشرة بعد خطاب العرش الداعي لتعديل حكومي قد يكون حزب "الوردة" أحد أكبر المتضررين منه، لذلك سارع إلى زيارة بيت اليوسفي والتقاط صورة معه، لكنها كانت صورة بمفعول عكسي وبدلالات رمزية سلبية، بعدما تصدرها الكتب الأول الحالي واضعا الزعيم التاريخي على "الهامش". ويعتبر بودن، في حديثه ل"الصحيفة" أنه لا يمكن فصل الوزير الأول الأسبق عن انتمائه وتسجيل الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سابقا لاسمه في سجلات التاريخ الوطني مفيد لحزبه معنويا، رغم عدم وجود ارتباط تنظيمي حالي بين الحزب واليوسفي". ويتابع المحلل السياسي قائلا "لا شك أن الحزب سيبحث عن استثمار هذه المكانة الاستثنائية التي بلغها اليوسفي لمصلحته، وهذا واضح من خلال الدينامية المكثفة للحزب، حيث قام لشكر وأعضاء من المكتب السياسي بزيارة لمنزل اليوسفي علاوة على مضمون الاعتزاز الذي عبرت عنه رسالة الحبيب المالكي". ويضيف بودن "الاتحاديون يعتبرون الانتماء لحزبهم امتيازا، ومن حقهم أن يفخروا بأمجادهم وشخصياتهم التي طبعت الحياة السياسية المغربية في ظل التراكمات الايجابية التي حققها اليوسفي، لكن واقع الحزب اليوم يتطلب جهدا كبيرا للعودة في سلم الريادة المؤسساتية". وينبه المحلل السياسي إلى أن "الحزب في الذكرى الستين لتأسيسه يحاول أن يلملم أطرافه، فسلسلة التراجعات التي حققها والتي تعكسها الأرقام، لا زالت تشكل قوة جر نحو الخلف، وبالرغم من رئاسته لمجلس النواب فالحزب بالكاد استطاع أن يشكل فريقا بالمجلس ذاته، ومشاركته في الحكومة حولها الكثير من الجدل الذي يصل لحد وصف الحزب اليساري بالحزب الإداري". ويخلص بودن إلى أن "القوة الاقتراحية للحزب ودوره في النقاش العمومي صار حولها الكثير من الملاحظات، فضلا عن الانطباعات التي تربط بين حصول المنتسبين "السابقين – الحاليين" للحزب على مواقع مهمة في مجالس الحكامة وبين إرث اليوسفي".