* بينما كان العالم ينظف الشوارع والساحات العامة من آثار الاحتفالات الصاخبة بليلة رأس السنة،تسلل الفيروس القاتل من ووهان الصينية في صمت،دون أن ترصده الكاميرات الحساسة أو الأقمار الصناعية الدقيقة ،ودون أن تعترضه الأسلاك الشائكة أو حتى الأسلحة الفتاكة. وأخذ ينتشر كالحريق في شتى أصقاع الأرض ولم يمنعه الفيتو ولا الناتو‼ فدخل العالم في منعطف خطير تباينت خلاله ردود الأفعال،وتكشفت معه هشاشة التضامن العالمي،وتبادل كبار العالم الاتهامات،وطفت على السطح سياسات الحرب الباردة من جديد،وبدا العالم في الإعلام مرتبكا وعلى وشك الانهيار‼ وبما أننا جزء من هذا العالم فكيف واجهت الدولة هذا الوباء ،وماهي أدواتها في هذه المواجهة؟ وكيف تفاعل المجتمع مع خطاب الدولة ومع الجائحة؟ وهل استحضرت الذاكرة الجماعية للمجتمع المغربي الأمراض الجماعية من الماضي؟ إذا كانت الوظيفة المعنوية هي وظيفة اتصالية ،حيث تصير الدولة مرسلا والمواطن مستقبلا،فإن الخبرة التاريخية التي راكمها المجتمع في علاقته مع الدولة،فيمكن القول بأن هذه الوظيفة الاتصالية هي التعبير الحي على دينامية تلك العلاقة من عدمها.والتي من معانيها تناغم مختلف العناصر التي يتكون منها جسد الدولة والمجتمع في مواجهة الأخطار الجماعية. ويأتي الإعلام على رأس تلك الوظيفة، حيث يكون من حق المواطن العادي أن يطلع بشكل واضح على الأحداث العامة، والمشاكل التي يواجهها المجتمع.وبالتالي تكوين خلفية عامة تسمح بالمشاركة والتفاعل مع قرارات الدولة،خصوصا ونحن بصدد وباء اجتاح العالم،وجعل المجتمعات في مواجهة مباشرة مع واقع صحي مستجد انعكس على الحياة بكل مناحيها. إن الصحة باعتبارها ظاهرة اجتماعية يتم تدبيرها بشكل جماعي ،في إطار مجموعة من الشروط الاجتماعية والثقافية التي يعيش داخلها المجتمع،وبالتالي فلا يمكن اختزال المرض والصحة في البعد البيولوجي فقط.لأن أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية أكبر بكثير من المعطيات البيولوجية.ذلك أن المرض حين يصيب الجسد فإنه يعيد ترتيب علاقات صاحبة وأدواره الاجتماعية ،بل وجميع أشكال وجوده الاجتماعي. وفي نفس السياق يمكن رصد التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية المتتابعة التي عرفتها الدولة المغربية، انعكست على الصحة العامة للمغاربة، اختفت على إثرها مجموعة من الأوبئة والأمراض أثرت بشكل خطير على حياة جماعات وقبائل بأكملها. ( كالطاعون والكوليرا والجذام والجذري والرمد….) ويمكن الإشارة هنا إلى أن الدولة المغربية عملت على إكمال تأهيل القطاع الصحي عن طريق تعميم الخدمات الصحية على كل فئات المجتمع، وإطلاق مجموعة من البرامج الصحية والوقائية استهدفت المجتمع، لكن كان ذلك بشكل متفاوت بين جهات المغرب وأقاليمه. ويمكن اعتبار ذلك استكمالا للبنية الصحية التي بدأها المستعمر الفرنسي .