تنطلق، الأربعاء وعلى الساعة الثانية عشر ظهرا بتوقيت باريس، جلسات أكبر محاكمة ضد الإرهاب في فرنسا، والتي ستدوم 9 أشهر كاملة في مهمة تبدو صعبة للكشف عن الأسباب الحقيقة التي دفعت بمنفذي الهجمات الإرهابية التي عاشتها باريس يوم 13 نوفمبر 2015، للقيام بفعلتهم تلك والتي راح ضحيتها 130 ضحية من 28 جنسية. هل سيتكلم صلاح عبد السلام؟ ينقسم الرأي العام الفرنسي إلى شقين حول الجدو من المحاكمة، وبين من يرى أن هذه المحاكمة ستكشف عن خيوط شبكات إجرامية، لا تزال تنشط وقد تخطط لهجمات جديدة في فرنسا. وبين من يصف هذه المحاكمة بالرمزية، خاصة وأن جميع منفذي العملية لقوا حذفهم أثناء العملية (عددهم 14 متهم)، ولم يتبقى منهم سوى الناجي الوحيد البلجيكي من أصل مغربي صلاح عبد السلام. ورغم أن القضاء الفرنسي يختلف نسبيا عن القضاء البلجيكي الذي سبق وأن حاكم صلاح عبد السلام، إلا أن القانون الفرنسي يعطي الحق للمتهم بعدم الرد على الأسئلة أو حضور جلسة المحاكمة التي تم تخصيص قاعة كبيرة لها، تم تشييدها لمدة سنتين استعدادا لهذا الحدث التاريخي (صلاح رفض التكلم في جلسة محاكمة عام 2016)، وهو ما يقلل من حظوظ أهالي الضحايا من سماع الحقيقة على لسان مرتكبي الجريمة. وحسب ما أفاد به السلطات الفرنسية، فإن الجلسة الأولى ستخصص لقراءة تقرير رئيس المحكمة حول الأحداث، حيث يشمل الملف القضائي ما يعادل أكثر من مليون صفحة من المستندات التي تم الاعتماد عليها لتفكيك تفاصيل الجريمة. كما تشمل الجلسة الكشف عن تفاصيل عمليات التنسيق بين الأجهزة الأمنية الفرنسية والبلجيكية على وجه التحديد، وعدد من الدول العربية في إطار عملية مكافحة الإرهاب، كما تشمل الجلسة تقديم شهادة للرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند وعدد من الشخصيات الأمنية البارزة. ماذا يريد الضحايا؟ ويتوجه لحضور المحاكمة ما يقرب من 1800 جهة مدنية، وتسع القاعة ل550 شخصاً فقط، وسيرافع عن أهالي الضحايا أكثر من 330 محاميا، وسيستمع القاضي وبشكل مباشر ل 300 شاهد على الجريمة، ويقود المحاكمة فريق قضائي متخصصة في مكافحة الإرهاب. ويعتبر المحامي الفرنسي سيدلي آرثر دينوفو وهو أحد الناجين من هجمات باتاكلان، وقد أصبح رئيس جمعية "الحياة لباريس التي تأسست عقب هجمات 2015، أن المحاكمة فرصة لهم للتحدث وبصوت عالي كأطراف مدنية وضحايا، حيث يتم توجيه 20 تهمة للمتهمين وهي تهم تندرج في خانة الإرهاب والقتل والتخريب. وقال سيدلي في حوار مع إذاعة "فرانس كيلتير": "لقد كنا ننتظر هذا اليوم منذ عدة سنوات، سيكون هناك متهمون جدد، ونحن نتطلع للحقيقة الكاملة، لقد عملنا منذ عامين وقمنا بتحضير أنفسنا ليوم المحاكمة، وهذا موعد تاريخي لفرنسا". ويبدو أن عائلات ضحايا الحادث لم يناموا الليلة مرتاحي البالي منذ 6 سنوات، خاصة أولئك الذين شاهدوا بأم أعينهم الجريمة وعاشوا لحظات الخوف والرعب وانتظروا أن يلقوا حذفهم في تلك الساعات المرعبة. وقال المواطن الفرنسي ماثيوس ديبويس الذي عاش هول الهجوم: "سيبقى هذا اليوم محفورا في قلبي للأبد، لا يزال لدي دموع في عيني، كلما فكرت في ذلك اليوم، قلبي وعقلي مع الضحايا وعائلاتهم". وقالت المحامية سامية مقطوف التي تستعد لدخول قاعة المحاكمة للدفاع عن ضحايا الحادث: "كل ما تريده عائلات ضحايا الاعتداء هو معرفة الحقيقة الكاملة، والأسباب التي أدت إلى مقتل أفراد من عائلتهم