لا يكاد يمر أسبوع دون أن تخرج الجزائر بسيناريو جديد يمهد لصراع مباشر مع المغرب لم تعد الرئاسة الجزائرية ولا رئاسة الأركان، التي تُوصف بأنها المتحكم الفعلي في دواليب الدولة الجزائرية، تتفادى طرح احتمال تحوله إلى حرب ميدانية، تُنهي 30 عاما من صمت المدافع الذي بدأ رسميا بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار سنة 1991 بين المغرب وجبهة "البوليساريو" بوساطة من الأممالمتحدة، والتي لم ينجح قصر المرادية ولا قيادات تندوف بإقناع العالم بانتهائه عقب التدخل الميداني للقوات المسلحة الملكية لإعادة فتح معبر الكركارات في 13 نونبر 2020. ولم يعد الأمر مقتصرا على "توعد" الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بالدخول في حرب مع جيرانه الغربيين، ولا في الدعوات المتواصلة العلنية لقائد الأركان السعيد شنقريحة لعناصر جيشه بالاستعداد للمواجهة، بل اتخذ منحى جديدا بالحديث عن سيناريوهات تُحاول رسم المغرب في صورة البادئ بالعدوان، تارة بحديث الإدارة العامة الجزائرية للأمن الوطني عن "مخطط إرهابي بين دولة من شمال إفريقيا والكيان الصهيوني وانفصاليين، كما حدث يوم 13 أكتوبر 2021، وتارة أخرى بإعلان وزارة الدفاع عن "استشهاد عسكري من حرس الحدود برتبة رقيب وإصابة آخرين في انفجار لغم خلال مهمة استطلاعية على الحدود الغربية للجزائر"، وفق ما أُعلن عنه في 14 أكتوبر 2021. مؤشر التسلح نحو الأعلى وأمام مشاهد التصعيد المستمرة القادمة من الجزائر والتي يقابلها صمت مغربي رسمي، يبقى السؤال المطروح حول مدى جدية احتمال نشوب حرب بين الجارين، وهو استفهام تُعززه ملاحظة مؤشر التسلح المتصاعد على الجانبين، مع التدقيق في نمطه الذي أصبح ينبني على التكامل برا وبحرا وجوا من خلال اعتماد الجزائر على روسيا في ثلثي مقتنياتها من الأسلحة والمعدات العسكرية، والتحديث الشامل للجيش المغربي المعتمد في 91 في المائة منه على الواردات الدفاعية الأمريكية. وعمليا، يبدو احتمال نشوب حرب على الواجهة البحرية المتوسطية للبلدين أكثر السيناريوهات المستبعدة، ليس فقط لأنه يُهدد أمن واقتصاد كافة الدول المتوسطية وخاصة منها القريبة من سواحل البلدين على غرار إسبانيا التي ستكون المتضرر الأكبر من مثل هذه الخطوة، والمملكة المتحدة التي تفرض سيادتها على إقليم جبل طارق، ولكن أيضا لأن جغرافيا الصراع الحقيقي بعيدة عن الواجهة البحرية وترتكز على الحدود المشتركة بين الجزائر والأقاليم المغربية الصحراوية. والملاحظ هو أن البلدين يركزان أكثر على تعزيز قدراتهما البرية والجوية، فالمغرب لم يتأخر كثيرا بعد حصول جارته الشرقية على منظومة صواريخ "إس 400" الروسية للدفاعات الجوية ليعقد صفقة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية اقتنى بها منظومة "باتريوت" الأكثر كفاءة في هذا المجال، وأعلن عمليا عن استعداده للمواجهة البرية في مناورات الأسد الإفريقي التي جرت في "المحبس" على بعد أقل من 100 كيلومتر من الحدود الجزائرية، وتحديدا ولاية تندوف، والتي أحضر فيها الجيش الأمريكي لأول مرة راجمات الصواريخ "هيمارس" التي سبق أن ذكرت عدة تقارير أن المملكة تُفاوض واشنطن لشرائها، والتي يبلغ مداها 300 كيلومتر. ويتضح حجم الإنفاق العسكري من البلدين بشكل أوضح بالتركيز على القوات الجوية، فالجزائر اتفقت مع روسيا هذه السنة على تزويدها بسرب جديد من طائرات "ميغ 29" التي تكلف الواحدة منها حوالي 60 مليون دولار، بعد عامين فقط من شراء 14 منها، وقبل ذلك كانت قد أنفقت ملياري دولار لشراء 14 طائرة من نوع "سوخوي 57′′، بينما تحدثت تقارير مؤخرا عن تفاوضها مع الصين لاقتناء طائرات هجومية بدون طيار. ومن جهته أنفق المغرب 2,8 ملايير دولار من أجل شراء 25 طائرة من نوع "إف 16" من الولاياتالمتحدةالأمريكية، ثم 1,6 مليار دولار لاقتناء 24 مروحية مقاتلة من نوع "أباتشي"، دون نسيان أسراب الطائرات الاستطلاعية على غرار "جي 550′′، مع تطوير واضح لقدراته الجوية بواسطة طائرات "الدرونز" القتالية والاستطلاعية المُقتناة من أمريكا وإسرائيل وتركيا.