غير أن هذا الأخير كان هدفه السيطرة على جسد المجتمع المغربي. -حيث جعل ليوطي مثلا من الطبيب كتيبة متنقلة نجحت في ما فشلت فيه سرايا عسكرية بأكملها-. فإذا كان المغرب قد تجاوز مرحلة الأوبئة الجماعية القاتلة التي سبق ذكرها،فقد ظهرت أمراض حديثة أعادت تعريف المريض والمرض في المجتمع المغربي،حيث تحول المرض إلى نمط عيش،وأصبح بإمكان المريض الاندماج الجزئي داخل النظام الاجتماعي ،- فمرض السكري مثلا أو السرطان أثرت دون شك على دور الفرد ومكانته داخل المجتمع- وبالتالي فمع انتشار وباء "كرورنا" استدعى المجتمع المغربي الحضور الرمزي ل للأوبئة التي مر بها من ذاكرتهم الجماعية،وذلك كبنيات ذهنية شكلت دائما مرجعيات يبني على أساسها المجتمع معرفته الاجتماعية للصحة عموما،وبالتالي للسلوكات الصحية داخل المجتمع،حيث تزخر هذه الذاكرة الجماعية بأسلوب ولغة التعبير ومعايير ردود الفعل و طبيعة التفاعل والتجاوب مع الخطاب الرسمي حول وباء "كورونا".هذا التفاعل التي تأثر بشكل واضح بتراكم تاريخي طبع القرار الرسمي للدولة تجاه مختلف القضايا المجتمعية،ومدى مشاركة المجتمع في صنع هذا القرار. الأمر الذي جعل نهج الدولة في تدبير الجائحة ،أو ما يمكن تسميته إستراتيجية الدولة في مواجهة الجائحة تبدو ضبابية وغير واضحة بالقدر الكافي، تتجلى أولا في حق الحصول على المعلومة الدقيقة حول الوباء،وعدم تضاربها في الخطاب الرسمي،وذلك رغم أن الدولة المغربية عملت على دسترة تداول المعلومة – ( الفصل 27 من الوثيقة الدستورية 2011)- ذلك أن اطلاع المواطن على المعلومة الصحيحة والواضحة تساهم في إعادة بناء الثقة بين المسؤول على تدبير الشأن العام والمواطن ،وهو ما سيعطي بالنتيجة المصداقية للشعارات التي ترفع حاليا مثل " الصحة العامة مسؤولية الجميع " و " الالتزام بالتدابير الاحترازية لمواجهة كورونا مسؤولية الجميع". ذلك أن تفكيك مثل هذه الشعارات تجعل كل باحث موضوعي يصطدم بحجم المسؤولية الموزعة بين الدولة والمجتمع تحت قاعدة "النسبة والتناسب"‼ وهذا ما يدفعنا إلى مساءلة الواقع المعيش والذي هو في النهاية واقع من صنعنا. فالدولة التي تمتلك أدوات التخطيط والسياسة العمومية والتنمية والحكامة، كانت في كل مناسبة تبشر بجعل القضايا الاجتماعية أولوية إستراتيجية ،وورشا حكوميا دائما يستهدف تجاوز حالة الهشاشة والهامشية التي يعاني منها المجال والمجتمع وضمان الحياة الكريمة من شغل وسكن وتعليم وتطبيب….. ولكن….النزول إلى الشارع العام لرصد من يدفع الفاتورة اليوم بسبب جائحة كورونا؟؟؟ سنسجل دون الكثير من البحث بأنها نفس الفئات الاجتماعية الهشة والمهمشة هي التي تدفع الثمن منذ عقود،وبالتالي جاءت كورونا لتكرس التفاوت الطبقي وتعمق الأوضاع السوسيو-اقتصادية السيئة لتلك الفئات. وفي هذا السياق أظهرت فترة الحجر الصحي وبعدها الطوارئ الصحية مدى البؤس الذي شمل الوزن الأكبر من المجتمع المغربي حيث كان الفرد يدبر خبزه اليومي بكثير من المعاناة والقتالية فيظل اقتصاد الظل.