وسيرتكز النقاش حول شهادات ضحايا الأحداث، ولن تكون محاكمة سياسية بقدر التركيز على الجوانب الجنائية". وبشكل عام يوجد لدى المواطنين الفرنسيين إحساسا من الثقة في العدالة، وهو يمكن ملامسته سواء عبر التعليقات وردود الفعل. كما كتب أحد رفاق الضحايا المواطن الفرنسي لي جونس:" لولا، ماتياس، ماري، توماس، نيك، إليودي، محاكمة منصفة لأرواح رفاقنا في الحفل" مشيرا إلى العدالة في فرنسا بشكل جيد للغاية، والهدف ليس معرفة المجرمين فقط إنما الكشف عن محرك العملية. وتعود تفاصيل العمليات الإرهابية، إلى حدود الساعة التاسعة ليلا بتوقيت باريس من يوم 13 سبتمبر 2015، حيث وقع انفجارين على البوابة "إتش" من استاد فرنسا، ليظهر في الأخير أن الأمر يتعلق بانتحاري ثانيا قام بتفجيره. وبينما كانت الكاميرات تسابق الزمن لنقل ما يحدث في معلب فرنسا، حتى جاءت أخبار أكثر صدما للراي العام، من الدائرة 19 بباريس حيث أطلق ارهابين النار على حانة وسط المدنية، ولاحقا في شارع شارون في الدائرة 11 قتل 19 شخص على إرهابين آخرين وكل ذلك في أقل من ساعة. وقد عاشت باريس يوم 13 سبتمبر، ليلة رعب حقيقية، خاصة في مسرح باتاكلان حيث اقتحم الإرهابيين الثلاثة المسرح وقاموا بإطلاق وابل من الرصاص وقتلوا الجمهور بشكل عشوائي، وهو يرددون كلمات "سوريا والعراق"، لينتهي المشهد حينها بقتل قوات الأمن الفرنسي لجميع مرتكبي الهجمات، ولم ينجوا منهم إلا صلاح عبد السلام الذي لم ينفجر حزامه الناسف. ولماذا الهجوم على فرنسا؟ وينظر خبراء إلى هذه المحاكمة باعتبارها صفحة جديدة للتعامل الأمني والقضائي مع الإرهاب العالمي، ومن شأنه أن يغير المعادلة العالمية والاستخباراتية في التعامل مع التنظيمات الإرهابية. وعلى مدار ستة سنوات عمل رجال المديرية الفرعية لمكافحة الإرهاب بالتنسيق مع المديرية العامة للأمن الداخلي وقسم مكافحة الإرهاب في الشرطة القضائية في باريس على الأرض، حيث تم حشد مليوني شرطي، قاموا بمراجعة فيديوهات المراقبة وجمع الشهادات، ومراجعة الملفات الأمنية. والصدمة التي تم اكتشافها حول هوية منفذي الهجمات، هو تواجد ملفاتهم في التصنيف "أس" للأشخاص المتطرفين الأكثر خطورة، وذلك منذ 2010، وهو الأمر الذي تسبب في موجهة انتقادات شديدة للأجهزة الأمنية الفرنسية، عندما ثبت أن أحد مرتكبي العملية هو من بين الأشخاص الذين حكم عليهم 8 مرات من قبل المحاكم بين 2004 و2010، دون أن يكون قد سجن. وقال الخبير البريطاني نيكولاس بلهام المتخصص في شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لموقع سكاي نيوز عربية: "لقد أصبحت فرنسا العدو الأول لتنظيم داعش، مما وضعها في مواجهة مباشرة مع الخطر الدائم، بحكم موقعها الجغرافي وسهولة دخول أراضيها عبر الحدود البرية، والتنقل من بلد أوروبي إلى أخر، سواء للجهادين من أصل أوروبي أو فرنسية أو غير أوروبية الذي يتعطشون لتوجيه ضربات لفرنسا". وفي السنوات الأخيرة، شاركت فرنسا بأعداد كبيرة لمحاربة الإرهاب الدولي، خاصة ضد تنظيم "داعش" الذي تنظر له فرنسا له كتهديد مباشر لها، فهو بالنسبة لها ظل يشكل أكثر خطورة حتى من تنظيم القاعدة الذي كان يقوده أسامة بن لادن. وقد وجدت فرنسا نفسها في مواجهة مباشرة مع تنظيم داعش عدة مرات، سواء بشكل مباشر ومنظم أو من خلال اعتداءات قام بها إرهابيين بشكل فردي دون الكثير من التدريب أو الإعداد ولكن بخلفية جهادية.