، والتي سبق أن نفذت عمليات نوعية في الصحراء، أبرزها تصفية القيادي الميداني في "البوليساريو" الداه البندير، في أبريل الماضي. محاولات لتصدير أزمات داخلية وإن كان مؤشر التسلح يوحي بأن البلدين يعتبران أن نشوب الحرب أمرا مطروحا، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن الأمر كذلك من نواحٍ أخرى، خاصة السياسية والأمنية والاقتصادية، في منطقة تغلي بالتوترات والحروب الأهلية والانقلابات، والتي يعلي المغرب تحديدا تبعاتها، مغاربيا من جهة، من خلال مساهمة دبلوماسيته في المفاوضات الليبية، وفي العديد من دول وسط وغرب إفريقيا من جهة أخرى، التي يشارك أكثر من 1600 جندي من جنوده في بعثات حفظ السلام بها. ويرى محمد سالم عبد الفتاح، رئيس المرصد الصحراوي للإعلام وحقوق الإنسان، والكاتب العام لمركز السلام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن احتمال نشوب الحرب بين المغرب والجزائر "لا يزال جد مستبعد لعدة اعتبارات، أولها أن التصعيد القائم بينهما مصدره طرف واحد هو الجزائر، في حين أن الطرف الآخر وهو المغرب، لا يزال يرفض الانجرار إلى التصعيد". وينبه عبد الفتاح إلى عامل آخر يجعل من التلويح الجزائري بالحرب كلاما مُرسلا أكثر منه إعلانا جديا عن النوايا، إذ يرى أن البحث في أسباب هذا التلويح "سيقودنا حتما إلى الوضع الداخلي المتأزم بالجزائر في ظل تصاعد المطالب الشعبية المرتبطة بالوضع الاجتماعي واضطراب أسواق النفط، والأهم عودة الحراك الشعبي المطالب بالإصلاح والذي لم يتراجع إبان جائحة الكوفيد 19 سوى لأخذ استراحة محارب، خالصا إلى أن هذا الواقع ما يحيل على "محاولة لتصدير الأزمة الداخلية بغرض تأجيل الاستحقاقات المتعلقة بالمطالب الشعبية في الدمقرطة والإصلاح السياسي والتغيير داخل النظام الجزائري". أما المغرب فبدوره ليس من مصلحته تغيير الوضع القائم، وفق المتحدث نفسه، الذي يرى أنه "يحقق عديد المكاسب السياسية والعسكرية الميدانية في ظل الوضع الحالي، وبالتالي يكرس حسمه لأهم مجالات صراع القوتين الإقليميتين المغاربيتين، أي قضية الصحراء، من خلال تكريس سيادته على الإقليم والدخول في شراكات اقتصادية وأمنية وعسكرية تهم الصحراء" خالصا إلى أنه حاليا "في وضع مريح لن يدفعه إلى الانجرار إلى مغامرات غير محسوبة العواقب كالتي تعكف عليها الجزائر، بل ويفضل استمرار حالة اللاحرب واللاسلم القائمة". الحرب تعني صداعا جديدا لأوروبا وإلى جانب ذلك، يبقى خيار الدخول في الحرب رهينا أيضا بكلفتها، ليس فقط على البلدين المتحاربين ولا على دول الجوار، بل أيضا على دول أوروبا التي ستصل الأزمات المسلحة إلى أقرب نقطة منها في إفريقيا، وهي التي لا زالت تعاني حاليا من تبعات انعدام الاستقرار وتفشي التيارات المسلحة في العديد من دول الساحل والصحراء، وما كبدها من نزيف اقتصادي، سواء من خلال اضطرارها للتدخل عسكريا للحفاظ على مصالحها الاقتصادية، كما فعلت فرنسا في مالي، أو إجبارها على تحمل كلفة الهجرة غير النظامية التي أصبحت عبئا ثقيلا على دولة مثل إسبانيا المعتمدة أساسا على التأمين المغربي لحدوده كحائط صد فعال. وفي هذا الصدد يقول عبد الفتاح إن الأهم يبقى هو ارتباط المغرب والجزائر بأجندات دولية يصعب تجاوزها، من قبيل تفاهماتهما مع شركائهما الأوروبيين والولاياتالمتحدةالأمريكية حول عديد الملفات الهامة، في مقدمتها التنسيق الأمني، ومحاربة الإرهاب، ومكافحة الهجرة السرية والجريمة المنظمة، بالإضافة إلى عديد الشراكات الاقتصادية التي من ضمنها أنبوب تصدير الغاز الجزائري المنتهي عقده والذي يمرّ من المغرب في اتجاه أوروبا. ويضيف المتحدث نفسه، أن أي تدهور للأوضاع الأمنية بالمنطقة سينعكس على الضفة الشمالية للمتوسط "فالأوروبيون لا يزالون يعيشون على وقع تأثيرات انهيار أنظمة واندلاع حروب في بعض بلدان ما يسمى ب"الربيع العربي"، أبسطها تدفق اللاجئين وما أفرزه