كل ذلك يعطي إشارة واضحة إلى صعوبة العيش الذي أنتجه ضعف الاستثمار العام في الأنظمة الاجتماعية ومنها في حالتنا أنظمة الرعاية الصحية وضعف إنفاق الدولة على الصحة ،الأمر الذي أحدث إختلالات عميقة في البنية الاجتماعية والاقتصادية ،انعكست على الحالة النفسية للمجتمع ككل.وبالتالي فالمجتمع هو الذي يؤدي فاتورة فشل الدولة في القيام بواجبها الاقتصادي والاجتماعي وبالتالي فشلها في توفير الخدمات الصحية لجميع فئات المجتمع بشكل عادل،حيث نلاحظ من أول وهلة هشاشة المنظومة الصحية من مستشفيات متهرئة تعاني من النقص الحاد في الأجهزة والموارد البشرية والأدوات الكافية،وعليه فلا يجادل أحد في ضخامة مسؤولية الدولة في تحمل أعباء تداعيات جائحة كورونا على مختلف الأصعدة.وكذا فالدولة مطالبة بإعادة ترتيب أولوياتها والتحرك على الأرض بأقصى سرعة وأٌقصى جرأة بهدف تأهيل المنظومة الصحية والأمن الدوائي وذلك بتوفير المعدات والرفع من إمكانيات اشتغال الأطقم الطبية ،وفي نفس الوقت مواكبة الفئات الأكثر هشاشة واتخاذ الإجراءات الحاسمة لفائدة الفئات التي تشتغل بالقطاع الغير المهيكل بعيدا عن الخطاب السياسوي المتخشب‼ وذلك في أفق إقرار سياسة اجتماعية عادلة تضمن تكافؤ الفرص وتقلص من الفوارق الاجتماعية الصارخة وتضمن العيش الكريم لأفراد المجتمع. ونحن نعري تخبط السياسات العمومية التي انتهجتها الدولة عبر عقود،لابد أن نشير إلى غياب المجتمع المدني الحقيقي وضعف الأحزاب السياسية وعجزها عن القيام بأدوارها التأطيرية ،وارتباط كل ذلك بشبكة مفاهيمية مركبة كالديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان والحكامة في التدبير…….فحين تؤدي الدولة وظيفتها التي يطالب بها المجتمع،يكون من المفيد الحديث عن المسؤولية التي تقع على عاتق أفراد المجتمع باعتبارهم شركاء في لتصدي للجائحة .فلا يمكن مساءلة الوعي الفردي والمجتمعي والأدوار المطلوبة من مكونات "المجتمع المدني" في التوعية والتحسيس بضرورة الالتزام الفردي والمجتمعي بالتعليمات الصادرة عن الدولة في هذا الإطار،في الوقت الذي نسجل الحال البائس للمدرسة العمومية،وهشاشة السياسات العمومية في القطاع الاجتماعي والاقتصادي ،وعلى الخصوص في القطاع الصحي الذي لايزال هشا في ظل النمو السكاني السريع،مما يتطلب نهج سياسة مستدامة في إطار من العدالة المجالية تهم التعليم والصحة والسكن والتشغيل .وهي المجالات التي تتميز بالهشاشة والتخبط بشكل مزمن. في الوقت الذي أنتج فيه الواقع الاجتماعي المعاصر أمراضا جديدة،واعتبارها اختلالات فردية،وذلك بعد اختفاء الأوبئة الكبرى من الواقع الصحي في المجتمع المغربي،وتراجع مركزها في التمثلات الجماعية والوعي الاجتماعي،أعادت جائحة كورونا إلى الذاكرة الجماعية للمجتمع المغربي التجارب الأليمة التي عاشها،وما رافق ذلك من تمثلات اجتماعية وثقافية ورمزية وأحكام،وتأثير كل ذلك على وظائف وأدوار أفراد المجتمع،وبالتالي البروز الجديد للمظاهر السوسيولوجية والوبائية.ويبقى الفقر والهشاشة والتهميش الذي يعيشه المجتمع – وهي مظاهر خارجة عن البيولوجيا- هي العائق الجوهري في مواجهة حقيقية وفاعلة للوباء القاتل.