من صعود اليمين المتطرف في بعض البلدان الأوروبية"، ليخلص إلى أن "الأوضاع الإقليمية المضطربة في الساحل والصحراء لن تشجع الجزائر على المضي قدما في خيار التصعيد مع المغرب، حيث تشهد المنطقة عديد الأزمات المستعرة وفي معظم الجوار الجزائري، خاصة في ليبيا، مالي، وحتى تونس". لا مجال للحسم وتطرح الحرب أسئلة جدية حول قدرة أي من الطرفين على الحسم، إذ بغض النظر عن الخطابات الحماسية التي لم يعد يرددها الإعلام الجزائري فقط، بل امتدت إلى رئيس الجمهورية نفسه، والتي تتحدث عن فارق كبير في القوى لصالح بلاده، على غرار ما جاء على لسانه في حوار مع مجلة "لوبوان" الفرنسية في يونيو الماضي، فإن الانعكاس الحقيقي للقوة العسكرية المغربية يتضح من خلال مرآة جارته الشمالية إسبانيا، التي أصبح مسؤولوها العسكريون وإعلامها يحذرون من تقلص فارق القوة العسكرية لصالح المغرب خلال السنوات الأخيرة. ولا يبدو حسم الصراع من خلال الحرب أمرا واقعيا بالنسبة لعبد الفتاح، إذ "رغم فارق ميزانيات التسليح الجزائري الذي يعتمد بالأساس على المزود الروسي، يبقى ميزان القوة ما بين البلدين متقاربا بحسب عديد التصنيفات الدولية، بفضل صفقات التسليح النوعية التي يعقدها المغرب مع شركائه الغربيين وعلى رأسهم الولاياتالمتحدةالأمريكية، ما يفرز وضعا عسكريا يصعب حسمه لأحد الطرفين". ويحذر الباحث في مجال الدراسات الاستراتيجية إلى أمثلة مشابهة من قبيل حالة الكوريتين وكشمير، وحتى الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، موردا بالقول: "لن يكون هناك أي رابح في حالة نشوب حرب بين البلدين لا قدر الله، باستثناء احتراق ورقة البوليساريو التي لطالما اعتمدت عليها الجزائر في صراعها الإقليمي مع المغرب، حيث ستكون كافة مواقعها الخلفية مكشوفة ومتاحة للجيش المغربي الذي كان يحرص على عدم الاحتكاك ببلدان الجوار ويبقي مجال مطاردة الأهداف المعادية داخل المناطق العازلة شرق الجدار". هل تخوض البوليساريو حربا بالوكالة؟ وفي ظل كل ما سبق، يبقى احتمال لجوء الجزائر إلى خيار "الحرب بالوكالة" أمرا مطروحا من خلال جبهة "البوليساريو" التي تُصر منذ ما يقارب العام على وجود قتال في الصحراء، وهو خيار سبق أن لجأت إليه في حرب الصحراء في السبعينات وكُشف سنة 1976 بعد انتصار الجيش المغربي في معركة "أمغالا الأولى"، وذلك بعد أسر جنود جزائريين عُرضوا أمام وسائل الإعلام لإثبات المشاركة الفعلية للجزائر في تلك الحرب. ويرى سالم عبد الفتاح أن "إعلان جبهة البوليساريو الحرب والتنصل من اتفاق وقف إطلاق النار لم يكن سوى موقف سياسي هدفه نفض الغبار عن ملف نزاع الصحراء، وإخراجه من الأدراج المنسية، لأجل العودة به إلى سلم أولويات الأممالمتحدة والمجتمع الدولي"، مبرزا أن رهانها على التصعيد "أفرز نتائج عكسية تماما، في ظل حالة سخط وامتعاض شعبيين عارمين تعيش على وقعهما ساكنة مخيمات تيندوف". ويقول الباحث الذي انتمى في السابق إلى "البوليساريو" وخبر واقعها من الداخل، أنه "بفضل تصعيد الجبهة تمكن المغرب من تأمين معبر الكركرات، وتمديد جداراته الدفاعية في عديد المواقع العسكرية الاستراتيجية، فضلا عن اتضاح سيطرته الجوية على كامل المناطق العازلة بفضل العمليات النوعية التي يشنها طيرانه العسكري بحسب عديد المصادر الإعلامية، وهو ما أوضحه تقرير الأمين العام الأممي أنطونيو غوتيريش في تقريره الأخير حول نزاع الصحراء". وتابع المتحدث في سياق استبعاده لقدرة البوليساريو على القيام بأي دور مؤثر في الحرب، أن التقرير الأممي أشار إلى ما وصفه "تراجع الأعمال الحربية" للجبهة منذ شهر يناير الماضي وتركزها في منطقة المحبس قرب الحدود الجزائرية، مبينا عدم تجاوزها للشريط العازل، واقتصارها على المنطقة العازلة والغير مأهولة، وبقدرة تفجيرية متواضعة لم تخلف أية خسائر، ليخلص إلى أن كل ذلك "يوضح بما لا يدع مجالا للشك فشل رهان الجبهة على التصعيد، كما يؤكد استحالة المضي قدما في قرار الحرب المعلنة من طرفها".